RSS

Amour - 2012



بعد انتهائي من مشاهدة رائعة مايكل هانك هذه استعدت الشعور الذي عقب مشاهدة تحفته السابقة الشريط الأبيض، شعور عارم بالصدمة ممزوج بشيء من التواضع أمام عظمة غير مفهومة، شيء يعشعش في الدماغ ويسيطر عليه حتى يغدو هو كل تفكيرك واهتمامك وشيء تشعر به تماماً وعلى يقين تام بعظمة ولكنك لا تفهم لماذا أو لا تستطيع أن تشرح لماذا؟ وبعد المشاهدة التالية تيقن تماماً إنه إنجاز فنى عظيم ، إنجاز فنى بغاية الصعوبة ، من الصعوبة مشاهدته ومن الصعوبة شرحه ولكن هانك صنعه بغاية البساطة وأنت تستسلم لعظمته بغاية البساطة حتى لا تستطيع أن تتخلص من هيمنته على عقلك، ولأجل ذلك مايكل هانك مخرج عظيم ولأجل ذلك فيلمه الآخير الحب – love  - Amour  فيلم عظيم .


الفيلم لا يحوي أفكار ضخمة كلتي قدمها هانك في فيلميه السابقين (اختباء و الشريط الأبيض) (مخلفات الاستعمار الفرنسي لأفريقيا و نشئة جيل النازية) بل يدخل بموضوع اجتماعي إنساني بحث عن عجوزين في الثمانين من العمر يواجهان محطتهما الأخيرة مع تعرض الزوجة لجلطة دماغية ثم شللها ودخولها في عالم الخرف وإصرار زوجها على الاعتناء بها حتى النهاية ، رغم عاطفية القصة وبساطتها ولكن هانك يبدع بتحويلها لملحمة عن النفس الإنسانية ومشاعرها المتضاربة، يجعله محاضرة مبسطة ووافية في نشوء الشخصية الإجرامية العاطفية، وفي دوافع الجريمة العاطفية، يجعله إعادة تعريف لمعنى الحب وتناقضاته يظهره بصورة واضحة جلّية ، قمة العطاء والتضحية والتفاني وقمة الأنانية والاستحواذ والهيمنة، ويدخل بنفس الوقت بعالم الاحتضار ومعاناة شخوصه حتى نكاد نشعر بها ، هو ليس ملحمة عاطفية شاعرية بل ملحمة عن العواطف والمشاعر عن الكره والضيق والأنانية والاستحواذ والتضحية والتفاني والإيثار والأهم الحب سيد المشاعر الإنسانية.
فيلم يبدو متشعب جداً وشديد الغنى حتى لا تكاد تعرف كيف ومن أين تبدأ بالكتابة عنه ربما لأجل ذلك أحب أن أبدأ بالحديث عن المشهد الأول اكتشاف جثة الزوجة، التي تظهر مجثاة ضمن طقوس غرامية شديدة الولاء بين عشرات الورود كجثمان محارب فايكنغ يخوض رحلته نحو الخلود، ثم نعود إلى بداية الأحداث ومشهد العرض الموسيقي ، مشهد بصورة متسعة مزدحم بالكومبارس تبدو به الشخصيتين الرئيسيتين ضائعة بين الحشود ولا تكاد تميزها، وكأن هانك يقول إنهما شخصيتان عاديتان جداً يمكن مقابلتهما بأي مكان، نجم العرض الموسيقي يغادر حشود معجبيه ليقترب من آني (ايمانويلا ريفا) البطلة، ويقدم لها التحية كمعلمته الأولى لتشعر بمدى أهمية الشخصية والقيمة التي تحظى بها ، ثم يدخل هانك بالحدث الرئيسي مباشرةً تصاب أني بجلطة دماغية يؤدي إلى شللها النصفي، يعد الحدث مزلزلاً لتلك العائلة الصغيرة ولكن الزوج جورج (جان لويس ترايتينان) يقرر أن يواجه هذا التحول حتى النهاية، يعتبر ما يجري فصلاً جديداً في حياتهما الزوجية كإنجاب الأولاد واستقلالهم والتقدم بالعمر، تحول جديد يجب عليهم التأقلم معه لذلك يقرر أن يسخر حياته بالكامل للاعتناء بها ويرفض بناءً على طلبها إيداعها بالمشفى أو بدار عناية بالمسنين ، أني