RSS

Inside out – 2015


هذا العمل هو ربما من أهم الأحداث السينمائية المعاصرة، ليس فقط لمستواه الفني الراقي جداً بل لكونه أعاد استديو بيكسار – الأستديو الأهم والأفضل في العقد الماضي - إلى المسار الصحيح بعد أربع سنوات من التشتت وأعطى دفعة جديدة لسينما الأنيميشن لتتألق مجدداً، العقد الماضي في المجال الرسومي هيمنت عليه بيكسار بروائع المرعبين ونيمو والمذهلون والسيارات وراتاتيول وول أي وأعلى، و افتتحت هذا العقد بالجزء الثالث من تحفتها حكاية لعبة أحد أفضل أعمالها على الإطلاق، ثم  عانت من انحسار غريب بدء مع السيئ السيارات 2 ثم المتوسط شجاعة والمقبول جامعة المرعبين  ومع هذه التخبط شهدت الأنيميشين شيء من انحسار القيمة، صحيح إننا شاهدنا أعمال ممتازة مثل رانغو وتان تان و فروزين و وتانغليد وصيد التنين والمينيونز و سوبر هيرو 6 ولكن بدون بيكسار هناك دوماً شيء ناقص، كنا بحاجة لدفعة من المغامرة الناضجة المبهرة الممتعة المضحكة والمؤثرة المليئة بالأفكار والقيم العائلية الهامة والعوالم الخيالية، أفلام تدغدغ الصغير بداخلنا وتمليء عقولنا كراشدين وتمتع الجمهور الأكبر من أطفال وتثقفهم، بيتر دكتور مخرج أفضل أفلام بيكسار للعقد الماضي Up  قدم لنا ما أردناه في Inside out  .


