RSS

Fanny & Alexander - 1982


ربما هي التحفة الأخيرة لبيرغمان الذي شغل السينما لثلاث عقود سابقة بأسئلته الوجودية التي حيرت جمهوره وعبّرت عن موجة التغييرات الفكرية التي اجتاحت أوروبا والعالم بعد الحرب العالمية الثانية، بفيلمه هذا يعود إلى أيام صباه ويستلهم أحداثه من ذكرياته عن عائلته وتحديداً علاقته بوالده القس المتشدد الذي حوله بالعمل إلى زوج أمه، عمله هذا قدمه للإجابة على الأسئلة التي طرحها جمهوره دوماً عن جذور أزماته الوجودية، أساس عقليته الفنية ونبوغه الفكري.
نقل شخصية والده إلى مرتبة زوج الأم بالعمل ليس فقط نوع من تصفية حساب متأخر بقدر ما هو تعبير عن ارتباط عميق وذكي بين حياته الخاصة وشغفه بمسرح شكسبير وتحديداً مسرحية هاملت، تلك الأخيرة حاضرة بقوة بالفيلم ويستغلها ليقدم إسقاطات عبقرية على القصة، تتلبس شخصية إلكساندر روح هاملت، يعتبر زواج والدته (الممثلة المسرحية المعتزلة) من القس المتشدد (النقيض عن كل ما يمثله والده) نوع من الخيانة لذكرى والده (المخرج المسرحي المتوفي بعد أصابته بأزمة صحية أثناء تحضيره لمسرحية هاملت)، بالأخص أنه يحاربه بكبح خياله الذي يشكل قصص ويعتبره خطيئة يعاقيه عليها، رغم إن القصص الخيالية اليي يصنعها هي المهرب الوحيد له من عالمه هذا والنهاية المحيرة الفنتازية لم تكن سوى تعبير عن إن إلكساندر (أو بيرغمان) هرب من الواقع إلى الخيال وسكنه وعاد إلى الحياة في الخيال - سواء مسرح أو سينما - بعد أن مات الفتى بتأثير القسوة.
كما في هاملت فإن شخصية إلكساندر تناجي روح والده، ولكن المناجاة هنا ليس لكشف حقائق واستلهام القوة للانتقام بقدر ما هي وسيلة تواصل مع العالم الماورائي لطرح الأسئلة الوجودية الأولية التي تشكلت بعقلية فتى تدمر عالمه، حول الحكمة من كل شيء وحقيقة وجود الرّب والمعنى من وراء أفعاله وأقداره.
هو فيلم مؤلم جداً - ككل أفلام بيرغمان - ربما هو الأطول بمسيرته ولكن ورغم الألم الذي يحويه والهدوء المعتاد المصنوع به إلا أنه قادر على جذب الاهتمام ومحبوك ومضبوط الإيقاع بطريقة تفوق بها السويدي الراحل على نفسه، جميع الشخصيات حتى الثانوية مكتوبة ومقدمة بطريقة ممتازة والأحداث جميعها محبوكة بطريقة جيدة وتقود إلى العقدة الرئيسية بأسلوب تصاعدي دون أي اهتزاز لنصل إلى تتابعات في النهاية تشد أعصاب المشاهد ومتوازية مع المغزى والعمق الفكري الذي يطرحه، حتى جرعة الألم المرّة التي يطرحها تأخذ الطريق التصاعدي فيبدأ بجو مريح جداً قبل أن نغرق تدريجاً بالدراما القاتمة التي يقدمها.
الحدث المزلزل الذي يهز أركان الشخصيات (احتضار الأب ووفاته) يعطيه بيرغمان حقه كاملاً من التفاصيل، يبدو مقدماً بأسلوب ومضات من الذاكرة وكأن كل التفاصيل الدقيقة لذلك اليوم وذلك المكان الذي شهد تلك الصدمة هي ضربات شفرة تركت أثرها عميقاً بنفوس شخصيتي فاني وإلكساندر، وتلك الحالة القاسية من التشبع بالحدث والألم ليست فارغة أو غايتها الألم لمجرد الألم ومعايشة إحساس الشخصيات، هي مهمة لأنها أساس التحولات التي تمر بها الشخصيات ومبرر لكل تصرفاتها اللاحقة وتفاعلها مع واقعها الذي هوى من السماء إلى الأرض.
