RSS

La Dolce Vita - 1960


كمتابع سينمائي ينتابني شعور بالندم بسبب تقصيري بمتابعة بعض المخرجين بالأخص الأنكليزي مايك لي والإيطالي فدريكو فلليني، فرغم إني شاهدت له ثلاث أفلام 8,5 وليالي كباريا و ستركون ولكن أمام سجله الحافل أشعر إني مقصر اتجاهه، فمن من مشاهداتي الثلاث له أشعر إني أشاهد شيء غير اعتيادي في السينما، أفلام لا تنتمي لأي صنف ولا لأي فن، فن مستقل بذاتها وصنف خاص بذاته، فلليني الذي يعتبر السيرك هو ملهمه بصنع السينما يصنع أفلامه كمن يدير عرض سيرك مبهجة سريعة صاخبة مليئة بالأزياء والمكياج والجمال والموسيقى التي لا تتوقف وبعض المسوخ كذلك وأداء من الممثلين يضج بالإمتاع وروح الفكاهة ، وفي الحياة حلوة - La Dolce Vita يتجاوز عرض السيرك ليقدم شيءً أشبه بملحمة إغريقية معاصرة عن روما ولياليها وأزيائها وآثارها وجمالها وفقرها ونبلائها وبرجوازيها ومثقفيها وقسسيها وأطفالها وعشاقها، يقدم سبعة ليالي من حياة الكاتب والصحفي مارشيللو (مارشيللو ماستروني) يقضيها في سبع حفلات مختلفة تختلط فيها الأحلام بالواقع ، يصنعها فلليني على شكل سبع أفلام قصيرة متصلة ومنفصلة تبدأ قوية جداً وتتصاعد مع كل قصة – حفلة بشكل ممتاز لتصل إلى الذروة بخاتمتها المبهرة جداً.


الفيلم صنعه فيلليني احتفالاً بأزياء نساء روما وصخب حفلاتها وقد حقق مراده وقدم وراء ذلك الجمال والصخب تشريح عميق للطبقة البرجوازية الإيطالية وكشف للحياة الفارغة والسطحية والخواء الروحي العميق الذي تعيشه والكآبة والحزن  والابتذال الذي يسيطر عليها والمستتر بثوب من الرفاهية والصخب والثراء والجمال الزائف، يكتشف فلليني هذه الحياة من خلال عيني مارشيللو الكاتب الغريب عن روما والذي عاش لحظة من لحظات المجد الآدبية في بداية مسيرته قبل أن يتحول إلى صحفي يلاحق ويرصد الحياة الشخصية ومجالس نخبة المجتمع الإيطالي ، مارشيللو شخص بهره الجمال الخارجي وبريق أضواء ذلك المجتمع فحاول اقتحامه ولكن ذلك المجتمع لم يقبله فيه وبعد أن دخله اكتشف زيفه وبشاعته الحقيقية فأراد الانسحاب والعودة كما كان ولكن من يدخل ذلك العالم لا يستطيع مغادرته بسهولة، البريق والصخب والجمال والفتنة التي تصبغ هذا المجتمع تصيب صاحبها بالإدمان فتجعل عقله دوماً أسيراً له وللحظات السعادة الزائفة والأمل الميت بالارتقاء والانتماء التي توفرها مجالس برجوازي روما قبل أن تنتهي وتعقبه حسرة وندم عميقين .
فيلليني يبدع طوال فترة العمل بصنع هذا التوازن بين عرض فساد وزيف الطبقة البرجوازية وبين تقديم معضلة بطله مارشيللو الخاصة ، يبدأ بذلك منذ المشهد الافتتاحي لنقل مارشيللو بطائرة مروحية لتمثال المسيح إلى ساحة كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان يحلق التمثال فوق بناء على سطحه حوض سباحه تستجم حوله نسوة بملابس السباحة يودعن المسيح كما ودعنه صبيان روما وكأن فيلليني يقول إن روما التقليدية المسيحية انتهت وهناك دين جديد للمدينة وقديسون جدد وآلهة وأنبياء جدد ، وفي نفس المشهد صورة تعبيرية لمارشيللو العالق طوال عمره بين السماء والأرض يحاول بابتذال طلب أرقام النسوة البرجوازيات في حوض السباحة ولكنهن يرفضنه بسخرية مستترة بآدب كما سيعاني من ذلك طويلاً خلال العمل.