تعتبر المرض ككسر لكبريائها ترفض الحديث عنه أو مناقشته وتترجى زوجها ألا يدخلها المشفى ولكنها بنفس الوقت لا تستحمل أن تكون عالة عليه لذلك  تلح عليه مراراً برغبتها بالموت، تشعر بحالة مريعة من الذل والهوان وهي تفقد قدرتها على القيام بأبسط أعمالها اليومية وتفقد أقل قدراتها، تتأمل بحسرة ألبوم صورها القديمة تودع بها الإنسانة التي كانت عليها التي أحبتها لتستقبل تلك الإنسانة الجديدة التي ستقيم غصباً بداخلها.
جورج يحاول دوماً إشعارها إنها لا تشكل أي عبئ عليه ويتجاهل طوال الوقت طلبها الحصول على موت مشرف، يبدو موقفه في البداية بالإصرار على العناية بها دافعه الحب وهو كذلك فعلاً، ولكن الأمر مع الأيام يصبح أصعب من ذلك، يصبح أكبر من قدرته على الاحتمال ولكنه يكابر ويشعر بمرضها يخنقه ويسحبه معها إلى مناطق مجهولة ومظلمة بداخله حتى تحول تلك الضغوط المستمرة معاملته الحنونة إلى قسوة بالغة ويبدو ذلك منسجماً مع ما تصفه به زوجته (وحش لطيف) – والممثل المخضرم  جان لويس ترايتينان يبدع فعلاً بأدائها بصنع وحش لطيف – وهو يبدو فعلاً شخص تمتزج به القسوة الداخلية البالغة مع اللطف الظاهر الذي ينبعث من حب عميق لزوجته، ما يبدأه جورج من اعتناء بدافع الحب النقي الخالص يتحول عنده إلى أسلوب عيش، هدف بحياته ووظيفة يمارسها تشعره بالأهمية والقيمة، بالأخص إننا طوال العمل لم نشعر بأهمية هذا الشخص أو أنه كان ولو لمرة بحياته مهماً، كل الأضواء كانت مسلطة على زوجته كل الاهتمام كانت تناله وهو على هامش الصورة، والآن جاءته فرصة ليكون هو المتحكم هو المسيطر ، لتكون هي بحاجة إليه .
ما يقوم به جورج يشعره بشيء من راحة الضمير اتجاه زوجته ولكن المبالغة به يوصله لدرجة الهووس ، يتحول اعتنائه بزوجته إلى هدف بحياته لا يستطيع بدونه أن يعيش ، وكأن إصرار ابنته على إيداع زوجته بالمشفى هو تشكيك برجولته وبحبه لها، وكأن المشفى هي غريم له يريد أن ينازعه على قلبها، وكأن ما يحس به هو غيرة عمياء من كل ما يحاول الاعتناء بها رغم كل ما يسببه ذلك من ضيق يخنقه، ليصبح الأمر أشبه بانتقام هي تأسر حياته وهو يأسر حياتها ويعزلها عن الجميع، أمر تصبح به الحياتين مرتبطتين ومتصلتين سويةً لا يمكن فصلهما لأن ذلك يعني تدمير عمر كامل وتاريخ كامل عاشاه سويةً، ولكن حين يلمس (جورج) مدى المآساة التي تعيشها زوجته، يدرك إن الفتاة التي أحبها وعاش معها لعقود ذهبت وما بقيّ الآن هي إنسانة تعاني تتألم وتقتله معها لذلك يبادر لقتلها، قتلها استجابة لرغبتها الأولى منحها نهاية مشرفة تخلصها من ذلّ المرض والهوان الذي تعيشه بعد أن خسرت كل شيء، قتل يعني فقده للإنسانة الوحيدة التي أحبها بصدق وشاركته كل شيء ولكنه ضروري لأجله وأجلها لتحريرهما من هذه المآساة ، قتل لا يأتي دافعه من الكره أو الطمع أو الأنانية، قتل يأتي دافعه الحب الذي انتصر في قلبه نحوها فمنحها نهاية مشرفة من كل ما تعانيه، ليصبح العمل انتصاراً للحب على كل النزعات السلبية بداخله.
