RSS

Lincoln - 2012



نور الدين النجار
عام 2010 قدمت بريطانيا الفيلم العظيم خطاب الملك عن سيرة جورج السادس أكثر الملوك الأنكليز شعبية في القرن الماضي في أهم مراحل حكمه مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، الفيلم أبهر كل من شاهده وخرج بـ 12 ترشيح للأوسكار منها ثلاثة لنجومه كولن فيرث هيلينا بونان كارتر و جيفري راش، وفي حفل الأوسكار توج بأربع أفضل فيلم ومخرج وسيناريو وممثل، على ما يبدو أمريكا كان لها غيرتها الخاصة من الحدث السينمائي الإنكليزي الرائع فقدمت سيرة أكثر رؤسائها شعبية في أهم مراحل حكمه مرحلة نهاية الحرب الأهلية وتعديل الدستور الأمريكي وإنهاء العبودية، الفيلم أيضاً أبهر كل من شاهده وخرج بـ 12 ترشيح للأوسكار منها ثلاثة لنجومه دانييل دي لويس وسالي فيلد وجيفري راش، أهم الفوارق بين العملين إن الأول من إخراج الشاب الموهوب توم هوبر والثاني من إخراج الأسطورة الحيّة ستيفن سبلبيرغ ولكن أهم النقاط المشتركة إن كلا الفيلمين لا يستحقان فقط ديزنتا الترشيحات بل يستحقان الفوز بها جميعاً.


بعيداً عن المقارنات بين الأعمال السينمائية فإن ما يقدمه سبلبيرغ في تحفته الجديدة هذه يبدو فتحاً سينمائياً جديداً في مسيرته، الفيلم كان مضمون له النجاح وفوزه بالأوسكار أمر متوقع مسبقاً حتى قبل عرضه، أهمية الموضوع وجاذبيته واسماء صانعيه ونجومه والدعاية المرافقة له كله يكفل ذلك، ولكن الخشية بالنسبة لي كانت بطريقة تقديم سبلبيرغ لعمل سيرة ذاتية بهذه الضخامة والحساسية، فهذه هي المرة الأولى التي يقدم بها بيوغرافيا بحجم لينكولن، قدم سابقاً قائمة تشاندلار وأمسكني إن استطعت على مدة تسعة أعوام بين 93 و 2002 عن شخصيتين من العامة عاشتا حياة استثنائية ولكنهما لم يكونا أبداً إيقونات كلينكولن الذي يعتبر قديس بالنسبة لأمريكا، شخصية كهذه تثير التخوف أثناء التعامل معها بالأخص إن سبلبيرغ ليس بالمخرج الذي يحب صدم المشاهد الأمريكي إلا إذا كان هو يريد الصدمة، رأيناه يقدم وحشية وجرأة وعنف ولكنها كانت دوماً موجهة إما ضد النازيين أو العنصرية، لم يحاول أبداً أن يخالف الاتجاه العام الأمريكي إلا ربما بميونخ عندما قدم من يعتبروا ارهابيين بنظر الشعب الأمريكي كأناس عاديين بل وضحايا لإرهاب حلفاء أمريكا، لذلك كان التساؤؤل هل سيكون سبلبيرغ أكثر ثقة وجرأة بطريقة طرحة سيرة ذاتية ناضجة وإذا فعل فإلى أي حد سيصل؟ بعد مشاهدتي للعمل عثرت على الإجابة ، سبلبيرغ عرف كيف يمسك العصا من المنتصف وأن يقدم بيوغرافية إيقونية جريئة ولكن بأسلوبية شديدة اللطف.
سبلبيرغ يبهرني دوماً بذكائه السينمائي وفي كل عمل جديد له أشعر إن كلمة أسطورة صغيرة على مقاسه، هو كان مدركاً إنه بصنعه لفيلمه هذا عن الإيقونة بطريقة تقليدية إيجابية لن يكون ملاماً أبداً ولكنه لن ينجح بأن يشق طريقه بين الأعمال الخالدة كالملكة وفروست نيكسون، ولكن بالمقابل الشخصية لا تحوي ما يمكن أن يعتمد عليه لصنع محور يعوض عن الجرأة والصدمة ويوجه العمل باتجاه آخر كقضية اللعثمة وعقد الطفولة في الخطاب الملكي، إلا إذا شاء اللجوء إلى الإشاعات والقصص المشكوك فيها عن هووس لينكولن بالخرافات و شذوذه وهذه وصفة غير مستحبة أبداً أو منتظرة للجمهور وكارثة أوليفر ستون مع الأسكندر ما زالت ماثلة في الذاكرة، ربما لأجل ذلك انتظر 12 سنة حتى حقق حلمه بصنع فيلم عن إبراهام لينكولن حين قدم له توني كوشنير (أحد كتاب فيلم ميونخ) نصه المذهل عن الأيام الأخيرة لولاية لينكولن الثانية.
