RSS

Citizen Kane – 1941


في الشهر الماضي أصدرت الـ BBC  قائمتها لأفضل 100 فيلم أمريكي وأثارت جدلاً كبيراً لعدة أمور يطول شرحها أبرزها عدم وجود أي فيلم لأليا كازان ضمنها، ولكن المرتبة الأولى لم يصلها شيء من النزاع والاعتراض وهي التي استحوذ عليها فيلم أورسن ويلز (المواطن كين – Citizen Kane) بتجديد لما فعله معهد الفيلم الأمريكي عام 1997 حين أختار تحفة ويلز هذه على رأس قائمته لأفضل 100 فيلم أمريكي بمناسبة مرور 100 عام على صنع السينما، عودة وإصرار المواطن كين على تصدر القوائم المئوية السينمائية الرفيعة أعاد لي بحماس الرغبة الجامحة بالكتابة عنه والتي كنت أكبتها منذ أن شاهدته أول مرة منذ حوالي 10 أعوام ، التعامل مع فيلم يعتبر ليس فقط الأعظم بتاريخ هوليوود بل والأكثر تأثيراً على مسيرة السينما ككل يصيب الكاتب بشعور بالرهبة ،فهذا سيقود حتماً إلى تحويل المقال أما إلى تفنيد لأسباب كون الفيلم هو الأعظم والانغماس بهذه الجزئية مما يجعلنا نبتعد عن الحديث عن الفيلم كفيلم، أو تجاهل جزئية تأثيره ومناقشته كأي فيلم عادي مما قد لا تعطي الفيلم حقه، أعمال مثل كين أو العرّاب أو لورانس أو أوديسا أو سائق التكسي أو ذهب مع الريح ليست عظيمة فقط لتأثيرها التاريخي بل لما تخلفه من أثر لدى أي مشاهد يكاد يكون من الصعب إيصاله ببعض كلمات ومن الأغلب أن أي مقال عنها مهما كان احترافياً سيكون أقل من عادي لأنه لا يمكن مقاربة جوهر روعة المادة الأساسية التي نعالجها، ولكن مع ذلك لم استطع منع نفسي أكثر من الاستسلام لرغبة الحديث عن كين فأعدت مشاهدته مؤخراً وجلست وراء اللابتوب محاولاً أن أفند أحساسي نحو فيلم متواجد دوماً في قائمتي لأفضل 10 أفلام شاهدتها والله المستعان.


 الأسباب المسبقة لاعتبار كين الأعظم تأثيراً بالتاريخ معروفة دون الحاجة لأي تفنيد ، الفيلم غير أسلوب التعامل مع رسم الشخصيات المركبة والتعامل معها، بدءً من البداية التوثيقية، أسلوب البحث والتنقيب وراء الشخصية، رسم السلوكيات والطباع والانطباعات حولها والعودة في نفس الوقت للنبش بماضي الشخصية وطفولتها ودراسة تأثير تلك الطفولة عليها، أسلوبية الصعود والهبوط، ارتباط الشخصية بزمنها والتحولات فيه وتأثيره وتأثره بتلك التحولات، السيناريو المحكم المليء بالتفاصيل الشخصية العامة والخاصة والحوار المبهر المليء بالتلاعب اللفظي الذكي الذي خلف العديد من المقاطع الحوارية التي لا تنسى، الأداء الدرامي العميق الواقعي البعيد عن الانفعالية المسرحية، وتأثير القصة وإسقاطها على أحد الشخصيات الحقيقية المثيرة للجدل، نجاح الفيلم بتحرير السينما لأول مرة من عقلية المنتج وإعطاء الاستقلالية الكاملة لصناعه بالتعبير عما يريدون تقديمه وصنع فن حقيقي مثير وهام ومهم لا مجرد عرض ترفيهي جماهيري، وطبعاً التأثير التقني الذي لا يمكن إنكاره على صعيد المونتاج والتصوير من زواية صعبة وحلول الضوء والظلال واستعمال المرايا وانعكاسات الزجاج والكوادر الخلفية للمشاهد.
