RSS

The Revenant - 2015


هذا الفيلم يذكرنا بحقيقة السينما، إنها ليست فناً، ليست رسالة، هي قبل كل ذلك تجربة، هروب من الواقع إلى واقع بديل، خوض تجارب جديدة من أمام القماشة البيضاء العملاقة، ثم أصبحت فناً بوسائل عرض هذه التجربة، والرسالة جاءت من خلال استخلاص أمثولة من هذه التجربة، حين نعود إلى بدايات السينما كشرائط جورج ميليس القصيرة كان من الواضح جنوح السينمائيين والمتابعين إلى تحويل الأفلام إلى بوابات لخوض تجارب جديدة واكتشاف عوالم أخرى ، وعبر أكثر من مائة سنة من تقديم الأفلام اختلفت طرق خوض تلك الرحلات، ومع وصول السينما هذه الأيام إلى قمة تطورها التقني بفضل تقنية الـ3D  لم يعد المشاهد يكتفي بأن يشاهد التجربة ويراقبها بل أصبح يعيشها حرفياً، اصبح من الممكن عليه أن يكتشف كواكب أخرى أو يضيع بالفضاء ، إليخاندور كونزاليس أناريتو برائعته الجديدة هذه يعيد السينما لأصولها التقليدية، لكلاسيكيتها المحببة، يقدم صفعة جديدة لكل رواد السينما التقنية ويقول لهم إن الطريقة القديمة بصنع الأفلام ما زالت هي مفتاح السر بعظمة هذا الفن، يرمي الشاشة الخضراء، يخرج من الاستديوهات الضيقة، يستغني عن الكاميرات الرقمية، لا يوظف دوبلير، ينطلق في البراري الرحبة  لا لينقل التجربة للمشاهد بل لينقل المشاهد للتجربة والمغامرة ويجعله يعيش أسوء وأصعب مخاوفه وتحدياته، محولاً الطبيعة بالطريقة الكلاسيكية إلى أصعب وأخطر تحدي يواجه الإنسان، أصعب حتى من الضياع بعيداً في الفضاء.


