RSS

Paris, Texas – 1984


بعض الأفلام تشعرك بعد مشاهدتها بواجب الكتابة عنها وبعضها تشعرك بالحاجة للكتابة عنها، وفيلم فيم فندرز هذا هو من النوعية الثانية التي تتمتع بخاصية أخرى معقدة ، وهي إنك لا تعرف ماذا تكتب عنها، هذه أفلام إشكالية بحتة للمشاهد والقارئ ، هي أفلام الإحساس، أفلام تثير مشاعر وتحييها وتوقدها بداخلنا، لا يمكن مناقشتها كأي فيلم عادي من حيث الحبكة والدراما و الأداء والأفكار والإخراج وغيرها – وهي بهذا العمل بأعلى المستويات - ، لأنها نوع مختلف تماماً، عظمة العمل غير منظورة، لا تراها بعين عقلك بل تحس بها بعين قلبك، عظمة هذه الأفلام ليس بشكلها الفني، هي أعمق من هذا، عظمتها بالمشاعر التي تثيرها، بعملية التطهير التي تدخلنا بها، بذلك الأمل الإنساني التي تحيه بداخلنا بوجود خير وجمال على هذا الكوكب ولو كنا ببيئة قذرة أو بصحراء قاحلة .


أثبتت السينما إنها قادرة على أن تختزل حياة تمتد لسنين كاملة بشريط مدته ساعتين، ولكن الصعوبة دوماً أن نأتي بفيلم أحداثه تدور بأيام معدودة يختصر بداخله حياة كاملة لأبطاله، فيم فندرز برائعته – الفائزة بسعفة كان 84 – يفعل هذا، لا يكتفي بأن يقدم لنا حياة الشخصية عمرها ناهز الأربعين بشريط سينمائي مدته ساعتين وأحداثه لا تتجاوز الشهر، بل يجعلنا نعيش هذه الحياة، نحن نعيش مع بطله ترافيس (أداء استثنائي من هاري دين ستانتون) منذ ما قبل ولادته حتى اللحظة الحالية، نمر بكل خيباته انتصاراته آماله كوابيسه عقده الدفينة ذكريات طفولته سقوطه صعوده، شيء غريب فعلاً كيف بدأت علاقتك ببداية هذا العمل مع شخصية تائهة بصحراء تكساس نصف مجنونة وصامتة وكيف انتهت وأنت تتبنى هذه الشخصية وقد تهت بحياتها وماضيها وحاضرها وتعاطفت معها ورثيت لأجلها، صحيح إن فندرز في كثير من المشاهد يلجئ إلى المباشرة والبوح وهو يتحدث عن الشخصية، ولكن حتى البوح والمباشرة هنا كان استثنائي، تصميم مشهد المحادثة بالمقصورة مع زوجته، الديكور الإضاءة التصوير المونتاج، الأداء غير الاعتيادي من ستانتون و كينسيكي نبرة صوت الأول وعيون الثانية ، لغة الحوار ورسمه، مشهد لوحده يصلح أن يكون فيلماً، مشهد استثنائي يضرب عميقاً في الذاكرة والقلب، لوحة فنية ناطقة تموج بالحياة.
هذا فيلم يفوق مفهوم السينما أشبه برواية بصرية تتقلب بين صفحاتها، أشبه بسنفونية تقفز بين نغماتها، عمل غريب ومعجز قام به فندرز حين اقتحم الغرب الأمريكي – وهو الألماني الميلاد والمنشئ- بغباره ورماله وصخوره وقسوته حتى موسيقاه – الرائعة من ري كودير- موسيقى وسترن، كيف تبنى الواقعية الأمريكية الصرفة باعتماد أسماء مغمورة بيئة فوضوية أشكال رثة ، ولكن مع ذلك من قلب تلك الصورة غير المثالية المليئة بعبثية الواقع أنتج جمالاً لا يضاهى يقارع جمال الأفلام الأوروبية حيث الجمال والأناقة والنظافة عمل فني مبهر ومؤثر أيضاً، فيندر صنع جمالاً حقيقياً مثالية حقيقية من فوضوية الحياة ، ليس فقط بفضل التصوير غير الاعتيادي من روبي مولر المبهر بواقعيته والذي حول البيئة إلى سلسلة من اللوحات الفنية التي تضج بالجمال، الجمال الحقيقي في العمل هو القابع بنفوس شخصياته، ببراءة علاقتها و طيبتها وطبيعيتها، اهتمام والت وان الأبوي بترافيس، العلاقة التي ينشئها ترافيس مع ابنه هنتر ورحلة الإصلاح التي يخوضونها ، أجمل مشاهد العمل وحواراته بين ترافيس وهنتر براءة الطفولة والأبوة هي سيدة الموقف وانسجام عالي بين الممثل الكهل والطفل الطبيعي والعفوي جداً أمام الشاشة، ثم رحلة التطهير التي يخوضها ترافيس ليخلص نفسه وزوجته السابقة من الشياطين بداخله لينهي الضياع الذي عاشه طويلاً.
ربما لا تصلح تلك السطور كمراجع عن العمل، لأن هذا العمل غير قابل للتحليل، هذه الأعمال لا يمكن التعامل معها والكتابة عنها سوى بأسلوب البوح، البوح عن الأثر التي صنعته بداخلك، أعمال تحيي الإنسانية في المشاهد، تجعله يعود ليؤمن بأن هذا العالم رغم كل ما فيه من فوضى وضياع وعبثية ولكن يستحق الحياة، الطيبة النقية التي في النفوس غير القابلة للتلوث مهما أهملناها أو نسيناها ولكنها تبقى رابط تماسك الإنسانية، الشخصيات ليست مثالية في العمل فيها عيوب – ككل الناس - ولكن إنسانية علاقتها اهتمامها ببعضها طيبتها هي ما تبقيها حية وهي ما تعطيها صفة البشر.

10/10 

0 التعليقات:

إرسال تعليق