هذه الأمور معروفة ويمكن الحصول عليها من قراءة أي مقال أو كتاب عن تاريخ السينما والفيلم دون الحاجة لمشاهدته، ولكن سر عظمة الفيلم الحقيقية هي بجوهره، أنت من الممكن أن تشاهد الفيلم دون أن تعرف إنه الأعظم وتنبهر به، بل إن أي مشاهد أثناء متابعته للعمل سيغرق به وينسى إنه الأعظم ويستمتع بكل تفاصيله – حتى التقنية رغم مرور أكثر من سبعين سنة على عرضه – ويخرج مبهوراً بما رآه، الفيلم محكم جداً وممتع جداً وهام ووافي جداً على صعيد القصة والدراما التي يقدمها، يجعلنا لنعيش لأكثر من ستين سنة مع شخصية مضطربة معقدة متناقضة غامضة ومؤثرة جداً على زمانها، تشارلز فورست كين رجل الإعلام والأعمال ، الأسطورة غريب الأطوار، الغامض المليء بالأسرار الذي عاش حياة استثنائية مليئة بلحظات النصر ولحظات الإخفاق قبل أن يمضي أخر أيامه منعزلاً في مملكته الفارهة (قلعة زنادو) التي تعتبر من أعاجيب زمانها كالأهرامات  وأبراج بابل.
أورسن ويلز بعمله يملك الحبال التي تجعل المشاهد بذكاء يرتبط بالعمل منذ اللحظة الأولى ويثير فضوله حوله، بدءً من الافتتاحية العظيمة وكلمة ممنوع المرور على لافتة بيضاء تحت عبارة كين العظيمة والكبيرة فوق قلعة زنادو، ثم عبور أسلاك هذه القلعة العالية ودخولها وهي الغارقة بالظلال والعتمة والغيوم وموحشة وغامضة ومحاطة بحديقة مليئة بالوحوش التي تعيش بغابة مصطنعة ومكتظة بالداخل بالتماثيل والتحف الصامتة الموحشة دون أي حس بشري كقصر سيد مرعب من الأزمنة الارستقراطية ، كين يحتضر ويقول (روزبد) ثم يرمي من يده الكرة الزجاجية لبيت ريفي غارق بالثلوج ويموت، ويبدأ بعدها الفيلم بعرض توثيقي محكم الصناعة وغاية الواقعية عن هذه الشخصية المثيرة جداً والغامضة والموحشة كقصره العجيب، ويتحدث عنه وعن حياته وإنجازاته بالتفاصيل، النتيجة تعجب المنتج ولكن لا ترضيه بالكامل، يريد أن يعرف ما معنى (روزبد) التي نطقها كين قبل أن يلفظ أنفاسه فهي بقناعته مفتاح أسرار هذه الشخصية الغامضة التي نجهل عنها أكثر مما نعلم ورحلت وخلفت الكثير من الأسئلة عن تصرفاتها وأسبابها والدوافع ورائها، يكلف أحد صحفيه بالسعي وراء روزبد فيقوم برحلة تحقيقية مشوقة جداً نكتشف بها الكثير وتثير تساؤلات أكثر ونعلم الكثير والكثير ولكن تبقى روزبد هي السر الذي لا يفصح عنه ويلز سوى سريعاً بالنهاية.