بعد الافتتاح يدخلنا فلليني إلى عمق حياة قديسوا روما الجدد في أحد الملاهي الذي يشكل لأمثالهم كنيستهم الخاصة الجديدة، نتعرف فيها بشكل أكبر على مارشيللو ومهنته و نلتقي بمادالينا (أنوك إيمي) صديقته سليلة أحد أثرى العائلات في روما التي تبدو مثالية في كل شيء ولكن تحت كمالها الظاهر هناك جروح عاطفية وخواء روحي تحاول أن تخفيه كما تخفي الكدمات التي سببها عشيقها على عينها بنظارة سوداء، ذلك الفراغ الذي تعيشه أصابها بحالة استحقار لذاتها ولكل العالم الذي تعيش به فتذهب مع مارشيللو لتمارس الجنس في منازل أحد العاهرات الواقع في قبو وتغطيه مياه المجاري وكأنها تريد الانتقام من تصنيفها الطبقي ومن انتمائها للبرجوازية وتحقيرها له بأقذر الصور ممكنة حتى باختيارها لفقير دخيل على الطبقة مثل مارشيللو الذي يوهمه تصرفها والعديد من تصرفاتها الغريبة الأخرى إنه تبادله الإعجاب حقاً وليس مجرد وسيلة بيدها للانتقام.
في القصة الثانية يرينا فلليني الاحتفالات وحالة الجنون التي تعيشها روما باستقبالها للنجمة الهوليوودية الشقراء الشبيهة بالدمى سيلفيا (أنيتا إكبرج) لتقوم ببطولة أحد الأفلام الإيطالية ، فلليني يصوره جنون روما بتلك الشقراء بشكل لا استطيع سوى أن أتخيل معه إنه يقصد ظاهرة عصره مارلين مونرو رغم إنه بنواحي أخرى يلمح إنها سويدية الأصل وكأنه يقصد إنغريد بريغمان ، ووراء كل جمال وفتنة تلك الشقراء يرينا مآساة أخرى تعيشها من تعامل المحيطين حولها بسطحية واستخفاف واحتقار صديقها النجم روبيرت وأهانتها وضربها وتحكمه المستمر بحياتها، في القصة يحاول مارشيللو تغطية حضور تلك النجمة يحاول مراقصتها فيدخل أحد نجوم السينما إلى الحفل ويسحبها من يده وكأنه غير موجود ويلهوا منها وحين تختلف مع صديقها وتهرب يلاحقها مارشيللو معتقداً إن الفرصة أتته ، يدور معها في أحياء روما القديمة في الليل تقف تحت إحدى النافورات الأثرية بين تماثيل الآلهة القديمة كواحدة منهم، يخوض مارشيللو النافورة ينظر إليها مبهوراً يلمسها وكأنه يلمس حلماً أو فاكهة محرمة عليه، يحاول أن ينال منها ما يستطيع وعندما يعيدها يقابله صديقها روبيرت بالضربات ويرميه على الطريق كإنسان عادي رماه زيوس من على جبل الأولمب بعد أن حاول أن يعثر على موقع له بينهم.
في كلا القصتين يرينا فلليني على خلفية الأحداث ملامح لخطيبة مارشيللو إيما (يوفون فورنيكس) وعلاقته المضطربة معها الموغلة في الخلافات والصراعات بسبب خيانة مارشيللو المستمرة لها وعدم اهتمامه بها مقابل غيرتها المجنونة عليه وتعلقها الأعمى به ، ورغم عدم قابلية هذه العلاقة للاستمرار ولكنها لا ينفصلان عن بعض أبداً رغم تلويحهما المستمر بذلك فهي الوحيدة بعالمه التي تربطه بماضيه الذي كان فيه إنساناً محترماً وذا قيمة هي الوحيدة التي ما زالت تقدره وترى فيه الإنسان القديم الذي يريد الهروب منه ولكن يشده لعنده والذي يبقيه في حياته كشاطئ نجاة سيعود إليه يوماً ، علاقته بها لا تختلف عن علاقته بمادالينا أو والده أو المجتمع البرجوازي أو أصدقائه أو مشروعه الأدبي، علاقة معلقة في منطقة الانتظار غير محسومة النهاية بعد لا هو يستطيع عبورها ولا يستطيع التراجع عنها، نمط يعيش به مارشيللو يسببه لنفسه بعدم قدرته على حسم خياراته وبوقوعه أسيراً لشهوة وتأثير الشهرة والجاه الذي يراه حوله ولا يعي سوى لجماله الخارجي رغم إنه أكثر من يرى قبحه الداخلي .
علاقة إيما بمارشيللو تأخذ مساحة أكبر في القصة الثالثة حين يصطحبها معه للاحتفال الجماهيري بأحد ضواحي روما لما شيع إنه معجزة تجسد العذراء لعدد من الأطفال ، يصور فلليني بهذه القصة حاله الهووس الدينية ضمن مجتمع روما والتي لم تفارقها وبقيت متأصلة بداخلها ، ويتحول الحشد المقدس إلى عرض سيرك يسيره طفلان وحين ينتهي يندفع الحشد نحو الشجرة المقدسة التي قيل إن العذراء وقفت عندها يمزقون أغصانها بجنون طمعاً بالقداسة والبركة، وعلى خلفية تلك القصة ندخل أكثر بتفاصيل علاقة مارشيللو بإيما ، حالة الارتباط والتنافر ، كيف تعامله كأنها أمه ويهرب منها ويتذمر كأنه ابنها ، ينشغل عنها بتغطية الأحداث فتنظر نحوه ساخطة وتتساءل عن سبب تغيره كأم تنظر إلى ابنها وقد غدا مراهقاً يحاول الفرار منها واقتحام العالم مبهوراً بكل ما فيه بغوغائية.
نستمر في القصة الرابعة بالتعمق أكثر بعلاقة مارشيللو وإيما وتأخذ نفسية مارشيللو ومشاكله مساحة أكبر مما سبق، يذهبان معاً إلى حفل تقيمه إحدى الصالونات الثقافية في منزل صديقه (ستينز) حيث يحضر نخبة المثقفين والفنانين في روما، ويستغل فلليني الفرصة ليلقي الضوء على تلك المجتمعات ويرينا حالة الخواء والفراغ والسطحية التي وصلت حتى إلى مثقفي روما الماهرين فقط بالتنظير وإطلاق نظريات غريبة غير معقولة بغرض التميز فقط، ويحادث الجميع مارشيللو بعتب بسبب تخليه عن الكتابة رغم نبوغه الأدبي المبكر واتجاهه نحو الإعلام الدعائي ككاتب في صفحات الفضائح ، وفي جو الهدوء في هذا الحفل ينظر مارشيللو بعمق نحو ذاته، يقارن بينه وبين صديقه الذي أسس عائلة وثروة واسم ممدوح وعلاقات قوية، يحتقر نفسه الضائعة بين الشهوات وملاحقة أضواء الشهرة ، ويتحسر على الموهبة التي كانت داخله و قتلها، يصارح ستينز بأنه يحسده على ما حققه وما يعيشه، يخبره ذاك بأنه مستعد لمساعدته ولكن في نفس الوقت يصدمه بأنه هو بالتالي يحسد مارشيللو على حياته الحرة المنفلته من القيود ويبوح له بملله وسخطه من الروتينية والملل والتصنع الذي يصبغ حياته لدرجة أفقدت لكل شيء مذاقه وجعله يوشك على أن يفقد صوابه.

