RSS

In America - 2003


ليس من المفاجأ أن تكون جماعة من أكثر المخرجين موهبة في عصرنا هم الأكثر غموضاً وبعداً عن الأضواء ، هنا اتحدث عن اسماء مثل جيم جارمانوش وتيرانس ميللك وبيتر وير و جيم شريدين، اسماء منذ عقود تصنع بضع أفلام كل عدّة أعوام وتلقى إعجاب من يشاهدها من جمهور ونقاد دون أن تحقق ضربات على شباك التذاكر لبعدها عن الاتجاه السائد عالمياً واهتمامها بصنع فن حقيقي وتقديم أفكار بغاية الأهمية بأعمالها، جيم شريدين أحد تلك الاسماء التي تعتبر من أهم المخرجين في الوقت الحالي رغم إنه مجهول من 90 % من جمهور السينما، الأيرلندي العجوز أخرج منذ الثمانينات مجموعة قليلة من الأفلام هي روائع سينمائية حقيقية وتصنف كلاسيكية وتحظى بالتقدير الفني في جميع الأوقات، الرجل كان وراء إطلاق موهبة دانييل دي لويس عام 1989 برائعته My Lift Foot   التي اكسبته أول ترشيح للأوسكار وجائزة أفضل ممثل لنجمه الذي كرر التعاون معه في الرائعة الأخرى In The Name Of the father   عام 1993 ونال كلاهما ترشيح ثان للأوسكار ليجتمعا مجدداً بعد أربع سنين في الدراما الرياضية The Boxer.
عام 2003 قدم شريدين عمله الهام الثالث ولكن هذه المرة بدون دي لويس، ورغم غياب اسم أفضل ممثل في زمانه عن عمله الحالي ولكن شريدين قاده ليكون أهم عمل في مسيرته، القصة المستوحاة عن مآساة حقيقية عاشها شريدين بفقدان أخيه حولها إلى تحفة سينمائية مؤلمة جداً شديدة السوداوية مع إشراقة أمل رائعة وأحد أكثر الأعمال عاطفية وتأثيراً على الإطلاق، فيلم بريغماني بحت عن أزمة الوجود والإيمان والألم الإنساني، اسئلة الحياة والموت والمغزى من الوجود والألم والعذاب ومعناتها، وفي نفس الوقت قصة رائعة عن الحلم الأمريكي وصورته الحقيقية.
يروي الفيلم قصة عائلة مكونة من جوني الذي يحلم أن يكون ممثلاً وزوجته سارا الحامل وابنتاه الصغيرتان، كرستي الموهوبة بالتصوير و إرييل التي تحاول أن تعيش طفولتها في عالمها الجديد، العائلة تهاجر من موطنها إيرلندا إلى أمريكا ليبحث الأب فيها عن حلمه التمثيلي لتصدم بواقع مرير جداً لم يكونوا يتخيلوه ، عن الوجه الحقيقي لأرض الأحلام، حيث يكون أفضل مكان يقطنون به هو مبنى مدمني مخدرات ويحاولون بناء منزلهم من العدم ويتنقل الأب بين شركات التمثيل باحثاً عن دور صغير له بينما يصبح تأمين القوت اليومي هم العائلة الذي لا ينتهي.
مشكلة العائلة لن تكون فقط بهموم التأقلم مع العالم الجديد، ومع صدمات الحلم الأمريكي التي لن تنتهي، مشكلة العائلة الحقيقية هي رغم إنها هاجرت بلدها بطموح تحقيق الحلم ولكنها لم تستطيع ترك مآسيها هناك، الكارثة التي حلّت بهم بوفاة ابنهم فرانكي ذي الخمس سنوات بعد معاناة مع السرطان تلاحقهم، الأم تحمّل نفسها مسؤولية إصابته بالسرطان لأنها لم تستطع إمساكه حين وقع على رأسه عن الدرج وهو بعمر السنتين، والأب يعاني من أزمة دينية ونفسية هائلة، انتقل إلى الألحاد وفقد طعم كل شيء في الحياة ولم يعد يستطيع مساعدة زوجته على تجاوز محنتها أو مساعدة بناته بشكل صحيح على التأقلم، يعيش كشبح يؤدي دوره الطويل والمتعب بأن يكون شخصاً سعيداً وأباً عطوفاً، ينجح بهذا الدور لوقت طويل رغم الصعوبات التي تعترضه، ولكن مع استمرار الأداء والفشل المتلاحق الذي يمر به تزداد معاناته الداخلية حتى تتضخم لتمزق جلده وتخرج وتسيطر عليه وتظهر الشخص الغريب الذي أصبح عليه، الزوجة ايضاً ققدت إحساسها بالحياة وهي الأخرى تمثل مع زوجها، ولكن اقتراب موعد الولاده يجعلها أكثر ضعفاً بأداء الدور، ابنتهم كرستي ذات الأعوام العشرة تبدو هي الوحيدة المتماسكة وهي الوحيدة التي تحاول – رغم مآساتها أيضاً – أن تجعل العائلة مترابطة وتقنع أختها بأن تظهر لوالديها إن الحيلة تنطلي عليهم وإنهم يعيشون حياة سعيدة رغم إدراكها إن والديها على شفى الأنهيار.
