RSS

Annie Hall - 1977



يستخدم وودي آلين السينما كعلاج نفسي ذاتي من العقد النفسية التي يعاني منها وتسببت بانفصاله عن حب حياته دايان كيتن قبل انطلاق نجوميتهما، الفيلم عنه وعنها، هما لم يكونا يمثلان بقدر ما كانا يستعيدا ذكريات عاشاها معاً، وربما تلك الكيمياء بينهما وصدق التفاعل والأداء هي ما جعلت هذا الفيلم أحد ألطف وأعمق التجارب الرومانسية وانتجت أحد أفضل النصوص المكتوبة، المشهد الأخير حين كان (ألفي - وودي) يخرج مسرحية يحوّر فيها الحقيقة ويختم علاقته بأني - دايان كيتون بالشكل الذي حلم به يمكن بسهولة ملاحظة ملامح الحزن والحسرة بعيني وودي، لم يكن مجرد تمثيل جيد بقدر ما كان إعادة معايشة لحظات وأمنيات وحسرة على خسارته الحبيبة التي من أجلها صنع هذا الفيلم، لم يغير النهاية كما في المسرحية المتخيلة بل حافظ على صدق لحظة الخسارة لأنه يدرك إن التزييف لن يغير شيء ومواجهة الحقيقة هو العلاج الذي يحتاج إليه.
(الإنسان أفضل طبيب لذاته) حكمة قديمة طبقها وودي آلين هنا، العمل أشبه بسرد طويل منه على مسامع طبيب نفسي، رحلة اكتشاف ذات وليس رحلة تأليف، بوح معلن للكاميرا، لذلك لم يلتزم بقواعد الرواية التقليدية، العمل بتركيبته أشبه بسرد صور من الذكريات، يبدأ بفتور العلاقة مع آني ثم يعود لاكتشاف اسباب هذا الفتور، يعود إلى طفولته ثم يقفز إلى جمال البدايات ويقارن بينها وبين صديقاته السابقات وبينه وبين أحبائها السابقين، ويعود للنهاية ومرحلة الصدمة والعلاج منها، يطرح سؤالين (لماذا أحب أني؟) ثم (لماذا أنفصل عن أني؟) يعود إلى طفولته ونشأته وبيئته ليبحث في جذور مشاكله النفسية والاجتماعية التي حملها كآرث من بيئته ومجتمعه المغلق في بروكلين ومزجها بالوعي العاطفي والجنسي المبكر الذي خلق لديه فضول لاكتشاف الجنس الآخر من صغره، كله أدى إلى خلق شخصية مهزوزة منعدمة الثقة بذاتها تعالج الأمور وتواجهها بالسخرية والكوميدية السوداء ونجح بذلك وتحول إلى كوميدان ناجح ومشهور مما وضعه ببيئة ومكان أكبر من مجتمعه المغلق، يخرج مع فتيات مثقفات وذكيات ولكن لا يستطيع الاستمرار معهن لأنهن يخفنه ويشعرنه بالتهديد فيبتكر دون أن يعي وسائل ليخرب العلاقة، ينجذب إلى آني ولطافتها وجمالها، فتاة بسيطة وجميلة منجذبة إلى ذكائه وثقافته تمده بالإحساس بالأمان، ولكن بالمقابل ينتقل إحساس التهديد لها، تشعر دوماً إنها أدنى منه بالمستوى الفكري والثقافي، وما يعزز هذا الإحساس دفع ألفي المستمر لها للتعلم والتثقف، كان يحاول تحويلها إلى نسخة عن الفتيات اللواتي كن يجذبنه ويخشى الخروج معهن، وينقلب السحر على الساحر، أني بدعم ألفي تخوض رحلة تغيير ونضوج حتى تصل إلى مرحلة تستطيع بها الاستقلال بنفسها والتحرر من ألفي، حتى هو يشعر إنها تغيرت ولم تعد نفس الفتاة التي أحبها، خسر الشيء الأهم الذي كانت تمده به وهو الإحساس بالأمان، خسرها للأبد وحتى حين عاد وحاول التواصل معها لم يرى سوى إنسانة أخرى تشبه الفتاة التي أحبها يوماً.
هو ربما أحد أفضل وأجمل أفلام تحليل العلاقات وتعقيدها، وودي آلين بنظري أهم كاتب سينمائي أمريكي خلال نصف قرن الماضي، لا أعثر له على نظير اليوم سوى الكوينز أو تشارلي كوفمان، أصيل وذكي جداً، يقفز من الخاص إلى العام ويمزج بينهما، شديد الإبداع برسم الكاريكتارات وبناء الشخصيات ونسج علاقاتها وخلافاتها وتعقيداتها وتجاذباتها، وصعود وهبوط الحدث وتفاعله من الحوادث اليومية البسيطة، ضمن روح نكتة سوداء مبهجة وذكية وبعيدة عن الابتذال تمتلئ بها حوارات شخصياته، قادر على أن يعالج نفس مواضيع العلاقات بمئة شكل ومعالجة وفعل ذلك على طول مسيرته المزدحمة بالأعمال، أحدث ثورة بمجال الكوميدية وسينما العلاقات وآثاره واضحة على كل أفلام ومسلسلات النوع التي أصبح لها صنف جديد ( كوميدية مثقفي نيويورك).