بعد تلك القصة يحاول مارشيللو أن يأخذ مساحة لذاته ويبتعد عن روما ليتفرغ لتأليف رواية جديدة ويلتقي بنادلة صبية في أحد المقاهي بجمال طبيعي وبعيد عن الاصطناع وبشرة صافيه لم يلوثها المكياج وثياب عادية بغافية النقاء، ينجذب لها وتذكره بالإنسان الذي اشتاق له، وربما ما أثارته في نفسه من حنين أصابه في نفس الوقت بالفزع من فقدان ما يعتقد إنه يملكه فعاد إلى روما وهناك يعثر على مساحة أخرى لروحه حين يلتقي بوالده القادم للاطمئنان عليه، يذهب معه إلى أحد الملاهي الليلية للاحتفال بما يشبه رحلة مارشيللو نحو الماضي يستعيد ذكريات من طفولته التي كان بها والده غائب أغلب الوقت ويشعر بالسعادة كأنه عاد طفل مجدداً وهو يحظى بوقت خاص مع والده يحاول أن يتعرف به عليه أكثر و لكن يكتشف إن والده يحتضر وإنه سيفقده مجدداً ليعود إلى نفس الدائرة ويرى إلى الأمور الأهم بالحياة كم هي قصيرة ويجب استغلالها وينظر بخوف إلى مستقبله الذي يسير ليصبح مثل والده.
ولكن يبقى لتأثير روما طغيان أكبر على مارشيللو رغم حالات الانتفاض المؤقتة التي يعيشها من وقت لأخر بحركة ذكية من فلليني يصر فيها على أنه يعرض يوميات عادية بلا تحولات أو تطورات ، حتى ما نراه من محاولات مارشيللو للتغير ليست سوى فقاعات وهمية يمر بها من آن لأخر ولكن لا تغير حياته وتبقى تسير في النسق الذي تعرفه، فنراه يدخل متسولاً ومتطفلاً إلى حفل تقيمه إحدى العائلات النبيلة في روما في أحد قصورها الأثرية ، يصور فلليني القصر وكأنه مصح للمجانين والحفل أشبه بجنازة، ويقتحم فلليني هذا العالم كأنه فصل من فصول دانتي في الكوميدية اللآلهية حيث اكتشاف لعالم بوهيمي كئيب أسطوري موحش ومفزع ويتحول معه القصر إلى أحد قلاع العصور الوسطى الموحشة ، يصور فلليني عالم النبلاء بشكل كئيب مزيف والفراغ والانغماس الأعمى بالملذات والحياة السطحية المبتذلة ويلتقي بمادالينا التي تعرفه على الحضور وعلى الوجه الآخر لهم، تجتذب مادالينا مارشيللو إلى موقف رومانسي تدفعه لمصارحته بحبها في لحظة جنون عاطفي يتصور بها حبه لها وهي الفتاة المنتمية للطبقة البرجوازية والغريبة عنها في نفس الوقت والتي تقدره من بينهم ولا تعامله باستخفاف ، رغم إنها بحكم عدم وعيها ومسؤوليتها واستهتارها بمشاعر الآخرين تلهو به وتسخر منه أمام الجميع ثم تختفي بين الحشود ويحاول هو التقرب من الكونتيسات اللذين لا يهتتمن به لا يرونه حتى.
الحفل السابع الأخير في منزل مارشيللو نفسه ومع أصدقائه من مثقفين وفنانين وكتاب برجوازيين ، حفل غارق بالمجون الرخيص بعيداً عن أي قيمة أو أهمية فكرية حتى بالحوار، يصورهم فلليني كمدعيين فارغين للثقافة والأهمية ليحوزوا على مكانة لا ينتمون لها وينهلوا المزيد من اللذات وإشباع الشهوات، وفي الحفل نرى مكانة مارشيللو الحقيقية بين صحبه كمهرج لا قيمة له سوى بإمتاعهم ثم يثمل وينفجر ويعبر عن شعوره تجاه هذه الطبقة وهؤلاء القوم ولا أحد ينصت لهم .

