RSS

Au revoir les enfants: Goodbye Children – 1987


يروي الفرنسي لويس مال في فيلمه هذا الحائز على أسد فينيسيا الذهبي لعام  1987 (وداعاً أطفال) قصة مستوحاة من طفولته الخاصة في أحد المدارس الكاثوليكية الفرنسية عام 1944 حيث يكتشف الفتى جوليان كوينتن (تجسيد لويس مال الفتي) أن زميله جان بوني هو فتى يهودي خبئه مدير المدرسة عن أعين وأيدي المخابرات النازية زمن الهولوكوست، القصة مغرية جداً لتكون مثيرة عن فتى في بداية طور المراهقة يخوض تجربة انتحال هوية مختلفة في زمن خطر أو عن فتى يحمل سراً خطيراً  لا يعرف كيف يتعامل معه، لويس مال لا يترك هذا، بل يتعامل مع إثارة راقية مندسة تحت السطح ويجعل هذين المحورين جزء في قصة أكبر، مال يصنع فيلم هولوكوست مختلف، الهولوكوست فيه محور فقط يضاف إلى محاور عديدة يناقشها ببساطة دون أن يتمحور فيها ، عن الحالة الفرنسية زمن فيشي، عن المدارس الدينية الداخلية، عن أطفال يخوضون تجارب استثنائية مع إقبالهم على البلوغ، يجمع هذه المحاور ويمزجها ليصنع خليط استثنائي خاص عن فيلم ليس عن الطفولة والبلوغ ، ليس عن الحنين، بل عن تلك المرحلة، عن ذكريات يستعيدها مال ويرويها بالكثير من الرقة والكثير من الألم والكثير الكثير من الشغف.


ربما هو أحد أكثر أفلام التجارب الذاتية استثنائية، فسيفساء رائعة من عدة قصص لا تطغى إحداها على الأخر وجميعها مشوق ومعمول بطريقة ممتازة، يمكن أن تراه كقصة جوليان المنتمي لعائلة هشة تبعده والدته عنه إلى تلك المدرسة ، هو طفل مكسور وضعيف من أم منشغلة وأب لاهي وأخ متمرد، في المدرسة ينتحل شخصية القوي والصلب رغم ضعف بنيته ربما كطريقة ليفرض احترامه بين اقرأنه وربما تعويض عمّا افتقده وربما كل هذا، وهذه الازدواجية التي يعيشها تفعل شيء يشبه المغنطيس يجذبه لجان بوني الذي يعيش ازدواجية أصعب بين حقيقته كفتى يهودي وبين شخصيته المختلقة كفتى كاثوليكي، يراقبه ويلاحظ أشياء غريبة ومريبة عنه، وسلسلة من المواقف المتراكمة وخلافات وتناقضات تبني بينهما صداقة سريعاً ما انتهت ولكن بقي أثرها طويلاً في نفس جوليان ربما شيء من تئنيب الضمير وربما أثر الصداقة الحقيقية الذي لا تردمه الأيام وربما أيضاً كل هذا.
مال مبهر حين يجعلك تشعر إنك تشاهد فيلمان في وقت واحد، فيلم عن جوليان وحياته في المدرسة و فيلم عن التجربة المرعبة التي يخوضها جان وكيف يمزج بينهما بهدوء ويجعلها متداخلان بحذر ليصنع فيلم ثالث عن علاقتهما دون أن يهتز البناء الخاص لهما بل يبقى موجوداً ويستمر ويصبح أقوى، ولا يكتفي مال بهذا بل بين أفلامه الثلاثة المتداخلة هناك قصص عديدة ينثرها هنا وهناك مفيدة ومصنوعة بمتانة، قصة جوزيف الطباخ الأعرج الشاب الفقير في مدرسة للأثرياء والمحنة التي يتعرض لها سواء من حبه المريض لفتاة هوى وشعوره بالدونية من فقره وعجزه وتعويضه ذاك بذكائه التجاري الخاص مع حقده الخفي الذي يتفجر في النهاية يبدو هذا المحور أيضاً فيلماً خاصاً يدخله مال مع أفلامه الثلاثة ويدعمها وتدعمه.
حصيلة الأفلام الأربعة التي نراها تشكل لوحة الطفولة والنمو والبلوغ، الفتى المقبل على المراهقة الذي يرى العالم بعيون مختلفة من خلال حياة الدير ونفاق القائمين عليه، وجو الفوضى النفسية الذي تصنعه الحرب والاحتلال والعنصرية والأحقاد الذي تفجره، مع تشتت العائلة والصداقة الغريبة تبدو كلها عناصر تبني شخصية جوليان – مال التي عبر عنها لاحقاً بأفلامه، وحين يكون العمل عن تجربة ذاتية للمخرج لابد أن يكون لشغف السينما والجمال النسائي موجود، جوليان ينجذب لمعلمة البيانو الفاتنة (الرائعة ايرين جاكوب) التي يهواها أخاه أيضاً، يريد أن يصبح مبشراً ولكن مشاهدة عرض لشابلين في الدير – في أحد أكثر مشاهد العمل حميمية – تبدو وكأنها تفجر فيه شغفاً لا يفهمه.
العمل عظيم جداً بهذا التوازن الاستثنائي الذي يصنعه، كيف يجعله مال بغاية الإثارة رغم تعطيله لكل مفاعيل الإثارة التقليدية، وكيف يجعله بغاية الشغف رغم إنه أيضاً لا يهتم أيضاً بجعله متفجر العاطفة، كيف يوازن بينهم ليجعلهم فيلم عن التجربة بكل حيادية، فيلم عن الصداقة والنضوج ورؤية العالم بعيون مختلفة، كيف يركز على التفاصيل وعلى مشاهد عابرة ومواقف عادية ليجمعها كاملةً بلوحة خاصة أسرة، هذا فيلم التفاصيل، تفاصيل ليست حميمية بقدر ما هي بريئة وتدغدغ المشاهد ببراءتها وليست عاطفيتها وربما هذا سر العمل، ومفتاح سره كان باعتماده ببطولة عمله على الأطفال بالكامل دون أن أهمية للبالغين، وبقدر ما هذا الأمر صعب بقدر ما نجح مال بالتحكم به تشعر وكأنه جمع أطفاله في الدير وأدار الكاميرا وقال لهم ألعبوا وتشاجروا وعيشوا واكتفى بتصويرهم وجلب ذلك للعمل نتيجة فوق المتوقع بقوتها، وفي نفس الوقت هناك أداءات جبارة من غاسبارد مانسي و رافايل فيغتو بدوري جوليان وجان، هناك استغلال مميز للمكان وجعله بطلاً بالعمل وتصوير مبهر وموسيقى عظيمة، تصنع أحد أكثر أفلام الهولوكوست رقة، أكثر أفلام حياة الحرب العالمية الثانية شفافية، أكثر أفلام المدارس الداخلية جمالية، أكثر أفلام البلوغ عذوبة، ومجموعهم أكثر أفلام التجارب الاستثنائية استثنائية .

10 / 10 

0 التعليقات:

إرسال تعليق