RSS

Belle de Jour - 1967


أفلام لويس بونويل عالم خاص ممتع ومبهر وشديد الإرهاق، مرهقة بالمشاهدة، ومرهقة بالانطباع الذي تخلفه، ومرهقة بتحلليها ، لا يمكن أن تكتب عنها بالطريقة التقليدية ، لا يمكن أن تحللها وتناقشها كما تناقش أي فيلم، بونويل لا يصنع أفلامه كمرآة للعالم، وإنما كمرآة لعوالم الإنسان الخفية، انعكاسات لأفكاره الأكثر تطرفاً وشذوذاَ ، هي أفلام ذاتية بحتة، مساحة خاصة له ليناقش هواجسه وانطباعاته وأحكامه وأفكاره الأكثر سواداً مع أكبر شريحة ممكنة من الناس، هي أفلام عن الازدواجية عن الشخصية الخفية الفاجرة الشيطانية المختبئة داخل كل إنسان، في أفلامه يتحرر من الوجه الذي يعطيه للبشر ليقدم وجهه الأخر الذي يخفيه، ومعه كذلك الإنسان يتحرر من ثوبه التقليدي ليعبر بالمشاهدة عن أكثر مساحاته الغرائزية سوداوية وحيوانية، ولذلك تبدو الشخصيات التي نراها متقبلة للمشاهد ويتفهمها، فهي ليست سوى مرآة لطبائعنا ورغباتنا التي نخفيها ونغلق عليها بإحكام.


بونويل يتحدث عن سبب إخراجه لهذا العمل الفائز بفينيسيا أفضل فيلم إنه وجد به المسرح المناسب ليعبر فيه عن اختلاط الأحلام بالواقع، و فعلاً نجح بذلك جداً، عمله شديد السريالية والإرباك والحيرة ، وممتع كذلك بهذا الشكل ومشوق جداً، مع قدرة رائعة على التوازن بتلك السريالية وتصعيدها لتصل إلى الذروة بالمشهد الختامي الجنوني المحير جداً والمبهر جداً، ولكن ما أحسسته – وهو ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً فكل مشاهد يفسر أفلام بونويل من منظوره الخاص كحيل علم النفس التي لا تحمل إجابة واحدة أو إجابة صحيحة فقط أدات كشف عن شخصية المتلقي – ما أحسسته هو أن بونويل من وراء مجاوزته وخلطه بين الأحلام والواقع يلقي الضوء بشكل صارخ على فكرة الازدواجية، إزدواجية الأفكار، إزداوجية الشخصيات إزدواجية الرغبات، الكبت والتحرر، العفة والعهر، الشخصيات جميعها تعيش إزدواجية وصراع بين ما تظهره وما تخفيه، تصل بالتعبير عن جوانبها الخفية السوداء إلى أقصاها حين تجد فرصة تسنح لها بذلك ولا توفر أي وسيلة، ليس الأمر كانتقام من وضع أو تقليد أو بيئة، الأمر أغرب وأبسط من ذلك، أشبه بظمئان أمام نبع ماء، هذه الشخصيات تريد روي ظمئها إلى أقصى درجة ممكنة ، حرمت طويلاً ولم تعد تستطيع أن تصبر فانهالت على اللذائذ بلا توقف.
الفيلم محوره الأساسي هو سفرين (بأداء استثنائي وغريب جداً من أميرة الجليد كاثرين دونوف) إمرأة برجوازية متزوجة حياتها مثالية ولكنها تعيش برود جنسي وفراغ يقوداها إلى أن تعمل عاهرة متخفية في منزل دعارة تحت اسم بيل دي جور، وتلتقي هناك بشخصيات غريبة تقاسمها الضياع والفراغ والإزدواجية، بونويل لا يهتم كثيراً لتفاصيل التحول وأسبابه يمر على فراغ حياتها وغلبة المظاهر عليها يمر على قصة تجربتها الجنسية الأولى بصغرها مع أحد خدم عائلتها، وفعلاً لا ينكر تأثير هذه العوامل ولكن يركز أكثر على أن الأمر هو عبارة عن غريزة وكبت دفع الشخصية لذلك الطريق ويهتم أكثر بعرض التناقضات بين شخصيتها الظاهرة العفيفة وشخصيتها العاهرة الأخرى ، ويسط الضوء على تحسن علاقتها الجنسية مع زوجها بعد أن وصلت إلى شيء من المصالحة مع ذاتها – مع إصرار بونويل على التركيز مراراً إنها تحب زوجها - ، ومن هذه الحياة الازدواجية المتناقضة التي يعرضها يتسلل بونويل ليقدم بإبهار سرياليته بتزاوج الأحلام مع الواقع كنوع من الانتقام والعقوبة تفرضه المبادئ التي تربت سفرين عليها، عملية يعكس بها بونويل آلية النزاع النفسي الداخلي الفرويدي، فهنا الهو لا ينتقم من الأنا الأعلى بالأحلام، بل الأنا الأعلى تقتص من الهو بالأحلام.
سفرين تدخل هذا العالم بالكثير من الفضول والانبهار ، يكون صعباً عليها خوضه بالبداية ولكنها تنسجم معه سريعاً ، يشبع فضولها ورغباتها ويمتعها ويجعلها تشعر بالمغامرة وإنها تخوض رحلة اكتشاف لعالم لا تعرف بوجوده، في منزل الدعارة تلتقي بالأستاذ طبيب مشهور برجوازي يماثلها بإزدواجيته وسعيه للوصول بلذة إلى أكثر الحالات إذلالاً وتحقيراً لذاته ويطلب منها أن تلعب دور السيدة ويكون الخادم فلا تنجح بذلك فهي لا تمارس الدعارة بصفتها سيدة برجوازية هذه المكانة مصانة عندها فلا تعلم أحد باسمها أو وضعها وحين تتعرض للتهديد تتخلص من لعبتها أو لهوها من أجل حمايتها، ثم تلتقي بمارسيل المجرم الشاب وتنجذب له عاطفياً لسبب بسيط إنه الوحيد المتحرر من ازدواجيته والمتصالح مع نفسه، ومع دخول مارسيل يصعد بونويل الأحداث بشكل مثير ومنطقي جداً نحو نهايته المبهرة السريالية والصادمة .
ربما هذا أقصى ما استطيع أنا أكتبه عن العمل فهو ليس عمل للكتابة ومن الصعب التعبير عما يخلفه لدى المشاهد فالانطباعات حوله داخلية وغريبة وحقيقية وصادمة هو في النهاية تجربة سينمائية استثنائية جداً ومرآة صافية ينظر بها المشاهد لحقيقته الصادمة ودعوة من بونويل للتبحر والحث داخل عالمه الخفي السوداوي السريالي الغريب، هو أشبه بأحلام جنسية لمراهق يمر بمرحلة بلوغه واكتشافه لعالم الجنس الآخر.

10/10

0 التعليقات:

إرسال تعليق