في العمق لا يبدو إن الغرض مما يقدمه بيرغمان فقط قصة تفاعل شخصيتي فاني وإلكساندر مع التغييرات بحياتهما بقدر ما الغرض منه هو تقديم مفهوم الواقع وعلاقته بالإنسان، فأحداث العمل مروية بالتوازي من منظورين، منظور الراشد ومنظور الفتى القاصر، في النصف الأول من العمل تكون الشخصيات القاصرة ثانوية الحضور والتأثير أما الراشدة هي المتصدرة للمشهد ولا يبدو واقعها مثالياً، هي تعاني من مشاكل وخيبات تحطم الأحلام وفقدان الثقة بالذات وضياع الشغف والوهن الجسدي وأزمة منتصف العمر والحسرة على الحب الضائع، بالمقابل يبدو هذا الواقع المخيب بالنسبة للراشدين مثالي بالنسبة للفتية الصغار المستمتعين بتفاصيل صغيرة ولكن بغاية الأهمية بالنسبة لهم والتي تشكل واقعاً مثالياً رغم أنه بالحقيقة كاذب وهش ولكن لا يدركون ذلك حتى يضربهم واقع الكبار بقسوته، الهزائم والإنكسارات التي تصيب عالم الكبار يصل ارتدادها إلى عالم الصغار وتحطمه وتعيد تركيبه، وهنا يقلب بيرغمان أدوار البطولة في النصف الثاني من عمله، ينتقل الفتية من الأدوار الثانوية للصدارة ويعود البالغون لخلفية المشهد باستثناء شخصيتي القس وأخته المتسلطة كتعبير من بيرغمان عن الوحدة التي عانى منها فاني وإلكساندر أثناء مواجهتهم لقسوة الواقع، وكأن الحياة لا تكون حقيقية إلا حين ترتبط بالمآساة أما السعادة وردية فهي ليست سوى سراب أو خيال ضبابي لا يوجد فيه شيء يستحق أن يروى.
من هذا المنطلق بجعل بيرغمان فيلمه عن النضوج، عن إلكساندر المراهق الذي يشق طريقه نحو البلوغ، ويبدأ باكتشاف معاني الرجولة والحب وبداية موهبة رواية القصة ونسجها، يحاول أن يأخذ دور البالغ كاملاً بغياب والده، ولكن رجولته تتعرض لهزة بدخول زوج أمه، الصراع بينهما صراع إثبات ذكورة، وهو صراع يفجر الأسئلة الوجودية الأولية لفتى بدأ يرى العالم على حقيقته.
العظمة النصية التي يقدمها بيرغمان هنا (وهو أحد أفضل كتاب السيناريو على الاطلاق) توازيها صورة جبارة لا نستغرب معها فوز الفيلم بثلاث جوائز أوسكار تقنية بالإضافة إلى أوسكار أفضل فيلم أجنبي، مبهر بتفاصيل الديكور والأزياء والملابس، المونتاج جبار ويلعب دوراً أساسياً بتصعيد الحدث وضبط الإيقاع وكسر برود العمل، التصوير عظيم بالتوازي مع الحالة النفسية لكل مشهد وإعطائه هوية ومزاج بصري خاص، بالإضافة إلى إدارة ممتازة لجميع الطاقم التمثيلي تحديداً الصغار المغمورين الذين قدموا أداءات تمثيلية رفيعة.
هو بالمحصلة فيلم من بيرغمان لكل عشاق بيرغمان عن بيرغمان، عن علاقته بوالده وجذور أزماته الروحية وافتتانه بالمسرح وهوسه بروي القصة وبداية تشكيل وعيه للعالم، هو فيلمي المفضل بين أفلامه التي شاهدتها.
١٠/١٠
tag


0 التعليقات:

إرسال تعليق