RSS

The Leopard – 1963


لدي غرام خاص لمثل هذه النوعية من الأفلام ، الأفلام التي تنتمي لنوعية وداعاً خليلتي والشريط الأبيض وذهب مع الريح، الأفلام التي تؤرخ لتحولات تاريخية هامة من خلال عيون الأشخاص العاديين الذين عاشوا تلك الفترة لا عيون القادة والسياسيين، هذا العمل هو ربما من ذروة تلك الأفلام، المفخرة الإيطالية التي صنعها المخرج لوتشينو فيسكونتي وأحد الدلائل الدامغة على كون مهرجان كان صاحب أكثر اختيارات الفائزين ذكاءً وصوابية.


الفيلم يدور في صقلية في منتصف القرن التاسع عشر مع ثورات الحركات التقدمية في أوروبا التي خلصتها من هيمنة الكنيسة والملكيات المطلقة الآلهية لصالح الحكومات الديمقراطية التقدمية الشعبية ، نتابع من خلال عيون النبيل العجوز فابريزيو سالينا (بيرت لانكستر) زوال السلطة الدينية عن إيطالية واستقلال صقلية الإداري و انتقال السلطة فيها من النبلاء الإقطاعيين إلى الحكام الشعبيين (الدونات) وبمصطلح آخر ثورة المافيات في صقلية واستلامها زمام الحكم لتلد المافيا الإيطالية كأحد أكثر التنظيمات الإجرامية نفوذاً وهيمنة في العالم، ويجعل من الجزيرة الإيطالية نموذجاً مصغراً لأوروبا وللحالة الأوروبية بعد فترة الثورات التقدمية لا نستغرب معه أن تعيش القارة العجوز بعد سنوات قليلة من هذه الفوضى حرباً عالمية كانت هي الوليد الذي حمله رحم السياسيين الفاسدين بعد ولادة قيصرية لما سموه مجتمع جديد حر عصري تقدمي .
الفيلم مقتبس عن رواية جوزيبي توماسي دي لامبيدوزا وهو يعتبر أحد أفضل الاقتباسات السينمائية على الإطلاق وهذا أمر مبرر جداً لقوة النص الاستثنائية الذي بني عليه الفيلم سواءً من جمالية رسم الشخصيات وحواراتها وانسيابية الأحداث وتطوراتها، بالأخص إننا نتحدث عن فيلم لا تتطور فيه الشخصيات بشكل مستقل فردي بل تطور تبعاً لتطور الأحداث التي تجري حولها، تنساب من خلالها بلا مقاومة وتتغير وتتلون معها، شخصيات جميعها منفعلة تعيش فقط للبقاء دون رغبة أن يكون لها كيان خاص أو تحقق أي تطور حقيقي في عالمها، حتى مواقفها ومبادئها تبدو نابعة من تغيرات الأحداث حولها وتتبنى أي مبدأ جديد وتنبذ السابق في وصولية غرضها فقط الاستمرارية والعثور ربما على شيء من المكاسب الإضافية، العمل لا يوجد فيه حدث جوهري أو انفجاري حتى الأحداث الهامة في حياة تلك العائلة النبيلة بالأخص انفصال تنكريدي (آلان ديلون) عن العائلة وانضمامه للثورة ثم عودته للقوات الملكية بعد انتهاء الحرب خطوبته لدوتشينا بنت عمه ثم تخليه عنها لأجل أنجيلا (كلاوديا كاردينال) ابنه الدون المافياوي الصقيلي لا تبدو كلها أحداث جوهرية ولا يهتم المخرج لوتشينو فيسكونتي بجعلها قفزات تحول في العمل، بل إنه يبتر متعمداً أي عوامل القوة فيها ولا يبني عليها أي آثار وتغييرات في صميم العائلة، فرغم الاستغراب أو الرفض الوقتي التي تبديه تلك العائلة لتحولات وتلونات تنكريدي ولكنها لا تلبث أن تعود لهدوئها وتتبنى مواقفه، فهذه الأحداث كلها لم تكن سوى وليدة للتغيرات المحيطة في البيئة، ويبدو هناك قبول ضمني وتبني لما يقوم به تنكريدي كونه الوسيلة لدخول العائلة إلى العالم الجديد الذي فرض عليها والذي لا تلمك – ولا تريد حتى – مقاومته أو منعه رغم عدم رضاها عنه.