العمل الإبداعي في نص كوشنر والذي بنى عليه سبلبيرغ إنجازه العظيم هو إنه لم يسجن نفسه في إطار لينكولن الأيقونة لينكولن الرمز، التاريخ والإنجازات التي ترتبت على قرارته الجريئة هي ما صنعت أهميته التاريخية ولكنه قبل ذلك هو مجرد إنسان تمسك بفكرة وأراد تحقيقها وهذه كانت النقطة الأولى، النقطة الثانية هي الفكرة التي آمن بها، لينكولن أراد بشدة إنهاء العبودية في أمريكا ولكنه لم يكن مهتماً بإنهاء التفرقة العنصرية وهذه حقيقة تاريخية لم يتجاهلها كوشنر و سبلبيرغ ، لينكولن أراد إنهاء العبودية ليس لإيمانه المطلق بقضية الزنوج بل لأنه أرادها كوسيلة لضمان وحدة أمريكا وإنهاء حالة الحرب الأهلية فيها، إنها العبودية سيضمن ولاء مئات الألوف من السود لحكمه وسياسته القائمة على وحدة أمريكا وعدم أنقلاب الجنود السود المحررين بعد انتهاء الحرب وعودة الوحدة مع الجنوب مجدداً، عدا إنه وسيلة ناجحة لضمان تفكك القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية لقوى الجنوب الانفصالية وإنشاء نسيج اجتماعي موال له ولفريقه، لذلك كان مصراً على اتباع سياسة إعمارية اقتصادية جديدة تنهض بمجتمع السود الجديد ولا ترميهم للضياع بعد الحرية، بالإضافة إلى أمر هام ركزا عليه وهو حرصه على الحفاظ على هيبته كرئيس قام أثناء الحرب بتحرير ألوف السود ليقاتلوا معه ويرفض إعادتهم للعبودية بعد النصر.
هذه الفكرة التي قدمها كوشنر صادمة جداً وسبلبيرغ لم يخجل من تقديمها بل قدمها بطريقة ذكية وملطفة دون الإيغال بالميكيافللية والأنانية السياسية التي قد تجعل لينكولن مستغلاً لقضية العبودية فقدما بنفس الوقت الدوافع الإنسانية، شعور لينكولن بالوفاء للسود الذين قاتلوا معه رغم العنصرية من حلفائهم، عدم إيمانه بجدوة العنصرية في مسيرة صنع دولة عظيمة، وعدم تفهمه وإيمانه بضرورة العبودية ومنطقها، بالإضافة إلى التركيز على حرصه الشديد لتحويل أمريكا إلى دولة عظيمة وإنهاء الحرب وقيام الوحدة فكانت قضية إنهاء العبودية اشبه بحركة تحرر اجتماعي وبداية طريق أمام صنع شكل جديد ديمقراطي لدولة أراد أن يصنع عظمتها.
سبلبيرغ يبدع بالمزج بين الدافعين الإنساني والسياسي دون إظهار أي تناقض أو إغفال دافع لصالح آخر، بل إن كوشنر يضيف عليه الدافع الذاتي الخاص فاقتحم الحياة العائلية الخاصة للينكولن، اقتحاماً ليس غرضه فقط الإيغال بصنع صورة إنسانية للينكولن وإضاءة على حجم الضغوط التي يعيشها مع وفاة ابنه البكر وجموح ابنه الثاني وعصاب زوجته المثكولة في فترة سياسية صعبة جداً، بل إنه حول ذلك كله إلى دافع إضافي وهام جداً للإسراع بإنهاء الحرب ومنع اي فرصة مستقبلية لنشوبها حرصاً على حياة أبنه وعدم المخاطرة به.