مع المسرحية المآساوية الطويلة التي تعيشها العائلة يصبح الطفل الجديد الذي تحمله الأم هو الأمل الوحيد للعائلة لتعود مجدداً لحياتها الطبيعية ، الخوف يظهر مجدداً مع توقعات الأطباء إن الأم ستضع مولودها باكراً وهذا الشيء قد يؤثر على حياته وتجتمع العائلة تنتظر معجزة تخلصهم من عذابهم ولا تعيدهم للمآساة مجدداً، مع انتقال العائلة إلى أمريكا تتعرف البنتان في عيد الهالويين على ماثيو جارهم الزنجي الرسام المصاب بالإيدز والذي وصل معه المرض إلى مراحله الأخيرى ويهدده بالموت، حين يلتقي ماثيو بالبنتان ويسمع منهما قصة فرانكي الميت لا يمنع عيناه من أن تدمعا ربما ألماً على تلك العائلة وربما لأنه تذكر واقعه والمصير الذي ينتظره، ولكن الشيء الأكيد لأنه عثر على الرسالة التي يجب عليها أن يحققها قبل وفاته بالاخص مع رمزية اللقاء الصغيرة إيرل ترتدي زي الشبح و كريستي ترتدي زي الخريف، اللقاء يتم بعد أن تصرح ايرييل علناً إنها تريد أن تكون مثل الآخريين لا مختلفة عنهم وتشعر بالعار مع أختها بسبب ملابسهم المصنوعة منزلياً لا تم شرائها سلفاً كغيرهم وهكذا تفتح لهم أمريكا أخيراً أول أبوابها من خلال ماثيو.
مع دخول ماثيو إلى حياة عائلة جوني يشعر المشاهد بشيء من الحياة تنبعث فيها رغم إن من دخلها هو ميت يسير، جوني لا يشعر بالراحلة لدخول ماثيو وافتتان زوجته وبناته به وهم الذي رأوا فيه أخيراً شيء من الترحيب الأمريكي فيه ورسالة علوية غريبة للنجاة دون أن يدركوا ذلك، أما هو فيشعر إنه يريد أخذهم منه، ولكنه في الحقيقة يرفض معه دخول الرّب مجدداً إلى حياته و فتح عينيه على الحقيقة التي يعيشها و مواجهة المآساة بشجاعة صعبة لتجاوزها، وحين المكاشفة الرائعة معه يرى الحقيقة، يسأل ماثيو : (هل تحبها ؟) يعني زوجته، فيجبه : (لا ... أنا أحبك ، وأحب زوجتك الجميلة، وأحب بنتاتك، وأحب ابنك الذي لم يولد، وأحب فرانكي الصغير) بهذه المكاشفة يدرك جوني ومعه المشاهد القيمة الحقيقية للحياة، ويلمس الحكمة من العمل، رغم كل ما قد تعانيه، رغم كل المآسي التي تمر بها، فهناك من يعاني أكثر، رغم كل ما يعانيه جوني ولكن ماثيو يحسده، يحسده على صحته الكاملة ، على عائلته الرائعة، يتمنى ولو ليوم واحد أن يشفى من مرضه ويعيش حياته ، يكون له زوجة وأبناء ويتمتع بالصحة، ماثيو يدخل لحياة العائلة ليشعر معها ولو للحظات بالشيء الحقيقي الذي يفتقده وهو محبة الناس من حوله وهو الذي كان قبلهم يعيش بعزلة اختيارية قاسية.