أسلوبية التحقيق التي ينتهجها ويلز بعمله مبهرة وعظيمة للغاية ومشوقة حتى بمنظور سينما اليوم، لا تجعلنا نرى كين وإنما انطباعات الأشخاص الذين أحاطوا بكين حوله، أسلوبية لا تجيب عن سؤال إلا لتطرح لنا أسئلة أخرى أكثر صعوبة، ومصادر المعلومات عن كين مختلفة كل واحد منهم عاش مع كين فترة ضمن نطاق وحدود معينة واختلفت علاقته بهم مما يجعلنا نرى كين بأكثر من وجه وصورة مما يزيد من غموض الشخصية وجاذبيتها وتشويقها ويعاملنا كمشاهدين كالمحقق ، لا نرى كين من الداخل، - والعمل كله لا يوجد فيه سوى مشهد واحد إفصاحي عن دواخل وتناقضات وهواجس كين الداخلية - ، بل نراه فقط كما عرفه من حوله ويحوله لنا إلى لغز وأحجية جيتسو مرهقة نستمر طوال العمل نجمع أجزائها علنا نصل إلى الصورة الحقيقية أو أقرب شكل لها، بل حتى طريقة عرض التحقيق مميزة جداً بالعمل، ويلز لا يكتفي أن يجعله محققه يدور حول أشخاص ويكلمهم، بل كل مرحلة تحقيق لها ميزتها الخاصة التي تدفع الملل عن المشاهد، يقرأ في البداية مذكرات الوصي عليه الذي تكفل بتربيته والمثير للفضول إنها المرحلة الأقصر بالعمل ولا تتحدث عن طفولة كين سوى عن موقف واحد حين دفعه أهله للرعاية في أحد المدارس الداخلية تحت إشراف البنك الذي تولى استثمار منجم الذهب الموجود بمزرعة عائلته، كيف تخلت عنه ولادته بكل قسوة وسحبوه من منزله وعائلته وألعابه لينشئ بين مجموعة من العجائز الأثرياء دون أن نرى أي ملامح عن طفولته اللاحقة فيقفز المونتاج المبهر سريعاً بين عيد ميلاده الثامن والخامس والعشرون بعدة إشارات من ويلز إن هذه الشخص لم يعش طفولة ولم يحظى بالحب والرعاية العاطفية التي يحتاجها أي طفل، ومن رباه لم يعرفه حقاً ولم يهتم أن يعرفه، تعامل معه كاستثمار يربيه ويكبّره ليستفيد من أرباحه مستقبلاً، وحين كبر كين واستقل عنه تحول إلى أشرس أعدائه، ترك كل استثمارات شركاته واكتفى بإدارة صحيفة واحدة صغيرة خاسرة ولكن سخرّها لشيء واحد فقط فضح تلك الشركة – التي يملك أغلب رأس مالها - وألاعيبها وتجاوزاتها بحجة إنه واجبه كصحفي فضح الحقيقية والرغبة الخفية هي انتقام وعقوبة لا يفهمها الوصي ولا يهتم لإصلاح الخلاف مع كين بل يتعامل معه كالجاحد ويتحول الأمر إلى نزاع وخلاف وصراع.
يذهب المحقق بعدها إلى البار الذي اشتراه كين لزوجته الثانية سوزي التي عاش معها كين عشر سنين ودعمها بمسيرتها لتصبح مغنية أوبرا بل وسعى ليبني لها دار أوبرا كان من المفروض أن تكون الأعظم بزمانها ولكن الطلاق وقع وحال بينهم، نرى سوزي شخصية مدمرة مدمنة على الخمور هاذية طول الوقت لا يحصل منها المحقق أي معلومات مفيدة، يذهب بعدها إلى مدير أعماله الذي تولى حالياً إدارة شركاته وهو أكثر شخص رافقه بمسيرته، ولكنه هو الشخص الذي يعرف أقل، نعم كان معه منذ اللحظة الأولى ولكن دوره الوحيد طوال الوقت كما في المشهد الأول لدخول