RSS

Life Of Pi - 2012


نور الدين النجار
بعد غياب ثلاث سنوات يعود التايواني القدير إنغ لي ليخترق عوالم سينمائية جديدة، الفيلسوف العجوز الذي غاص في البيئة الارستقراطية الإنكليزية وحلّق مع مقاتلي الواكسيا الصينيين وبحث عن الإنسان داخل البطل الخارق وعرض الخيط الفاصل بين الحب والشذوذ والحب والخيانة في عمليين ظفرا بأسدي فينيسيا الذهبي خلال ثلاث أعوام ، يختبر هذه المرة الضياع مع شاب هندي ونمر في المحيط الهادي ضمن تقنية الـ 3D  ويجدد البحث عن علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين وبالطبيعة ويحاول تقديم دراسة حقيقية وجريئة لعلاقة الإنسان بربّه .
 
إنغ لي قدم أحد أكثر الأفلام فلسفية وروحية، كما فعل العام الماضي تيرانس ماليك في تحفته شجرة الحياة يلقي الضوء على حجم الإنسان بالعالم وعلى صلته بالطبيعة والآخرين وبربّه، بالقوة المهيمنة على هذا الكون بغض النظر عن مسمياتها وكنهها بمختلف المعتقدات الدينية، قصة بي الشاب الهندي الذي يبحث عن السلام بداخله من خلال الرب، يحاول أن يتحراه من خلال اتباعه ثلاث معتقدات مختلفة البوذية والمسيحية والإسلام، يحاول أن ينحي الخلافات والتناقضات بينها جانبياً ليكوّن صورة مرضية عن المعبود وعن السلام الداخلي بداخله ليعكسه كسلام خارجي على العالم ، يتواصل مع الطبيعة ويتعايش معها ليتحول إلى نباتي ويكوّن صداقة مع مختلف الحيوانات، وأثناء هذا البحث يدخل بتجربة روحية صعبة وعميقة جداً تضعه وجهاً لوجه مع الرّب، يلمس مدى محدوديته وضآلته في العالم ومدى حاجة الإنسان كأي مخلوق آخر إلى الله، يلمس العناية الآلهية  الحقيقية ويكسر حاجز الخوف والتواصل مع الآخرين والطبيعة ويحقق السلام الداخلي المنشود.
الفيلم ليس فقط عن توق الإنسان للرب والسلام، بل عن تواصل الإنسان مع الطبيعة وحاجته لها، حاجته الماسة للآخر حتى لا يكون وحيداً وحاجة الآخر له في نفس الوقت، في القارب لا يشارك بي عزلته ولا يقاسمه إياها سوى نمر، حيوان مفترس ضاري يبدو محتاجاً لبي وخائفاً منه بقدر حاجة بي له وخوفه منه، يحملان الكثير من النقاط المشتركة كلاهما بحاجة للآخر ولشريك يقاسمهما العزلة، كلاهما يواجها الموت سويةً، وما ينشئ بينهما هي صداقة حقيقية، هي تواصل كوني لا إنساني، هي استعادة لتجربة الإنسان الأول الذي هبط على الأرض لأول مرة ولم يجد فيها شريك يسليه وينسيه عزلته ووحدته سوى الطبيعة وحيواناتها ، هو رؤية لمدى محدودية الإنسان في عالم يعتقد إنه يهمن عليه وإنه الأقوى به ويعرفه جيداً رغم إنه في الحقيقة بغاية الضآلة والمحدودية والجهل والحاجة له، كحاجته للرب الذي تتجلى قوته ومقدرته وعظمته بمختلف جوانب الطبيعة ، في مخلوقاته التي لا تحصى في عواصفه التي لا تقهر، في قوته التي تنبعث في الإنسان وتجعله يصمد رغم كل المآسي والصعوبات التي يواجهها.
العمل هو رؤية عظيمة لغريزة البقاء ، لتلك الحاجة الماسة للنجاة وتلك القوة التي تنبعث بداخل الإنسان وتجعله يتماسك ويناضل ويتحدى المستحيل للبقاء والمحافظة على استمراريته، العمل يحول القارب وبي والنمر وحمار الوحش والشمبانزي والضبع إلى صورة مصغرة للعالم، عالم يتحدى به القوي الضعيف، عالم حافل بالتحديات والمواجهات يشق بها الإنسان الهزيل طريقه بصعوبة وضراوة ليصبح الحاكم له ظاهرياً ولكنه الناجي الأضعف باطنياً ، عالم يجب على الإنسان أن يقهره ولكن أن يتواصل معه أيضاً، أن يحافظ عليه حتى يستطيع النجاة.
الرحلة المذهلة التي يقدمها إنغ لي بحثاً عن السلام الداخلي يرافقها رحلة بحث عن الشر الحقيقي، يظهر إن الشر بالعالم داخلي منبعث من الإنسان نفسه وأطماعه ومخاوفه وجبروته وعدم تفهمه للعالم وتعبيره الوحشي عن الحاجة للبقاء والاستمرارية حتى لو كانت من خلال الصعود على الأخر مهما كان هذا الآخر، تركيز إنغ لي على فكرة الشر الداخلي في الإنسان يستخدمها كوسيلة للتعبير عن حاجته للرب، حاجته لتلك القوة المهيمنة العظيمة التي دفعته لابتداع الأديان والأرباب قبل نزول الرسالات السماوية، حاجة لا تعني فقط تفسير للكون والنشوء والموت، بل حاجة لكبح جماح شره الداخلي ، للعثور على الغفران، للشعور بالأمان وإن هناك من يرعاه في كل مكان ويقوده للنجاة، ربما لم تعطى هذه الفكرة مساحتها الكافية على التوازي مع مساحة الأفكار السابقة ولكنه يعبّر عنها بطريقة جيدة ومقبولة إلى حد ما.
الفيلم عانى من طول في الفترة التمهيدية له، بالأخص إن المشاهد يكون منتظراً الرحلة والنمر وهي الأمور الأكثر تشويقاً في العمل، ولكن لي عوضها بجودة الفكرة والطرح وبالمؤثرات البصرية الممتازة حتى في المشاهد العادية التي لا تحوي أرضية لتقديم مشهد بصري مبهر، إنغ لي يصنع من كل مشهد لوحة بصرية وتقنية مبهرة، يبدع صورة عاطفية مذهلة، فلسفة بغاية العمق وعاطفة بغاية الرّقة والشاعرية، يستعمل تقنيات الـ الـ 3D  لا ليقدم فنتازيا أو خيال علمي أو مغامرة بل ليقدم دراما إنسانية خالصة حقيقية لا يمكن تقديمها بهذا العمق بدون الصورة الثلاثية الأبعاد، إنغ لي لا يبدو مهتماً بالاستعراض التقني الذي يبدع به، بل يهتم ليوظف التقنيات لخدمة الفكرة والفلسفة، لا ليبهر الجمهور بصرياً فقط بل ليدخل إلى أعماقه وفلسفته ويجعله يبحث كبي عن معنى لوجوده بهذا العالم، إنغ لي لا يبهر فقط في الصورة الثلاثية الأبعاد بل بكافة الوسائل التقنية السينمائية التصوير الخلّاب والمونتاج الأنيق والموسيقى الشاعرية المؤثرة مع امتزاج بأداءات ممتازة من ممثليه وحيواناته المصنوعة رقمياً ضمن نص متماسك وخلّاب جداً وأنيق جداً .
9 /   10

0 التعليقات:

إرسال تعليق