العمل فيه الكثير والكثير من الروحانيات، أسئلة الحياة الأخرى والتساؤل عن ماهيتها بالأخص لعائلة فقدت ابنها ورجل يوشك على الموت يريد بشدة أن يعرف ما هي الحياة بعد الموت، هناك الكثير من الإيمان بالمعجزات وطلبها بهذا العمل، رغم إن هوليوود مدينة علمانية بأغلبها ولا تهمها أبداً الأمور الدينية أمام الفن ولكن هذا لا يمنع وجود أعمال تحمل في طياتها رسالات دينية وتذكر بحقيقة وجود الإنسان وموقعه في العالم وإعادة تجديد علاقته بالله، كما شاهدنا العام الماضي تحفة تيرانس ميللك The Tree Of Life   فعمل جيم شريدين هذا أيضاً في دعوة للإنسان للعودة لله، شكره على المصيبة قبل الغضب منه، النظر بعمق إلى النعم التي منحه إياها والعمل على الحفاظ عليها، قيمة العائلة، أهمية الإيمان، أهمية الرضى والقبول بقضاء الله، ضرورة تجاوز المآساة والصبر على الشدائد، هذا العمل يصور إن الله مع الإنسان في كل مكان، يرينا حياة أي فرد تعيس هي قمة النعم إذا أمعن النظر إلى النعم التي وهبها له الله وإلى المصائب التي ابتلى فيها غيره.
شريدين يملئ عمله بهذه الرسائل ويبدع بأن لا يجعلها مباشرة، هو ينجح بأن يسير بعمله على خط شاعري رثائي عفوي ولكن دون إستدرار للدموع بطريقة مبتذلة، هو يلامس قلب المشاهد ويؤثر فيه بعمق، يوصل إحساس الفقد والخسارة والحسرة والندم والصمود بشكل تلقائي وشديد العفوية، وبنفس الوقت يقدم جرعة أمل وإيمان عالية توازي جرعة المآساة المعروضة جاعلاً من عمله وجبة شاعرية إنسانية تطهر الإنسان من الداخل، شريدين لا يلجأ إلى الأساليب التقليدية بالفلاش باك للحظات حياة فرانكي وصور لوالديه يحملانه ويلاعبانه أو صور لحادثه ولحظات احتضاره، ولا يرينا طول العمل سوى صورة واحدة له بمشهد النهاية ولكنه يشعرنا مع ذلك بمدى تأثير غيابه على العائلة بمدى الحسرة التي تعيشها بعد فقدانه .
أجواء العمل البصرية رائعة، شريدين يتميز بكل أعماله بجعل المكان وعناصره وألوانه بطلاً من ابطال عمله وعنصراً جمالياً رغم واقعيته الصادمة أحياناً، هناك تصوير ومونتاج وموسيقى جميلين جداً بالعمل ولكن تركيزه هنا هو على طاقمه التمثيلي بودي كونسداين بدور الأب يقدم أداء شديد الرقي والأهمية والتأثير بالأخص مع ملامحه الواقعية وعفويته الرائعة بالأداء، القديرة المغمورة سمانثا مورتن بعد أن نالت ترشيح للأوسكار عن فيلم وودي آلين Sweet and Lowdown  وشاركت توم كروز بتحفة ستيفن سبلبيرغ الخيالية Minority Report  تقوم هنا بدور هام جداً وشديد الصعوبة تشعرنا بعمق المأساة وتأنيب الضمير والحسرة رغم إن أغلب أدائها يفتقد إلى مشاهد الإنهيار والتعبيرات الدرامية الحساسة ولكنها تشعرنا فعلاً بعمق حزنها وراء ثوب الاتزان والتماسك الذي ترتديه، ديجامون هونسو بدور ماثيو رائع جداً، الممثل الزنجي القدير والمغمور أثبت بسنوات قليلة أهميته الفنية بعد تصديه لبطولة فيلم سبلبيرغ أمستاد ومشاركته راسل كرو بالرائعة المصارع ثم هذا العمل وبعده الماسة الدامية وهنا بهذا الدور يصل إلى أدائه الأهم على الإطلاق مع الحزمة الإنسانية والإيمانية العالية التي يقدمها، صلابته وقوته مع إنهياره وعاطفته الرقيقة، مزج نقيضا الموت والحياة بداخله ورضاه بكل ما يمر به يعطر العمل قوة وإندفاع هام وصلابة وعاطفة قوية تتملكه، الصغيرتان الشقيقتان سارا بلوغر و إيمي بلوغر بدور كرستي و ارييل تقدمان دورين عفويين وبغاية العاطفية والأهمية والعمل وينجحا بأن يسرقا البطولة بأغلب مراحله .
الفيلم عرض بعام قصص المآسي العائلية والدعاوى الروحانية الدينية، تواجد إلى جانب رائعة إيستوود Mystic Rever  و أناريتو 21  Grams  و بيرلمان House of sand & fog  ونال ثلاث ترشيحات للأوسكار كأفضل ممثلة مساعدة لمورتن وأفضل ممثل مساعد لهونسو وأفضل سيناريو لشريدين .
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق