RSS

Ran - 1985




المشروع الحلم للأسطورة الياباني أكيرا كوروساوا، عشر سنوات في كتابة السيناريو، سنتين في رسم المشاهد (ستوريبورد) تصميم حوالي ألفي زي أزياء، عمل بدء كمعالجة لحكاية شعبية يابانية وانتهى باقتباس لمسرحية شكسبير (الملك لير) - طعنة بظهر بيتر أوتول الذي كان يحلم بتجسيد لير بمشروع من إخراج كوروساوا - مفخرة حقيقية لسينما الياباني العجوز خرجت بترشيح للأوسكار كمخرج وفوز للأزياء، كان من الطبيعي أن يعتزل بعدها ولكن استمر وقدم ثلاث أعمال حتى توفاه الموت عام ١٩٩٨ وهو راض عن أن أعظم أحلامه رأى النور على صورة ربما أفضل مما يتخيلها.
الفيلم الذي قام ببطولته شريك كوروساوا الآثير تاتسو ناكاداي (وقدم من خلال دور اللورد هايديتورا أحد أجمل الأداءات السينمائية في الثمانينيات) يعيد تجسيد المسرحية الشكسبيرية المعروفة عن اللورد هايديتورا الذي وزع ملكه على أبنيه المنافقين ونبذ ابنه الثالث سابورو الذي يحبه بصدق ولكن لا يعرف كيف يعبر عن عاطفته إلا بطريقة متطرفة فجة (في مسرحية شكسبير هن ثلاث فتيات) كوروساوا يكيّف القصة لتناسب البيئة الشرقية اليابانية بكل تفاصيلها، يبتعد عن المعضلة الشكسبيرية حول السؤال الذي فجر الأحداث (من يحب والده أكثر؟ أو كم مقدار حبك لوالدك؟) ليأخذ الأمور نحو منحاً أكثر جدية وظلامية وشديدة الإسقاط السياسي.
القصة أكبر من الحب بقدر ماهي عن المصلحة أو الحكمة والصوابية السياسية، سابورو لم تكن مشكلته مع والده حبه له (وهو فعلاً الأكثر براً وحباً لوالده) بل المشكلة كانت عدم رضاه بقراره وإحساسه بالمسؤولية على مستقبل عائلته الذي يجبره على معارضة والده، كوروساوا يلخص كل شيء بالمشهد الافتتاحي العظيم، الحاكم أو الأب وصل لأرذل العمر ويريد التقاعد، ابناءه الثلاثة خاضعين لأمره دون الجرأة على إبداء الرأي وبحيرة حول المستقبل مع كبر والدهم، أعداء الأمس أصدقاء اليوم يتحينون الفرصة للإنقضاض، الأب رغم ضعفه مازال هو رمزاً لوحدة المملكة وقوتها ولا يمكن مخالفته، حين يصحو فزعاً من كابوس أبنيه ينشغلان بملاطفته لكسب وده، سابورو الوحيد الذي جهر بإحساسه بالخوف مما يتحول إليه والده، هو وحده الذي ظلله حين نومه بعد أن تخلى عنه الجميع.
حين يتم تقسيم المملكة على الأخوة يبتهج الأخوان بأن ما عملا لأجله طوال عمرهما أثمر، سابورو لم يقبل، لديه بعد نظر، يرى بهذا القرار سبيل إلى تقسيم المملكة وإضعافها، لا يثق بأخويه ولا بنفسه، أكثر خبرة بطبائع الرجال وعدم وفائهم، يعرف الكثير عن عالم السياسة وماضي والده الدموي الذي خلف لهم العديد من الأعداء ولو كانوا مستكينين، يدرك إن تجريد والده لنفسه من سلطاته ووضعه تحت رحمة أخوته سيفتح الباب للعداوات والفتن التي ستفتت المملكة وتدمر الإرث الذي خلفه.