أليخاندرو كونزاليس يصدمني مجدداً بالمشاريع غير التقليدية التي يخوضها وبالأسلوب الاستثنائي التي يعالجها بها، بعد عام واحد على رائعته الرجل الطائر ينتقل إلى موضوع أخر مختلف تماماً، يحمل ككل مشاريعه الأخيرة روح التجريب والثورة في الصناعة، أفلامه الخمسة السابقة جميعها في قوائمي لأفضل عشر أفلام في أعوامها والطائر كان أفضل فيلم لعام 2014 وفيلمه هذا يبدو أيضاً بطريقه ليدخل قائمتي لأفضل أفلام هذا العام ، صحيح إني ما زالت عند تفضيلي لثلاثيته مع غاليرمو أريغا واعتبرها أفضل ما قدمه للآن بالأخص Amores Perros  ولكن أفلامه اللاحقة هذه لها طعم خاص، في هذا العمل يقدم لنا ما يمكن أن نعتبره فيلم وسترن ولكن مختلف عن أي وسترن شاهدناه، يقدم لنا قصة شبيهة بالأساطير الشعبية ولكن بأقل قدر ممكن من المبالغة أو الأحداث الثانوية والجانبية والصراعات، القصة بسيطة جداً نختصرها بسطرين، ولكن أناريتو يبدع هنا بالصورة، بالتفاصيل التي يقدمها ، بالإحساس العالي بالواقعية الذي يقدمه والذي يلمس المشاهد بالصميم، يجعله تجربة شاقة جداً على ممثليه وكادر فيلمه ومتابعيه ،  أناريتو أصر على الخروج إلى المساحات الواسعة في براري الأرجنتين وكندا، أصر على التصوير بطقس عاصف لدرجة إنه أحياناً لم يكن يصور سوى ساعة واحدة في اليوم لإصراره المرضي على الاتقان وعلى أن يخرج الفيلم كما يريده مصوراً بالإضاءة الطبيعية رامياً مجدداً التحدي على الأسطورة ايمانويل لابوسكي الذي يبدو إنه يعشق التحديات ودوماً يقدم نتيجة فوق المتوقع تجعله من المصورين النادرين في التاريخ الذين ينافس تأثيرهم تأثير مخرج العمل وممثله، لم يستعن بمؤثرات بصرية ليصور هجوم الدب والمعارك بل استعان بدب حقيقي ولم يستعن بدوبلير يحل محل البطل بمشهده الأخطر بل رمى بنجمه بين مخالب الدب بهووس كوبريكي للواقعية، العمل مليء بالمشاهد المرهقة والخطرة ، أشبه برحلة توثيقية لتحدي المستوطنين الأوائل لأمريكا للطبيعة القاسية ، اطلق ممثليه في قلب العاصفة وأدار كاميرته ليرى كيف سينجون، وكيف سيتصرفون، ما شاهدناه من ألم وتعب وإرهاق وتجمد أغلبه واقعي بالكامل جعل التجربة حقيقية جداً، جعلتني كمشاهد لا اهتم بالقصة – وهي محبوكة بشكل جيد رغم بساطتها – بل أتلمس تحت جلدي قوة الكائن البشري وهو بضآلته يواجه الكون بأكمله ، يواجه العواصف والحيوانات المتوحشة والهنود الغاضبين ويواجه الشيء الأخطر ، الظلمة البشرية والوحشية الإنسانية التي صقلتها الطبيعة أثناء صراع الإنسان معها، وهذا هو الأهم بإنجاز كونزاليس هو أن نغرق بتلك التجربة أن نلمس واقعيتها وصدقها وقسوتها أن نتلمسها وقد نجح بذلك بشكل غير معقول.
أناريتو ولابوسكي استفادا من البيئة لأبعد الحدود ليحولا العمل إلى سلسلة من اللوحات البصرية الرائعة، وأناريتو اعتني بتفاصيل المكان والبيئة بشكل قريب للهوس، عمله متكامل العناصر الفنية من مكياج وملابس وإخراج فني ومونتاج ويقدم موسيقى شديدة التأثير من رايشي ساكاموتو وكرستن نيكولاي.
العمل لا يخلو من الرسائل، هناك العديد مما يقوله كونزاليس بشكل غير مباشر، عن قسوة المستوطنين الأوروبيين بالتعامل مع الهنود الحمر، عن وحشيتهم في السعي لترويض القارة الجديدة، عن الثمن والدماء التي سالت حتى ظهرت أمريكا القوة العظمة، عن القوة الكامنة لدى الإنسان ويقدم لمحة عن صراع الإنسان البدائي ضد الطبيعة العدائية، ولكن مع ذلك فأناريتو لا يحول فيلمه إلى رقص مع الذئاب أو عصابات نيويورك، يبقي تلك الأمور تحت السطح وهو ينجح أغلب الأحيان بذلك، يقدم تل الأمور كتلميح بسيط لا أكثر، ولكن تفلت منه الأمور أحياناً يتجه للمباشرة ببعض المواقع دون أن يعطي موضوع الهنود الحمر العمق المطلوب وهذا ما ساءني بالعمل وجعلني أفكر لماذا أختار أن يكون أبن غلاس هندي أحمر وما فائدة أن تكون زوجته المقتولة هندية حمراء؟، هو سينتقم حتى لو لم يكن ابنه هندياً أحمر وثأر زوجته لم يحركه والتفاصيل التي قدمها عن قبيلة الهنود الحمر ومطاردتهم للتجار الأمريكيين لم تخدم العمل.
ليوناردو ديكابريو في العمل موضوع آخر، هو باختصار يقدم أفضل أداء بمسيرته، بعد أن وصل للقمة مع سكورسيزي في Wolf of wall street  يعود هنا ليتفوق على نفسه مجدداً، هو يتبع أسلوب أخر من التمثيل، التمثيل ليس فقط انفعالات وصراعات درامية داخلية وانفجارات مسرحية خارجية، التمثيل هو تصديق الكذب، هو إخبار المشاهد إن ما يراه كذبة ثم إقناعه إن الكذبة حقيقية، ديكابريو ينتصر بهذا النوع، يقنع المشاهد بالتجربة الصعبة التي خاضها ويجعله يصدقها ويلمسها ويشاركه بها، هو  يبذل مجهوداً واضحاً و التزاماً حقيقياً ليتقن الدور، يتعايش مع الطبيعة يتعلم طرق النجاة في الحياة البدائية، يعارك الدب يتعلم الصيد سلخ الحيوانات أكل السمك الني يكوي جرح رقبته ، يخوض مغامرات في البيئة الطبيعية ينام ضمن هيكل حصان، يقع في نهر جارف التيار، يتكلم بالهندية وقوة أدائه ليست هنا فقط بالتعذيب الذي يخوضه، بل بالصراعات الداخلية التي يعيشها، تجسيد آلام الجروح والعرجة بالمشي بعد إصابته من عراك الدب وفقدان القدرة على النطق بعد جروح رقبته، والحفاظ على تركيزه بتجسيد الألم وإيصاله للمشاهد رغم غن أدائه صامت بأغلبه مع مواجهة صعوبات البيئة والطبيعة، والأهم تجسيده الألم الداخلي من غدر من حوله وفقدان أبنه التي فاقت ألام جسده ، في مشهد مراقبته لقتل ابنه وهو عاجز حتى عن الصراخ وتجسيده الآلم بنظرات عينيه قدم اللحظة الآدائية الأفضل بمسيرته ومشهد هلوسته بالكنيسة المحترقة لا يقل روعة ، توم هاردي باجتماعه الثاني مع ديكابريو بعد رائعة نولان انسيبشن يعطي الظلمة البشرية ووحشية الطبيعة المنعكسة على داخل الانسان ابعاداً جديدة، هو ليس شخص نذل، هو شخص خائف، شخص متعب، شخص يريد النجاة والحياة مهما كانت الضريبة ومجدداً يبرز إنه أحد فضل ممثلي جيله وممثلي هذه المرحلة الحاليين.
9/10

  

0 التعليقات:

إرسال تعليق