RSS

Silver Linings Playbook - 2012


 
نور الدين النجار
ديفيد أو رسيل يكافح بشدة ليصبح من الاسماء الهامة في تاريخ الإخراج الأمريكي وهو يسير نحو ذلك بخطوات مدروسة وممتازة، قبل عامين نال ترشيحه الأول للأوسكار عن فيلم The Fighter  قصة حقيقية رائعة عن اتصال الفرد بعائلته ومجتمعه ونضاله للنهوض منها وبها، الفيلم توج بجائزتي أوسكار للأداءات التمثيلية الجبارة التي قدمها كرستيال بيل وميليسا ليو و كان من المتوقع بعد نجاحه الكبير أن يدخل أو راسيل بدائرة الغياب ولكنه وبشكل مفاجئ عاد واكتسح الساحة مجدداً بفيلم يحوي نفس الصيغة التي جذبت الجمهور له سابقاً، قصة عائلة ومجتمع، مرض نفسي ، علاقات حميمة ، رياضة ، حياة بمنتهى الواقعية وأربع أداءات تمثيلية مبهرة استحقت أربع ترشيحات للأوسكار في جميع الفئات في ظاهرة لم تتكرر كثيراً بتاريخ الجائزة.


بيت (برادلي كوبر) يعاني أزمة نفسية حادة بعد خيانة زوجته له وانفصاله عنها، أخرجته والدته (جاكي ويفير) من المصح النفسي ليعود ويتواصل مع العائلة ويحصل على الرعاية بكنفها ، والده روبيرت دي نيرو يحاول جاهداً التواصل معه لإنقاذه من كآبته من خلال إدخاله بعالم المراهنات على مباريات كرة القدم أما هو فلا يريد سوى تحسين ذاته وإعادة التواصل مع زوجته والارتباط بها مجدداً وعودة كل شيء إلى مجراه الطبيعي، يلتقي بـ تيفاني (جينفر لورانس) فتاة تعاني اكتئاب بعد وفاة زوجها وتحاول تجاوز تلك المحنى بالعلاقات العابرة أولاً ثم بالإنغماس بمسابقة رقص تدخل بها بيت معه مقابل وعد بإيصال رسالة منه لزوجته السابقة.
الفيلم لم يقم فقط أو راسيل بإخراجه وإنما بكتابة نصه السينمائي أيضاً، هو إنجازه الفني الخاص وربما أفضل أعماله إلى الآن بين القليل الجيد الذي قدمه بمسيرته الطويلة، هو عمل شديد الإنغماس بالواقعية مع صيغة سينمائية كلاسيكية، هو من نوعية ما نراه في أفلام ألكساندر باين وجيمس لبروكس وجوش رايتمان وصوفي كوبولا واقعية الحياة والعلاقات في المجتمع الأمريكي وهموم الإنسان العادي ، الشخصيات بالعمل لا تحتاج إلى تقديم أو تمهيد أنت تشعر إنك تعرفها مسبقاً وقابلتها مسبقاً، ليس من باب النمطية والتكرار وإنما الواقعية، تشعر بإنها عادية جداً وخلال استمرار سير أحداث العمل تبدأ باكتشاف دواخلها وتشعر إنها تحوي ما تحويه أي شخصية في العالم من تعقيد وتناقضات ومشاكل ومخاوف.
ديفيد أو راسيل يصنع فيلمه بإيقاع رائع جداً مترابط ومتواصل ومتصاعد بشكل مذهل وكالعادة يجذب له المشاهد حتى اللحظة الأخيرى ويحصل فيه على المتعة وشيء من الكوميدية السوداء المقبولة مع حوارات مبهرة ودراسة ممتازة للشخصيات وعلاقاتها وتطوراتها وتفاعلها، تشعر بها بغاية البساطة في الظاهر ولكنها معقدة ومتشابكة جداً في الباطن، الفيلم يركز بشكل رئيسي عن الهووس ، كل الشخصيات مهووسة بشيء معين بيت بإعادة إصلاح عائلته دي نيرو بكرة القدم وعالم المراهنات تيفاني بالرقص أصدقاء بيت بالمظاهر المادية، كل الشخصيات تعيش مع هووسها كوسيلة للظهور بشكل طبيعي للعالم وعدم إظهار جنونهم ومخاوفهم والتواصل مع الآخر ، وسيلة لتجاوز ضغوط الحياة وكسرها، تعبير عن شعور الإنسان بالخوف لأنه (معتوه) والباقي (طبيعيين) رغم إن الحقيقة إن الجميع (معاتيه) وإن (العته) هو الشكل الوحيد (الطبيعي) الذي