الصحيفة أكتفى بأن يحمل حاجياته و يستجيب لنزاوته و يحقق طلباته بلا أي أسئلة بلا أي نقاش ، هو الشخصية المثالية التي أرادها كين الخانعة القابعة بظله وفلكه، كان دوماً كريماً معه ولكن لم يكن دوماً شريكاً حقيقياً، نرى كين في هذه الجزئية شخص لديه مشروع أو فكرة، غير وجه الإعلام، اتبع آلية جديدة بالعمل الصحفي، تعرض لصعوبات، حول صحيفته إلى أحد أقوى وسائل الإعلام بأمريكا، صنع إمبراطورية خاصة هو سيدها، بدأ بمشروع أن يناصر الإنسان العادي والعامل البسيط ولكنه فيما بعد باع مبادئه وتحول إلى أحد مستغلي العمال وقضاياهم والمتاجر بها، شخصية مهووسة بالتماثيل والتحف النادرة ، لديه هوسه الخاص بالعظمة، حتى زواجه الأول من ابنة أخت الرئيس الأمريكي ليس سوى رغبة بأن يضم تمثال أخر إلى مجموعته ونافذه ليدخل منها عالم السياسة ليصبح أكثر عظمة ، ثم انتهى هذا الزواج سريعاً حتى قبل الطلاق، حين أدركت زوجته إنها لم تكن سوى غاية لتحقيق طموحات كين غير المفهومة وإنه شخص مهووس فقط بأحلامه التي يعرفها إلا هو، وويلز ذكي حين يجعل من شخصية الزوجة الأولى متوفاة حين القيام بالتحقيق، فهي الشخصية التي اتصلت بحياة كين الخاصة أكثر من غيرها وربما لديها الحلول الحقيقية لألغازه، ولكنه متوفاة دون أن مذكرات مما يزيد من الغموض والحيرة حوله.
مرحلة زواجه الأول وفشله وترشحه الرئاسة وسقوطه وزواجه من سوزي يتحدث عنها بإسهاب مع جيداداي الشاهد الثالث على حياته وصديق طفولته ويقدم جانباً أخر من هذا الشخص، هذا القسم هو الأطول بالعمل، ليس لأن جيداداي أطول من عاشر كين ولكن لأنه أول من اكتشفه حقيقته وأكثر من رأه بعمق، كين اشترى من جيدادي طموحاته وأفكاره ونظرياته حول مساعدة الإنسان البسيط على أن يحققها بصحيفته، ثم سخر هذا المشروع بالكامل ليحقق انتقامه ويصنع عظمته الخاصة وراح يتاجر بالمبادئ وبميثاق الشرف الذي ابتكره ، جيداداي بقي على وفائه له ولكن مع الأيام بدء بالتحول ضده وهو يرى كين يغرق أكثر وأكثر بأسطورته الخاصة المختلقة، ومعه غرق هو بالإحباط وإدمان الخمر حتى يأتي مقاله الناقد لأداء سوزي الفاشل للأوبرا كصرخة إنه لن يستمر أكثر بالدوران بفلكه سينال حريته وكين أكمل هذا المقال وجعله أقسى وكأنه يرد عليه إنه ورأيه ورأي أي شخص لا يعني له شيئاً ولا يهمه ولن يغير شيء بل ما يهم هو رأيه هو فقط ونظرته للأشياء، حتى لو اجتمع كل كتاب الأرض على أن أداء سوزي سيء سيبقى عظيماً لأنه بنظره عظيم، وبعد أن انتهى كل شيء بحياة كين وتخلى الجميع عنه وأقام في معتزله الخاص بقصر زنادو الذي صنعه من التماثيل الصامتة التي أشتراها والتي تمجد عظمته أشتاق للصخب البشري ، للصوت الذي يذكره إنه إنسان يخطئ ولا يسبح فقط بعظمته، فكان جيداداي هو الشخص الوحيد الذي راسله وطلب لقائه ولكن كان الأوان قد فات وجيداداي قطع هذه المرحلة ولم يعد يريد التواصل معه.