النفطة الثالثة التي عمل عليها كوشنر وسبلبيرغ بعبقرية هي وسيلة تحقيق لينكولن للفكرة، هو لم يعمل فقط على الإقناع والتوعية وجمع الحلفاء، بل هو لجأ إلى كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة الابتزاز التهديد الرشاوي الوعود بالمناصب بالإضافة إلى الاقناع، مسيرة لينكولن وفريقه لم تكن نظيفة بالكامل وسبلبيرغ بأسلوبيته الرائعة يجعلها مقبولة جداً للمشاهد ومؤيدة بالنسبة له من تأييده للفكرة التي يدافع عنها لينكولن، هذا الجانب من القصة أعطى كوشنر مساحة واسعة لتقديم فكرة صراع المبادئ مع السياسة كيف يتلاعب السياسي بمبادئه ويقولبها لتناسب طموحه السياسي ويستغل السياسة لتحقيق مبادئه أيضاً، وهنا كان هناك فرصة لبناء عظيم لشخصية ثانوية رديفة لشخصية لينكولن هي شخصية تيودوس ستيفنز (توم لي جونز) دعمت القصة بجوانب أخرى، ولكن حتى هذا المحور قدمه سبلبيرغ لطيفاً وهذا هو مأخذي الوحيد على العمل، كنت اتمناه لو كان أكثر صرامة وجرأة وأقل لطافة ولكن مع ذلك فما شاهدناه على الشاشة مقبول جداً ومناسب بالأخص لأهمية الشخصية وأهمية القضية التي يدافع عنها.
تفاصيل حياة لينكولن الخاصة وانعكاسها المتبادل مع الحياة العامة وتأثير الحياتين على بعضهما قدمه كوشنر بطريقة مبهرة وأحياناً صادم بالأخص بعلاقته بزوجته ساهم بصنع صورة شديدة الإنسانية للينكولن دون كسر الرمز والقيمة، هنا الثناء الكبير يناله النص  ولكن الثناء الحقيقي يعود لدانييل دي لويس ، بريطانيا هنا حققت انتقامها الكبير من أمريكا فبعد أن قدمت تلك أفضل ممثلاتها ميرل ستريب لتؤدي دور أول رئيسة وزراء بريطانية وتنال عنه أوسكارها الثالث قامت بريطانيا بأرسال أفضل ممثليها ليؤدي دور أهم رئيس أمريكي وينال عنه أوسكاره الثالث أيضاً، دي لويس بأدائه الذكي والعبقري جداً يتجاوز حدود النص وحدود الصورة ويقدم ما لم يجرأ لا كوشنر ولا سبلبيرغ على تقديمه، يجعلنا ننسى تواجده ونشعر بوجود لينكولن على الشاشة حتى بلحظات صمته، هنا نحن أمام شخص يرزخ تحت جبل من الضغوط ، يبدو شخصاً يوشك على الإنفجار أمام أقل موقف استفزازي ولكنه يصر على التماسك وضبط أعصابه والظهور لطيفاً ومتواضعاً مع الجميع، شخص يعاني من كبت عميق وصعب لردود أفعاله وأنفعالته يعوضها بقناع الطيبة ووراء هذا القناع يحمل قسوة وبطش شديدين يضبطها بصعوبة ولا يمانع في لحظات معينة من إظهارها بشكل وحشي مرعب بالأخص بمشاهده مع زوجته التي كشفت الكثير عنه ، لينكولن الذي قدمه دي لويس يعاني من شرخ هائل في حياته العائلية الخاصة ومن ازمة سياسية خانقة تجعلنا نقدر هذا الشخص الذي لم تفقده الظغوط صوابه وبقي متمسكاً بحكمته وهدوءه ولطفه حتى تحقيق هدفه، دي لويس ومن هذه الأرضية يبهر بتقديم حكمة لينكولن وذكائه السياسي وهيبته ورهبته وقيادته ، مجاملته وتواضعه وغضبه وأنفعاله، أسلوبه الخطابي المميز وتعامله مع الجميع وكسب ودهم في طريقه لبناء الدولة وصنع الهيبة الرئاسية، دي لويس أبدع باللعب على الإنفعالات الداخلية مع الأداء الخارجي الصوت كان مميزاً جداً وهاماً للشخصية ودي لويس نجح بالحفاظ عليه ولم يفقده طوال العمل ولا بأشد لحظات الأنفعال وكأنه صوته الحقيقي، المشاهد التي يفقد بها لينكولن أعصابة غريبة وعظيمة جداً تجعلنا ندرك إن هذا الشخص لطالما كان ممثل بارع يعرف متى يغضب ومتى يكون متواضعاً وكيف يستغل الطريقتين ليحقق ما يريده.