(النبلاء هم أشخاص عادييون ليسوا أشرار بل الكثير منهم طيبين ولكن مختلفين) كلمة يقولها الكاهن الملازم للعائلة في بداية العمل تفسر الكثير عن الشخصيات وتغني عن التبحر ببنائها ، هذا الكاهن نفسه الذي كان أشبه ما يكون بفرد من أفراد العائلة قبل انتصار الثورة ثم يتضائل وجوده رويداً رويداً وفاعليته حتى يختفي من الأحداث نهائياً كأنه تبخر بالهواء، دون أن يراود المشاهد أدنى تساؤل عن كيفية اختفائه أو يفتقده، كتعبير ذكي عن السلطة الدينية التي اختفت من صقلية بعد الثورة التقدمية، شخصيات العمل طبيعية جداً ودوافعها مفهومة، تنكريدي ابن أخ النبيل فابريزيو سالينا الذي أضاع والده كل ثروته ويحلم بفرصة للعودة والثراء والهيمنة والسطوة ، أنجيلا ووالدها سليلا المافيات سيئة الذكر اللذان عثرا على فرصتهما لتحقيق المجد ومحي عار العائلة، فابريزيو سالينا نبيل عجوز عركته الأيام والأحداث ابن البيئة الذي يدرك الحقيقة وراء الأمور والتاريخ والسياسة يتبنى قضية واحدة هي البقاء وأن يمضي إلى موته بكرامة، يؤرقه هاجس الموت تزعجه شيخوخته وتقدمه بالعمر، يشتكي من حياته الجنسية مع زوجته، ولكنه متصالح مع كل تلك الأمور ولا يسمح لشيء أن يؤرقه أو يقود استقرار حياته، ما يهمه أكثر من أي شيء أخر هو استقرار حياته ونظامها وحفاظه على الانضباط فيها.
لوتشينو فيسكونتي يصنع من فابريزيو سالينا أكثر من مجرد نبيل تقليدي ، هو نموذج وناطق بلسان الحال الصقلي، هو الذي فهم اللعبة وفهم المجتمع الذي هو فيه، يعبر عن مشكلة مجتمع كامل عاش على هامش التاريخ، مجتمع لم يقدم شيء للبشرية ولم يهمه شيء سوى إشباع رغباته، عاش مسيرته التاريخية كلها تابعاً وخاضعاً يتوالى عليه المحتلون والفاتحون، ولا يقاوم أحد ولا يهمه شيء سوى أن يستمر بالحياة حتى لو كانت كلها مجون وفقر وجريمة وفساد، مجتمع توحد مع بيئته القاسية أخذ الكثير منها، لا يعرف سوى أن يعيش مثلها بوحشية وقسوة كحيوانات الغابة، مجتمع لا يتكون من بشر بل من فهود وسباع يرفض أي تطوير أو تغير في تركيبته لأن ذلك سيجعله مجرد (ضباع أو خرفان) .
العمل غني جداً على صعيد الدراسة التاريخية والسياسية للثورات والحرب الأهلية وما تخلفه من فوضى وعبثية تستمر حتى بعد انتهائها مع استمرار صراع السياسيين الناعم على المقاعد والنفوذ بعدها، مشاهد المعارك والنزوح والخراب والحوارات الجانبية العديدة عن المرحلة القادمة عن التغيرات المحتملة عن شراء المواقف والأسماء عن الوعود الكاذبة عن النفاق العلني عن تحول الثوار الذين قاموا لمصلحة الشعب إلى مجرمين، وتحول مثيري الفوضى وعرابوا الفساد والمكائد إلى ساسة، حوارات عظيمة مليئة بفوضى الحرب وعبثيتها ودمويتها التي يتفاخر بها من خاضوها ، ورغم إن العمل بأغلبه يدور ضمن قصر عائلة فابريزيو سالينا وكل حديث عن الفوضى وجنون الحرب المطلق الذي يدور في الخارج – دون أن نرى مشاهد واضحة كثيرة لذلك الجنون – ولكن . لوتشينو فيسكونتي ينجح بإشعارنا بتلك الفوضى وتلك الوحشية ، يصنع مشاهد الحوارات عن همجية الحرب بطابع خاص داكن كئيب وموحش.
ينتهي العمل بمشهد طويل يستمر لحوالي ثلثه في حفلة قام بها أحد  النبلاء العجائز دعا إليها كل الأطراف النبلاء والدونات والجنرالات، حفله رغم كل مظهرها الارستقراطية ولكنها مليئة بفوضى مستترة مع هذه التركيبة غير الصحية للمجتمع الغريب، ويدور الحوار عن ضرورة قيام حكومة اليوم – ثوار الأمس – لحركة قمع عنيفة ضد الثوار الجدد – المتمردين – لتحقيق الاستقرار والنظام في إيطاليا مما يعني حرب أهلية جديدة لمنع الفوضى .