كين حين دخل ترشيحات الرئاسة لم يكن همه مصلحة الشعب ومساعدته، لم يهمه سوى فضح سلوكيات منافسه ولم يهمه سوى جمع أكبر قدر من المحبين – التماثيل حوله – التي تهتف له وتصفق له وتتماها مع حبه، لذلك حين عثر على فتاة حقيقية اهتمت له كشخصه دون أن تعرف من هو أو الهالة التي حوله تخلى عن كل شيء لأجلها وأضاع فرصته للرئاسة ودمر زواجه المثالي، مشهد لقائه الأول بزوجته الثانية سوزي هو المشهد الوحيد الذي تخرج به شخصية كين عن إطار الغموض حولها ونلمس شيء من حقيقتها وهواجسها وصراعاتها الداخلية، نرى لمحة مما يريده كين وافتقده طوال عمره، كين كان في رحلة إلى مستودع وضعت فيه والدته أغراض طفولته الأولى، كان في رحلة نبش عن الماضي واستعادته، نراه متعباً تائهاً حزيناً وراء كل القوة والعظمة التي كادت توصله إلى كرسي رئاسة الدولة الأعظم في العالم، يلتقي بسوزي البسيطة الساذجة العفوية وتعجب به فوراً دون أن تعرف من هو بالحقيقة، وهذا الشيء يثير فضول كين الذي عثر على من تعجب بمعدنه لا بالصورة البراقة وهالة العظمة التي ابتدعها ، تخبره إن والدتها كانت دوماً تلح عليها أن تكون مغنية أوبرا ولكن صوتها يشبه صوت غناء الأمهات لا يصلح للمسارح، مما يرسم الفضول والشوق بعيني كين فيلح عليها أن تغني له وينتشي لصوتها الأمومي الحنون، ويغرق بعلاقته معها التي عثر بها على ما يريده فعلاً، حب صافي حقيقي عذب بعيد عن الزيف والنفاق والبيع والشراء فتخلى عن كل شيء من أجلها وعرض نفسه وسمعته للخطر، ثم دمر هذا الحب بيده حين لم يعرف كيف يبادله أو يقدمه.
مرحلة زواجه من سوزي وتدمير حبها له وتدميرها معه ، ترويه زوجته سوزان إلكساندر هذا الجزء فيه الكثير من الكثير من التعبير عن أسلوبية كين في التعامل مع الآخرين، كين أراد مكافئة سوزي على حبها الصادق له فجعل من تحويلها لمغنية أوبرا مشروعه وأراد أن يبني لها أعظم دار أوبرا، كين لا يعرف الحب إلا من هذا المنظور أن يشتري ، يشتري الأشخاص بسخاء بأن يقدم لهم ما يظن أنه يحتاجونه دون أن يهتم فعلاً إن هذا ما يريدونه حقاً ، وكل ما يفعله وينفقه يصب في النهاية بخانة مصالحه وعظمته الخاصة، هو بحجة حبه لسوزي يريد أن يكون الشخص وراء صناعة أعظم مغنية أوبرا ووراء بناء أكبر مسرح في الأرض، في حين إن سوزي لا تريد كل هذا ولا يكفيها سوى عاطفة حقيقية لا يعرف كين أن يقدمها، ولا يهتم أن يستمع لرأيها فما يهم ما يريده ويفكر به هو وهو الصواب الوحيد بنظره، لدرجة أنه يضغط عليها ويؤذيها في سبيل هواجسه، وهي تدرك إنها فاشلة وسخرية في مجال الفن مهما سعت صحف ووسائل إعلام كين بتمجيد نجاحها، ولكن وجود أشخاص لم يستطع كين شرائهم مثل جيداداي نطقوا بالحقيقية كان  كفيلاً بتدمير مشروعه بالكامل، وبعد رحلة العذاب مع الأوبرا وضعها كين في قصره أغدق عليها قدم لها كل ما يستطيع من مال وهدايا وتحف معتقداً بذلك إنه يعبر لها عن حبه غير مدرك إنه يحولها إلى صنم أخر من أصنامه، حتى تتخلى عنه في النهاية وتتركه فينهار كين ويحطم كل شيء بالتعبير عن الحسرة والغضب من ذاته التي لم تستطع مع كل ثروتها أن تمتلك شيء حقيقي أو تحافظ على شيء حقيقي، غضب من ذاته التي لا تعرف كيف حب ولا تستطيع شراءه مهما دفع ثمنه، وهذا القسم يرويه الشاهد الأخير رئيس الخدم الذي تولى الأشراف على العناية به في السنوات الأخيرة من حياته وكان كغيره صنم من أصنامه .