باعتقادي من المجحف حصره وأفلامه بإطار الكوميدية والرومانسية، أعمالها فيها الكثير من التشريح لطبيعة العلاقات الاجتماعية والرومانسية في العصر الحديث، هذا الفيلم هو معالجة ذكية جداً وعميقة - عكس بساطتها الظاهرة - لمشاكل البيئة والطفولة التي تخلق شخصية مهتزة تجد من الصعوبة أن تتغير وتتواصل مع محيطها، نموذج عن أزمة منتصف العمر وجمال العثور على الحب الحقيقي ولوعة فقدانه.
هذا أفضل أفلام وودي آلين رغم إن ما قدمه لاحقاً كمنهاتن وهانا وأخواتها وجرائم وجنح حتى منتصف الليل في باريس لا يقل أهمية وجودة، ككل أفلامه لا يحصر نفسه بزاوية العلاقات العاطفية، هو شديد الارتباط بنيويورك وثقافتها وعوالمها ومجتمعها، تعبير عن حالة إدمان الانتماء لمكان - ليس حب المكان - الذي يجعل من مفارقته رغم ضرره أمر صعب جداً، جزئية تكشف الكثير عن شخصية مدمنة جلد الذات وتعذيبها ورعب مغادرة المنطقة الأمنة وتجريب عوالم وأماكن جديدة، مع هجاء للمجتمع الثقافي النيويوركي وسخرية لاذعة من نمط الحياة في كاليفورنيا وصناعة الترفيه فيها وتشويهها للفن والثقاقة.
هذا ربما أكثر فيلم لودي آلين متحرر وتجريبي إخراجياً، يبدأه بتحية لملهمه السويدي أنغمار بيرغمان، بل إن شخصية ألفي وكل شخصيات أفلامه وعقدتها الوجودية في سعيها الدائم وراء المجهول وصراعها لاستحواذ المفقود وإدمان التعاسة هي كلها عناصر بيرغمانية منفذه بأسلوب كوميدي أسود، يقفز ألين إلى أساليب الموجة الفرنسية وتمردها على الانماط والسرد ولغتها النخبوية وسخريتها اللاذعة وتنظيرها المستمر والابتعاد عن التعقيد والبذخ البصري ولكن بلغة مبسطة محببة مبهجة تجعل الفيلم قريب للمشاهد، آلين الذي صنع عمله كسرد ذاتي لذكرياته صوره وكأنه خارج من عقله أو سياحة للمشاهد في عقله، فجنح إلى مسر الجدار الرابع، مناقشة الكومبارس بإحداث العمل، الاستعانة بشخصيات ثقافية للتعليق على بعض الأحداث، اللجوء للرسوم المتحركة والشرح التوضيحي المكتوب، عرض اختلاف وجهات النظر بين ألفي و أني حول نقطة معينة من خلال تناظر المشاهد مونتاجياً أو الصوت الداخلي.
دوماً يتم وصف أفلام وودي آلين إنها قوية بفضل نصوصها، وهذا أمر فيه شيء من الصواب ولكن لا يمكن إغفال قوة لغته الإخراجية بصنع جو بصري بسيط واقعي لا يخلو من الكوادر البصرية الجميلة وبعضها أصبح أيقوني كمشهد القبلة على خلفية جسر منهاتن من هذا الفيلم عند الغروب، كما لا يمكن إنكار أنه أفضل مديري الممثلين على الإطلاق، دايان كيتن قدمت هنا أداء عمرها وربما أهم أداء نسائي في السبعينات، لا تكتفي بالاتكاء على ذاكرتها وارتباطها الحقيقي بالشخصية بل تعيش معها تحولات نضوجها وتغيرها، هي في النهاية غير ما كانت عليه في البداية نبرة حديثها وشخصيتها مختلفة جذرياً، والأهم عفويتها بتقديم الطاقة والطيبة والبساطة والجاذبية التي لم تقنعنا فقط لماذا هي حب وودي آلين الحقيقي، بل أصبحت رمزاً عاطفياً لجيل السبعينيات بالكامل ولا زالت أحد أكثر الشخصيات النسائية شعبية لليوم، حازت عن الدور على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة بالإضافة إلى ثلاث أوسكارات أخرى نالها العمل أفضل فيلم وإخراج وسيناريو في أحد أكثر اللحظات شجاعة من الأكاديمية ومصداقية رغم وجود طوفان جورج لوكاس وحرب النجوم، أحد أفضل أفلام السبعينات وربما أفضل من تحدث عن تلك الحقبة، الفيلم الذي أحلم أن أصنع يوماً مثله.
١٠/١٠

0 التعليقات:

إرسال تعليق