هذا العمل شهد حالة نادرة إنه ربما الفيلم الوحيد الذي لا يهيمن به دي لويس على الشاشة ويطيح بجميع الممثلين، فرغم ريادته الأدائية كان للممثلين الثانويين حصة من العظمة، الأسطورة سالي فيلد ذات الأوسكاريين تقدم أداءً عظيماً وصعباً في المزج بين الأم المفجوعة المشرفة على الجنون وواجبات زوجة الرئيس في مرحلة صعبة ومعقدة جداً وخوفها وحرصها على مصير ابنها الآخر، توم لي جونز مبهر جداً ويقدم شخصية متناقضة في صراعها بين الأفكار التي تؤمن بها والأساليب السياسية التي تتبعها، وعلى درجة أقل جيمس سبيدر وهال هولبيرك وديفيد ستراثيرن يقدمون أداء جيد، أما جوزيف جوردن لوفيت و جاك ايرلي هيرلي فكانوا أقل فعالية في العمل.
باعتقادي كان سبلبيرغ محقاً بانتظاره طوال هذه السنين حتى يعثر على سيناريو كإنجاز كوشنر الرائع ، ليس فقط على صعيد كسر الحاجز بين الرمز والإنسان ولكن لإن كوشنر يبدع بكسر حواجز الزمان بإيغاله المفرط الممتع والمشوق بتفاصيل تلك المرحلة، الاعتناء برسم الشخصيات جميعها، تقديم أقل تفاصيل الحدث وبصورة شديدة التبسيط للمشاهد، كسر حاجز التوثيقية ليقدم عمل درامي حقيقي ممتع ومشوق وحوارات جذابة جداً بالأخص بين لينكولن وزوجته.
سبلبيرغ قدم بهذا العمل إنجازه الإخراجي الأهم منذ إنقاذ الجندي رايان وعملاً إخراجياً شديد النضج والذكاء، بعيداً عن إبهاره التقني ولطافته المعتادة يركز هنا على الشخصيات والحبكة والقصة والمحاور الدرامية، يقدم هنا قوة درامية خالصة لم نرى مثلها توجهاً في سينماه منذ قائمة تشاندلار، يبدع عنا بالتحكم بعمله والموازنة بين قيمة الشخصية التاريخية ورمزيتها وبين صنع عمق درامي إنساني واقعي وجريء لها دون أن يحط من قيمتها أو يجعلها مقدسة، يصنع إيقاعاً مميزاً في السرد وملفتاً لنظر المشاهد رغم احتياجه لبعض السرعة والإثارة أحياناً، يركز هنا أكثر من اي مرة سبقت على أداء ممثليه ويركز على أصغر تفاصيل الأداء والشخصية حتى لممثليه الثانويين، ورغم حرصه على التجديد سواء بموضوع المعالجة أو التمثيل ولكنه بقي مخلصاً لسينماه من خلال حرصه على تلطيف الحقائق دون جرحها أو جرح التاريخ، وضع مشهد عاطفي متقن ومثير في لحظة التصويت، وتجنب بذكاء عرض مشهد اغتيال لينكولن حتى لا يكون رثائياً أو مبالغاً بعاطفيته، تقنياً كان مبهراً كعادته فريقه السينمائي الرائع ساهم بصنع تحفته، الإخراج الفني والأزياء والمكياج كانوا بالقمة أعطى صورة رائعة وواقعية وملحمية لأمريكا القرن التاسع عشر، والمكياج والملابس أعطى لكل شخصية هويتها الخاصة وميزتها، التصوير مبهر بإضاءة الشموع والألوان الطبيعية أعطى جمالية بالغة للعمل وحول العديد من المشاهد على لوحات طبيعية، المونتاج من مايكل خان مبهر كسر حاجز الشكل المسرحي وقدم حيوية بالغة للعمل، وموسيقى جون ويليامز لا تفارق الذاكرة، سبلبيرغ قدم مع طاقمه ملحمة يستحق عنها الأوسكار الثالث، ربما ليس أفضل أعماله الدرامية بوجود قائمة تشاندلار وإنقاذ الجندي رايان ولكنه أفضل بمراحل من ميونخ وحصان الحرب واللون القرمزي وأحد أفضل أفلام العام.
10 / 10 

0 التعليقات:

إرسال تعليق