عالم بيكسار الجديد هذه المرة هو العقل البشري بحد ذاته، هي غزت سابقاً عوالم الأساطير والألعاب والمخاوف والأبطال الخارقين والأسماك والمستقبل والفئران والحشرات فلما لا تغزو منبع هذه الأفكار العقل البشري في طور الطفولة والانتقال نحو النضوج ، بيتر دكتور الذي غزا سابقاً عالم عفاريت الليل في شركة المرعبين المحدودة وكان أول من تجرأ على صنع فيلم بيكسار بعوالم واقعية في الرائعة Up  - رغم إنه عرف كيف يملؤه بخيال شديد الجمالية ومغامرة شديدة الإمتاع وألوان رائعة - يعود اليوم ويصنع عالم العقل البشري بكل تعقيده وتناقضاته وغموضه وسحره وذكائه ضمن صورة خيالية متقنة بلا ثغرات مليئة بالتفاصيل الذكية لدرجة الصدمة، يجعلك تحتار كيف خطر له كل هذا، منطقة النسيان واستديو صنع الأحلام وجزر الشخصية وأرض الخيال ومكب إتلاف الذكريات وطريقة إتلافها بخمس مراحل وعالم المخاوف واللاوعي شيء فعلاً يصيب بالإذهال ويأسر العقل، ثم تركيبة مقر قيادة العقل شكل المشاعر الخمسة الرئيسية التي تعمل وطريقة عملها وتكاملها وتصرف كل منها حيال المأزق التي تتعرض له الشخصية بالأسلوب الذي يتناسب مع خصائص كل شعور من المشاعر ودورها، في بناء الشخصية، ورسم تفاصيل هذه الشخصيات وعوالمها وحواراتها وأفكارها، كل ذلك بشكل يجعلك تنحني أمام هذا الذكاء وتدين مجدداً لصناع بيكسار بأنهم أفضل الحالمين في زمننا هذا.
يقدم دكتور عمله بنهج بيكسار الكلاسيكي المعتاد التمهيد العقدة المغامرة الحل والأمثولة ولكن ضمن أسلوبيته الخاصة التي ابتدعها بـ Up  والتي أصبحت الآن أكثر نضجاً، التمهيد يأخذ مساحة موجزة جداً من العمل – كما فعل في Up  سابقاً صانعاً أفضل عشر دقائق بتاريخ الأستديو – يبدأ بعرض بسيط ووافي للشخصيات وملامح عالمه الجديد ومجدداً على خلفية موسيقى أسرة من مايكل غوتشينو يجعلنا ندخل بشكل انسيابي وسلس بعالمه ونتورط معه ونعشقه، ثم يقدم المعضلة وينقلنا للمغامرة التي كانت باعتقادي أكثر مغامرات بيكسار تميزاً وفرادة وربما من أفضلها، لينهيها مجدداً بحل مؤثر وشاعري جداً وأمثولة رائعة ثم ختام مبهر للأحداث مضحك ومريح وربما أفضل لحظات بيكسار كوميدية ضمن مسيرتها طوال عشرين سنة.
القصة ضمن عقل رايلي اندرسون فتاة بسن الحادية عشرة من منسوتا تعيش طفولة اعتيادية ولكن كما يفكر كل الأطفال هي مثالية تهيمن عليها البهجة بمساعدة المشاعر الأربعة الرئيسية الأخرى الحزن و الغضب والاشمئزاز والخوف، يبدأ العمل مع ولادة رايلي وتشكل البهجة مباشرةً في عقلها ثم تشكل الحزن بعدها فوراً وممارسة دورها برسم شخصية رايلي إلى جانب البهجة وصنع ملامح العلاقة الفريدة والذكية بينهم ، عدم تفهم البهجة لضرورة وجود الحزن وعدم قدرة الحزن على فهم نفسها وضرورتها والتعبير عن ذاتها وتبرير أفعالها، شيء من المنافسة بينهما تحسم في الطفولة لصالح البهجة التي توزع الأدوار بشكل متوازن مع فريق المشاعر وتحييد للحزن وتبني شخصية رايلي من جزر العائلة والصداقة والبلاهة والصراحة والهوكي وصديق خيالي هو بينغ بينغ ، قبل أن تتعرض رايلي لأول مأزق حقيقي بحياتها حين تنتقل عائلتها من مينسوتا إلى سان فرانسيسكو بعد صعوبات مالية تعاني منها العائلة وتتغير حياة رايلي تماماً، لا تعرف البهجة كيف تتحكم بالأمور وتكاد تفقد السيطرة تحاول الحفاظ على الوضع كما هو في ظل تغيير كل شيء ولكنها تفشل، تبدأ الحزن بالتدخل دون أن تعرف حتى سبب تدخلها، وعدم تفهم البهجة للحزن وعدم تفهم الحزن لذاتها يعقد الأمور أكثر ويدخل شخصية رايلي بشيء من الانهيار، وهنا يتحول العمل إلى المغامرة التي تبدو ضرورية وداخلة بصلب الأمور وممتعة جداً وفريدة .