المطلع على الأصل الشكسبيري يعرف إلى أين تتجه الأمور، رؤية سابورو كانت صحيحة والدم يسيل بين الأخوة ووالدهم والمملكة تضيع، والأب يخوض رحلة يكتشف بها مدى ظلمه لولده الأكثر وفاءً ويحاول إصلاح ما بينهما بعد فوات الأوان، كوروساوا يحافظ على هذا ويهتم أكثر بموضوع الكارما (العاقبة الأخلاقية)، ليس من منطلق عقائدي فقط بل من زاوية الحتمية التاريخية والسياسية، لو أن الملك لم يقم بتوزيع مملكته كم كان سيعيش؟ سنة اثنتين؟ سيموت وتتقسم المملكة ونفس الاقتتال سيقع لأن هذا أمر محتوم الحدوث، فالمملكة التي أقامها هايديتورا تأسست على العدوان والطغيان والمجازر والسلب والقتل، كوروساوا يتمسك بهذه النظرية ليشرح ويعالج حال الممالك التي تقوم على طغيان الفرد، ممالك تقوم على الخوف والطاعة المطلقة بلا تفكير، تعتمد على الفرد الواحد وتستمد قوتها من هذا الفرد ولكن أساسها هش، ما أن يختفي الطاغية حتى تنهار، في رحلة هايديتورا يعرضه كوروساوا لحالة من كشف الحساب، جرائم الماضي تطارده، ضحاياه يعودون ليقتسوا منه ومن عائلته، الأحلاف الهشة ستخرق والأصدقاء سيعودون أعداء ويأتون ليستردوا حقوقهم، جاعلاً كوروساوا فيلمه ليس فقط دراسة سياسية بل دراسة درامية لشخصية فقدت كل شيء وتتعرض لمحاكمة متأخرة من ضحاياها على كل جرائمها وأخطائها ويحاول الإصلاح بعد فوات الأوان.
بنفس الوقت اهتم كوروساوا بفكرة الخضوع الأعمى، الخضوع للمشاعر والخوف والأوامر العليا والأطماع والأهواء وعدم إحكام العقل، النزاع منذ بدايته كان بين العاطفة والعقل، بين الأمر ومخالفته، الأمراء حركتهم أهوائهم وأصدروا أوامر لقادة رغم معرفتهم إنها خاطئة اتبعوها لإنها أوامر وماتوا من أجلها، وحين تنكسر الشخصيات ترمي فشلها على الأقدار والآلهة وأنها تعبث بهم متجاهلين ومتهربين من حقيقة ومسؤولية أنهم كانوا دوماً يملكون القدرة والحرية للتصرف والتغيير ولكنهم اتبعوا أهوائهم التي قادتهم للكوارث.
كوروساوا قدم أحد أجمل الإنجازات البصرية في الثمانينيات، لوحات بصرية مبهرة وتضج بالحياة والأهم هنا هي المشاهد القتالية، هناك أناس يصورون حروب وأناس يصنعونها وكوروساوا من النوع الثاني، مشاهد المعارك بهذا العمل تجعلك تدرك المستوى المزري الذي تدنت إليه صناعة الملاحم باعتمادها الكامل على المؤثرا الحاسوبية، في هذا العمل كل شيء يضج بالحياة وحقيقي، كل شيء مصنوع يدوياً، حشود من ألفي كومبارس وخيل صممت لأجلهم حوالي الألفي زيل وصنعت عشرات الديكورات مزج بها بين أدق التفاصيل الواقعية والجمالية، وإدارة جبارة للحشود وتصوير مرهق وصعب وقطع ممتاز وإستخدام جيد للمؤثرات والمكياج، منذ المشهد الأول مشهد الصيد وكوروساوا يعدّ المشاهد لفرجة استثنائية ويحقق وعده، يقدم شيء بمستوى إبهار ذهب مع الريح ولورانس العرب والقيامة الآن وطبعاً رائعته الأهم الساموراي السبعة.
١٠/١٠

0 التعليقات:

إرسال تعليق