في الحفل يدور فابريزيو سالينا ينظر بعين متعبة غير راضية لهذا المجتمع الذي ولد حوله دون إرادته، ينظر لنبيلات مراهقات يمرحن بصخب ويقول (إن التزاوج بين الأقارب لا يمكن أن يحسن النسل) يبدو مستاءً من كل شيء ومن تقاليد عريقة لمجتمع ملكي لم تستطع حمايته بل تسببت بهلاكه، يبوح فابريزيو سالينا في الحفل بكثير من الأمور لا أحد ينصت لها ولكنها تعبر بشكل أو بأخر عن حقيقة إنه رغم كل المتآمرين على أوروبة القديمة التي تمثلها الملكية المطلقة والكنيسة ولكن السبب الأصلي بزوال أمجاد النبلاء هم النبلاء أنفسهم، يتأمل لوحة عن الموت ويتخيل بها موته المنتظر القريب، تدخل أنجيلا وتنكريدي يطلبون بركته الأخيرة قبل الزواج، يراقص أنجيلا بالحفل بين عيون الجميع الساخطين، النبلاء ينظرون إلى أنجيلا كرمز لمرحلة جديدة لشباب الدونات الذين يريدون كل عزهم السابق وأمجادهم، الدونات ينظرون إلى فابريزيو سالينا كرمز لنبالة وعز أصيلين مهما اجتهدوا وحالوا فلن يتمكنوا من الوصول إليه، دوتشينا تنظر إلى أنجيلا كالغريمة التي سرقت حبيبها والآن تسعى وراء والدها، وتنكريدي ينظر إلى عمه كالنموذج وحلم النبالة الذي اختفى ولم يبقى منه سوى الاسم ولن يستطع أبداً إلى الوصول لما وصل إليه، فابريزيو سالينا ينظر إلى أنجيلا كشبابه الضائع وأنجيلا تنظر فابريزيو سالينا كحلم بالجاه والاحترام تريد الوصول إليه.
جمالية العمل كنص ليست فقط بحواراته المباشرة بل بالتفاصيل الثانوية ، تفاصيل ركز عليها لوتشينو فيسكونتي وجعلها عناصر جوهرية وركائز أساسية بالعمل، بالأخص الدون وحديثه عن أصول زوجته الملكية، أو سؤاله عن هدية ملك إسبانيا كم يبلغ ثمنها، وعدم إتقانه لارتداء الملابس الراقية، وأحاديث تنكريدي الفخورة عن إجرامه بالحرب وضحك أنجيلا بطريقة ساقطة عليها.
العمل رغم إنه يعتبر بنظر السينمائيين كأفضل اقتباس سينمائي ولكنه يحوي قوة بصرية تبارز قوة النص وتتفوق عليها أحياناً، الإخراج الفني والملابس على أعلى المستويات وتفاصيل مبهرة جداً لقصر النبلاء ، استغلال مساحات صقلية وتنوع طبيعيتها وقسوتها وجماليتها وجعلها بطلة أساسية بالعمل، بفضل تصوير مبهر ليس فقط بالمشاهد الخارجية بل مشاهد القصر الداخلية مبهرة جداً، موسيقى نينو روتا تأسر الألباب والمونتاج على أعلى المستويات.
بيرت لانكستر بدور فابريزيو سالينا عظيم فعلاً من أجمل الأداءات التي شاهدتها، أفضل من شاهدتها يستغل وسامته وكاريزماه وهيبته ليصنع ملامح الدور، نبيل حقيقي، ولا يكتفي بهذه الهيبة بل يملئها بأداء عميق صادم يتصاعد مع العمل، مشاهده الحوارية تقل تدريجياً لصالح أداء تأملي ينطق بالكثير، يتحول بشكل تدريجي من نبيل عريق إلى عجوز يواجه مخاوفه خيباته صدماته هواجسه، وكما أحسن لانكستر استغلال هيبته فكلاوديا كاردينال أحسنت باستغلال جمالها لتعطي لشخصية أنجيلا إثارة لا يمكن مقاومتها ومن ورائها شيطنة وخبث ووصولية، وآلان ديلون بدور تنكريدي يتحول ويتلون ويتقمص الشخصية الوصولية بقوة وحنكة.
الفيلم تحفة استثنائية، شاهدت فيه الكثير عن حالة الفوضى والولادة القيسرية للمجهول الذي تعيشه بلادنا، كنت منقطعاً عن الكتابة منذ أكثر من شهرين رغم مشاهدتي للكثير من الأفلام الهامة مثل الخط الأحمر الرفيع ميتروبيلس سولاريس أفلام أوليفر ستون الثمانينية ولكن هذا العمل ملك جاذبية وقوة دفعتني فور انتهائه للكتابة عنه عمل هو مفخرة سينمائية حقيقية

10/10    

0 التعليقات:

إرسال تعليق