مغامرة دكتور فريدة لأنها ربما للمرة الأولى ببيكسار لا يوجد فيها خصم أو طرف نقيد، حتى المنافسة أو عدم التفهم بين الحزن والبهجة لا يتحول إلى خلاف أو عداوة، هما دون أن يدريان مرتبطتان ببعض ولا تتخليان عن بعض أبداً ، بل هما بنفس المأزق ويخوضان نفس المغامرة ويتعاونان في شق طريقهما من الضياع ضمن عالم الذكريات طويلة الأمد للعودة إلى مقر القيادة لتصحيح العقل، دكتور ذكي حين يظهر شخصية رفيق رايلي الخيالي بينغ بونغ بتوقيت ممتاز ويتلاعب بالمشاهد حين يجعله يقود الحزن والبهجة ضمن مكب الذكريات التالفة بحجة إنه طريق مختصر ليوهمه إن هذا هو الخصم – وكل مبررات أن يكون الخصم موجودة بعد نبذه والتخلي عنه مع دخول رايلي مرحلة الوعي – ولكن وبذكاء مجدداً يخبرنا دكتور إنه ليس الخصم بل شريك في الورطة وطرف في الحل، لا يمكن أن يكون هناك خصم وصراع وجودي ضمن العقل البشري بين مكوناته لأن هذا يعني اختلال عقلي، دكتور كان حريص على ذلك وخاض مغامرته الفنية الخاصة بصنع مغامرة أحادية الطرف بلا خصم ونجح بصنع أحد أجمل مغامرات الأنيميشن، حتى بتصويره لتصرفات الغضب التي تورط رايلي أكثر لا يبدو تصرفاً عن سوء نية يبدو إنه تصرف نابع من ذاته ودكتور ينجح بألا يجعله سلبياً أو مكروهاً بل هو أفضل شخصيات العمل وأكثرها جاذبية .
أمثولة العمل وأفكاره أهم شيء، تصويره لعملية تشكيل الشخصية والنمو ممتازة وفكرة إن الحياة ليست كلها بهجة، الحزن ضروري جداً وهام جداً على مستوى البهجة، هو ليس شيء سلبي بل وسيلة للتنفيس والإنقاذ وطلب العون من الآخرين، هو طوق النجاة حين تتعقد الأمور والبكاء هو تطير للروح و ليس شيئاً سلبياً، وعملية  التغيير ليست بالضروري أن تكون سيئة حتى لو نسفت كل شيء مبهج قديم، الحياة لا تمشي بطور واحد هي تتنقل بين أطوار متعددة تتحول بها الذكريات القديمة المبهجة إلى مصدر حزن ولكن هذا ضروري حتى نبني شخصية جديدة ونصنع لها ذكرياتها المبهجة الجديدة، بينغ بونغ أدرك إن وجوده لم يعد ضروري ورايلي لم تعتد تحتاجه فضحى بنفسه لأجلها، البهجة أدركت إن الحزن هو الحل والمنجد للشخصية حتى لا تضيع فسلمتها زمام الأمور في المأزق، حتى الكوابيس هامة جداً وضرورية في مرحلة من المراحل، كل شيء في العمل له أهميته وضرورته ، كما Up  يصنع بيتر دكتور مجدداً عملاً مبهراً عن التحرر والانعتاق من الماضي حتى لو كان مبهجاً – وهنا الفرادة في العمل – في سبيل المضي بالحياة وصنع شخصية جديدة .
الصورة التي يصنعها بيتر دكتور كعادته مبهرة بألوانها وتفاصيلها يصنع عملاً متوازناً بين مغامرة مميزة ومشوقة وأمثولة رائعة ولحظات شاعرية وكوميدية مميزة وذكية، مشهد الصراع بين رايلي ووالديها على طاولة العشاء هو ربما من أكثر المشاهد إضحاكاً وأكثر المشاهد ذكاء بمسيرة بيكسار، عقل الأب يتحكم به الغضب وهذا شيء منطقي في حياة رب عائلة يعاني من ضغوط عديدة ولكن غضب مكبوح ومتزن، عقل الأم يتحكم به الحزن وهذا ليس مستغرب والمرأة في كل مكان تضحي من ذاتها في سبيل العائلة ويخيفها كل شيء وتتوقع الأسوء دوماً، عقل الأب الرجولة غاضب وعقل المرأة الأنوثي حزين وعقل الطفل مبهج هذه هي الحياة وهكذا يصورها دكتور بشكل ذكي ومختصر وفي نهاية العمل يعطينا جولة رائعة بعدة عقول حتى الحيوانات ويرينا تفاصيلها بشكل مبسط متناسب مع شخصيتها ومضحكة جداً ، بالمحصلة هذا كلاسيكية جديدة من بيكسار وأفضل أعمالها منذ 2009 فيلم عظيم ومتكامل حتى خارج نطاقه كأنيميشن وتحفة حقيقية معاصرة .

10 / 10      

0 التعليقات:

إرسال تعليق