علاقة كين بالحب هي الأكثر فضولاً بالنسبة لي وهي المحور الأهم بشخصيته، كين والحب أشبه بفاقد الشيء لا يعطيه، ربما لديه النوايا الجيدة الحقيقية ولكنه لا يستطيع التعبير عنها، هو شخص لم يعرف الحب يوماً سوى بإطار البيع والشراء، والدته باعته للشركة ورمته من حضنها ولم تقدم له ما يحتاجه حقيقةً بل ما ظنت أنه مصلحته، والأوصياء عليه اعتنوا به فقط من إطار الإنفاق عليه دون الاهتمام به عاطفياً، وبقي هذا النموذج، نموذج الرعاية والتعبير عن  الحب بالإنفاق هو أسلوب كين بالتعامل، كل شيء عنده يخضع للشراء ، كما هو تم بيعه وشراءه فمن الممكن له أن يشتري كل الناس وكل شيء ، وكل الناس يجب عليها أن تحبه ولا تعارضه، كين مستعد أن يضحي بثروته كلها من أجل شخص واحد يحبه بصدق، ولكنه ليس مستعد أن يقدم قلبه لأحد، لا يعرف أن يقدم قلبه ومشاعره لأحد، هو يريد أن يطون عظيماً ليحظى بحب الناس كالشخصيات الأسطورية من التاريخ التي يجمع آثارها دون أن يفهم الفرق بين الحب والإعجاب، وتبقى هذه التماثيل والتحف الصماء الميتة أقرب إليه من البشر وفي النهاية هي الوحيدة التي تبقى معه، هي عالمه من الأشخاص التي يستطيع شراءها والتي تبقى صامتة ولا تعارضه وتجسد عظمته.
أكثر ما يثيرني ويعجبني في أسلوبية التحقيق حول كين هو إن أورسن ويلز يحرص في كل مرحلة من مراحل عمله على ذكر والدة كين وروزبد ولو بشكل عابر ، فهي مفتاح حل اللغز والبوصلة التي تقودنا نحو تفسير الشخصية ، مهما تشتت العمل وتشعب فيبقى ذكر روزبد وأم كين هي الحلقة التي تربط العمل وتحافظ على وحدته ولا تجعلنا ننسى الهدف الرئيسي منه وهو البحث عن سر هذه الكلمة التي تحمل مفاتيح سر الشخصية، طفولة كين المسلوبة والبراءة المسروقة والحب الذي لم يناله يوماً ، والتي ورغم إن ويلز لم يقدمها لشخصيات العمل ولكنه قدمها للمشاهد بمشهد إيقوني شديد العظمة والشهرة، وحرص ويلز على عدم كشف السر للشخصيات أمر يثير فضولي وإعجابي بنفس الوقت، ويلز يقول هنا إنه في حياة كل شخص هناك روزبيد، هناك هذا التفصيل الدقيق الصغير الذي لا يعرفه أحد والذي يشكل جزء من ذاتنا ولا نستطيع الإفصاح عنه، تفصيل قد لا يعني شيء ولا يبدو مهماً ولكنه يعني لنا الكثير الكثير بشكل يصعب علينا تفسيره.