مشهد القتل كان صادماً جداً ضمن أسلوبية هانك المعتادة بتقديم صفعة للمشاهدة أثناء العمل (الانتحار في اختباء وصلب العصفور في الشريط الأبيض) مشهد مفاجأ بدون تمهيد مباشر ولكنك تجده مقبولاً مع السياق العام للعمل، تشعر إن العمل لا يمكن أن ينتهي سوى هكذا وليس كما قد يعتقد البعض أنه بتره فجأة بل لم يعد هناك شيء يمكن أن يقال في تلك الحالة المزرية التي وصلت لها الزوجة فكان لا يد من موتها ، هو النهاية المثالية للأحداث، جورج وهو يجلس أمام زوجته التي تأن يحادثها فلا ترد ، لا تتذكر ولا تعي ما تقوله، يلمس حجم المعاناة التي وصلت لها فيتخلص من أنانيته والاستحواذ عليها ويقرر بلحظة تخليصه وتخليصها ليحرر زوجته من جسد الإنسانة المنهكة التي لا يعرفها، وربما رأى إنه لم يعد يستطيع الاعتناء بها أكثر فقتلها حتى لا يخسرها ليكون قلبها حب من نوع آخر، قتل للاحتفاظ بالأخر وعدم تخيل وجود أحد أو شيء يشاركه بها .   
في النهاية بظهر هانك الموت أيضاً لحظة تحول جديدة بحياة أني وجورج ، يظهر جورج وكأنه أصيب بالجنون حيث يتواصل مع زوجته بالرسائل ويتخيلها معه ويذهب معها، هي ستبقى معه دوماً وستبقى زوجته وحبيبته الوحيدة ولن يفرقهما شيء حتى الموت.
هانك صنع عملاً بغاية العاطفية مليء بالحب وموضوعه الحب رغم إنه يهجر كل المؤثرات العاطفية التقليدية في السينما حتى الموسيقى ، ولكنه يبدع بصنع التأثير العاطفي من خلال أداء بطليه العظيمين، ايمانويلا ريفا و جان لويس ترايتينان  يقدمان عاطفية أدائية عالية تؤثر بالمشاهد وتصل إليه، يبدوان منسجمان جداً وكأنهما فعلاً زوجين قضا عقود مع بعضهما وأدائهما شديد العفوية ومليء بالارتجالية، يقدمان أدائين مذهلين ومتكاملين يقودان العمل ويضخاه بجرعة شديدة العاطفية ، جان لويس ترايتينان كان يستحق الترشيح للأوسكار يظهر تناقضات الشخصية وتخبطاتها وانجرافها نحو الجنون بإبداع بالغ، ايمانويلا ريفا تستحق لقب ممثلة العام تجعل المشاهد يشعر فعلاً بآلمها الجسدي والنفسي الذي تعيشه الشخصية وانجرافها نحو الانحدار الكامل من قمة الرقي والإشراق الذي كانت به.
هانك يصنع عملاً غريباً عن كل التقاليد السينمائية يبدو فيلمه وثائقياً تسجيل ليوميات الزوجين بطريقة الكاميرا المنزلية، بل إنه يزيل الحاجز بين المشاهد والفيلم ليجعلنا أبطال غير مرئيين بالعمل، الحوارات فيه مختصرة وبعيدة عن التأثير العاطفي دون لحظات بكاء أو انفجار أو رثاء درامي ، رامياً التأثير العاطفي على أداء ممثليه الممتازين جداً، امتياز العمل يعود بالدرجة الأولى لأداء ممثليه وللنص ثانياً، النص شديد البساطة مجرد سرد ليوميات العجوزين بلا تحولات أو تطورات واضحة ولكنه مليء بين ثناياه بعلاقات ومشاعر إنسانية شديدة التناقض والتعقيد .
قد يشعر البعض بأن العمل بحاجة لشيء من الجرعة العاطفية ولكن حين أفكر بهذا لا أشعر بهذه الحاجة، إنجاز هانك يبدو تجريباً بضخه جرعة عاطفية قوية دون أي مؤثرات عاطفية وبالاعتماد على أداء الممثلين فقط ليكون انتصار للمسرح على السينما التقنية رغم جودة التصوير والمونتاج في عمل يوجد به الكثير للكتابة عنه عمل يبدو فعلاً يستحق أن يكون أفضل فيلم لهذا العام .
10 / 10 

0 التعليقات:

إرسال تعليق