يعيش به الإنسان في عالم مليء بالضغوط العاطفية والمادية ، في مرجلة من مراحل العمل تشعر إن الشخصيات تتنافس بجنونها لتظهر أفضل ، لتكون أكثر طبيعية ،و كلما غالت الشخصيات بصنع قوقعتها الخاصة وشكلها الطبيعي الخارجي كلما أظهرت عيوبها ومشاكلها النفسية أكثر، شيء أصبح عند الشخصيات نوع من نسج الهوية في عالم يطحن به شخصية الإنسان، والجميل إن أو راسيل لا يقدم هذه المحاور بشكل مآساوي أو درامي كئيب، هو يحافظ على الروح المرحة فيه و على تواصل المشاهد العادي معه وأحياناً يغالي بهذا لدرجة نشعر بتفاوت في المراحل النهائية بين البداية الواقعية الصرفة وشيء من الصيغة الكلاسيكية الحالمة التي تطغى في النهاية ولكن ذلك لا يصيب العمل بالعطب بل يبقى متفوق وممتاز جداً تقريباً بلا عيوب حقيقية باستثناء عدم إعطاء شخصية الأم حقها الكامل كباقي الشخصيات رغم إجتهاد جاكي وينفر الشديد لتعطي الشخصية جاذبية خاصة وتلفت نظر الجمهور لها بأدائها وكأنها باجتهادها الأدائي الخاص ضمن شخصية هي الأضعف تقول للمشاهد أنا هنا، قوة أدائها ليست بمشاهدها المنفردة وهي تقريباً شبه معدومة، بل بحضورها على خلفية المشهد، تفاعلها مع الخلافات والصراعات الدائرة ردّات فعلها الصامتة غالباً وملامح وجهها، تعطي أداء صعب وعظيم جداً استحقت عنه ترشيحها الثاني للأوسكار في نفس الفئة ومثل أو راسيل خلال ثلاث أعوام أيضاً.
رغم عظمة أداء جاكي وينفر ولكنها مع ذلك لم تكن صاحبة الأداء الأفضل بالعمل، وهذا أمر صعب في عمل يحوي طاقة تمثيليلة هائلة، برأي إن الأداء الأفضل بالعمل يأتي من الأسطورة روبيرت دي نيرو في عودته العظيمة وبعد 21 سنة عن آخر ترشيح ناله للأوسكار، هنا دي نيرو ليس كما اعتدناه في أدواره العظيمة السابقة تلك الشخصية المركبة المعقدة السوداوية المتناقضة، إبداع دي نيرو هنا يأتي من واقعيته الشخصية الأكثر طبيعية خلال مسيرته – بالإضافة إلى دوره في Deer Hunter – الأب المتقاعد الحالم بمغامرة أخيرى للظهور والعودة، المهووس بالرياضة لدرجة الوسواس بشكل ظريف ومحبب دون المغالة بإظهاره كعقدة مقيتة بل شكل طبيعي من الوسواس الذي ينتاب كل البشر تقريباً، العجوز الذي يعيش مع شيء من الذنب بسبب إهماله لأبنه المجنون ومحاولة التواصل معه بطريقته الخاصة دون أن يفقد تماسكه كأب وكرجل لم يعتد أن يكون كريماً بعواطفه.
جينفر لورانس في عامها الذهبي بعد ألعاب الجوع، تقدم أداء عظيم جداً واستحقت أيضاً ترشيحها الثاني خلال 3 سنوات وربما هي الأقرب للفوز عن دور تيفاني الكآيبة الضائعة المهووسة المتناقضة غير القادرة على السيطرة على عواطفها ومشاعرها ، الصريحة بعيداً عن التجمل والكذب لدرجة صادمة، برادلي كوبر يتجاوز أن يكون نجماً تجارياً في سلسلة كوميدية ليظهر إنه فعلاً ممثل مهم، دوره هنا متقن معقد متناقض مجنون صعب، حركاته الجسدية وإضطرابه الداخلي يوازن بينهما كوبر بشكل مبهر ليظهر شخصية مجنونة ولكن بعيدة عن الإشفاق ، يتفهم فكرة العمل ليظهر جنونه شكل من أشكال الطبيعية بالعمل وشيء يبدو عقلاني أكثر من جنون غيره من الشخصيات ، العمل يحمل أيضاً أدوار ثانوية رائعة من ممثلين معروفين بحضور صغير ككريس تكر وجوليا ستايلس في عمل يستحق أن يكون من نخبة الإنتاجات الأمريكية الحديثة.
9 / 10

0 التعليقات:

إرسال تعليق