العمل مع تشعبه بشرح كين لا يبدو منفصلاً عن زمنه، يبدو فيه اهتمام جدي بشرح العقلية الرأسمالية المضطربة التي تتحكم بالعالم، بشرح أهمية وقوة ووسائل الإعلام وثورتها في القرن العشرين وتأثيرها على عقول الجماهير، دورها بصنع الأزمات والسياسة وخلق الأحداث والأساطير والشخصيات والتلاعب بذوق الجماهير واهتمامهم وميولهم وغسيل عقولهم، هذا التزاوج بين التشريح الخاص والإسقاط العام أثار غضب الإعلامي الأمريكي ويليام راندولف هيرتس الذي اقتبس ويلز الكثير من تفاصيل حياته لصنع عمله وحاول محاربة العمل ومنع عرضه وشراء نسخه وإيقاف تصويره ويقال إنه وراء عدم فوزه بأوسكار أفضل فيلم ولكن الفن الحقيقي له الغلبة بالنهاية.
العمل مبهر جداً بصرياً حتى اليوم، التصوير بالأبيض والأسود وحيل المرايا والتصوير بالظلال غيّر مفهوم التصوير بزمانه وما زال محتفظاً بجماليته إلى اليوم ومدير التصوير العظيم وراء العمل روبيرت ويز تحول إلى أحد أهم مخرجي القرن الماضي نال أوسكارين عن الفيلمين الغنائيين صوت الموسيقى وقصة الحي الغربي في الستينات، وأخرج إيقونتي الرعب والخيال العلمي (The Hunting ، The Day the earth stood still) المونتاج إبداعي جداً بالحفاظ على توازن العمل بين قصصه وتفعيل الدراما التصاعدية مع نفس نوار عالي يصنعه، الموسيقى مبهرة جداً والموسيقار الذي أبدعها بيرنارد هامر أحد أهم ملحني السينما في القرن الماضي وأهم انجازاته مع هذا العمل سايكو وفيرتيغو لهيتشكوك وسائق التكسي لسكورسيزي، المكياج فوق الاعتيادي مع ملاحقته التفاصيل العمرية للشخصيات على مدى ستين سنة، وطبعاً جوهر حياة العمل بالتمثيل فوق الممتاز من الطاقم جميعه وبالأخص أورسن ويلز بتجسيده لشخصية كين الصعبة بكامل مراحل حياته وإبداعه ليس فقط ككاريكتر بل بالصراعات الداخلية المكبوتة التي يعيشها والتناقضات الصارخة التي تجتاحه .
الفيلم صنعه أورسن ويلز بالكامل وهو بعمر الخامسة والعشرين بعد نجاحات بعروض شكسبير بالمسرح الجوال ثم بحيلته الإذاعية الشهيرة باقتباسه لرواية جول فيرن حرب العوالم حين ابتدع نشرة أخبار تتحدث عن غزو فضائي سببت فوضى بأمريكا، ويلز استعان بطاقم مغمور وتلاعب بالاستديو وأوهمهم إنه يصور عمل أخر ليصنع فيلمه بعيداً عن قيودهم وأطلق كين مع جدل واسع حول تناوله حياة الإعلامي هيرتس الذي حاول إيقافه ونال مديح نقدي عالي ولكن الجمهور لم يستقبله بشكل حسن بسبب عدم احتوائه على أسماء فنية معروفة أو حبكة مشوقة أو عاطفية اعتيادية فسحب سريعاً من السوق ولكن هذا لم يمنعه من الفوز بجائزة رابطة النقاد الوطنية الأمريكية ونيل ثمان ترشيحات للأوسكار بمختلف المجالات نال منها واحدة كسيناريو للعمل فوق الاعتيادي الذي خطه ويلز، وفي الخمسينات وبعد تحول ذاك إلى أحد أهم نجوم السينما تم إعادة عرض العمل وتحول إلى أنجح الأفلام تجارياً وتم اعتباره فيما بعد أهم فيلم أمريكي والأكثر تأثيراً وعام 2006 تم اعتبار ويلز ثاني أفضل مخرج بالتاريخ بعد ألفريد هيتشكوك مخرج فيلم ربيكا الفائز بالأوسكار أمام المواطن كين.