بعد الحفل يخرج مارشيللو وصحبه بمسير على الشاطئ ويلتقي بالفتاة الريفية التي قابلها سابقاً في المقهى وتدعوه وما تمثله من حياة هادئة بسيطة ليلحقها ويترك كل شيء، ولكنه يقف عاجزاً عن مغادرة الحشد وما يمثله من أضواء وبريق الحياة الرومانية الصاخبة المخدرة ، فيبقى كما بدأ العمل عالقاً ضائعاً بلا توجه أو انتماء حقيقي.
فلليني بفيلمه هذا المتوج بسعفة كان 1960 وأوسكار أفضل أزياء قدم صناعة عظيمة جداً ، فيلمه الذي يحتفي بالأزياء يقدم فعلاً أزياء نسائية بغاية الجمالية والأناقة التي لا تخطئها العين تشعر بها تضج بالألوان من تحت الأبيض والأسود ، وهناك إبهار حقيقي بتصوير الحفلات السبع وتفاصيلها كاستقبال النجمة الهوليوودية أو تغطية حادثة ظهور المعجزة وأجواء قصر النبلاء، وروح عبثية ممتلئة بفكاهة السيرك بحفلة منزل مارشيللو ، مع روح فكاهية عبثية طوال العمل يسخر لها فلليني كل أدواته لتحقيقها من تصوير وإخراج فني ومونتاج وموسيقى مبهرة من نانو روتا وحوارات ورسم مشاهد جميل جداً وعالي المستوى وطبعاً من حيث الأداءات المتقنة جداً من طاقم العمل كاملاً، مارشيللو ماستروني وأنوك إيمي يقدمان أدائيين محكمين وانسجام عالي جداً جعلهما بعد ثلاث سنوات نجمي تحفة فلليني الأعظم 8,5  المتوجة بأوسكار أفضل فيلم أجنبي، والأداء الأعظم بالعمل من يوفون فورنيكس بدور إيما المجنونة الغيورة العصبية .
10/10

    

0 التعليقات:

إرسال تعليق