ويلز له العديد من الأعمال الأخرى المميزة تمثيلاً وإخراجاً ، هو أحد اسياد السينما النوار التي صبغ طابعها فيلمه هذا إلى حد ما وبتوازن مميز وفي سينما النوار نذكر له لمسة الشر ، هو مثل في الفيلم المصنف كأفضل فيلم بريطاني الرجل الثالث عام 1947 وكتب جزئ من حواراته ، واقتبس اوتيلو وماكبث من شكسبير ولكن مع كل نجاحته يبقى المواطن كين هو العمل الأكثر أهمية وتأثيراً في مسيرته ومسيرة السينما وثورته البصرية اتت ثمارها سريعاً في جيله.
عظمة المواطن كين إنه ما زال ملهماً حتى هذه الأيام بالخلطة الدرامية المبهرة التي قدمها، حتى في هذا القرن ما زال النموذج الذي يحتذا به بصنع الأفلام النفسية المرتبطة بحوادث وتحولات مجتمعية هامة، أنظر إلى ثلاثة من أهم النماذج المعاصرة في هذا النوع من السينما فأرى كين ماثلاً أمامي، أراه في طيار سكورسيزي حيث الهوس الداخلي غير المفهوم والشخصية الاستثنائية الثرية المركبة والمعقدة والبحث عن سلوكياتها وأسبابها بالعودة إلى مجاهل الطفولة، أنظر في سيكون هناك دم لأندرسون فأرى في نرجسية دانيل بلانتفيو الكثير الكثير من هوس كين بعظمته الخاصة التي لا ترضى النقاش، وأرى انعكاس هوس كين في صنعه عالمه الخاص الذي يحكمه سواءً في إمبراطوريته الإعلامية أو في زاندو هوس معاصر لدى فرانك زاكنبيرغ في شبكة فينشر الاجتماعية بتحويل الفيس بوك إلى النادي الذي يتزعم منه العالم وبأعداد أصدقائه الافتراضيين الهائل مقابل فقدانه العلاقات الحقيقية تعبير معاصر عن هوس كين بالتماثيل الصماء مع ابتعاد الجميع عنه، وفي كل هذه الأعمال الثلاث هناك ثورة تحصل، كما في ثورة وسائل الإعلام في كين، هناك ثورة التسلح في الطيار، ثورة النفط في سيكون هناك دم، ثورة مواقع التواصل الاجتماعي في الشبكة الاجتماعية.
ولكن وبعيداً عن كل هذه العظمة والتأثير التي تحويها تحفة ويلز، فإن أهم شيء برأي بهذا العمل هو إن روح ويلز بالعمل هي التي كانت الأقوى تأثيراً على كل من بعدها، هوس الشاب العشريني بصنع عمله كما يرغب على الصورة التي يشاء رغم كل الصعوبات التي رافقته ولاحقته، هذا الهوس والنتيجة غير الاعتيادية التي خرج عنها جعله مثلاً محتذى وبطلاً لدى جميع من جاء بعده من سينمائيين، لا أتحدث هنا عن انغماس إدوارد وود بالفشل وهو المهووس بويلز بل أتحدث عن إصرار الجيل الذي نشئ بظل عظمة كين، أتحدث عن كوبولا وسكورسيزي ولوكاس وسبلبيرغ الذي حملوا معهم روح ويلز فصنعوا روائعهم الأولى العراب وسائق التكسي وحرب النجوم وجوس على الشكل الذي يريدونه رغم كل الصعوبات التي واجهتهم وصنعوا بها علامات سينمائية حقيقية، أتحدث عن الروح التي أشعلت الأمل في قلوب أشخاص بعيدين عن السينما مثل تارانتينو ونولان ليقتحموا بحلمهم هذا العالم ويصبحوا أهم مخرجي زمانهم، لولا روح ويلز وإصراره وتفانيه وإيمانه بما يقوم به في كين لما ربما بقيت السينما متأخرة سنوات تقنياً بل وربما لفقدنا الكثير من الأعمال العظيمة التي ألهمت روح ويلز وثورته صناعها.

10/10

0 التعليقات:

إرسال تعليق