RSS

Viridiana - 1961


ارتبط الفيلم الاسباني فيردينا للمخرج لويس بونويل الفائز بسعفة كان 1961 بصفة أحد أكثر الأفلام جدلية وتطرفاً بالتاريخ، وما زال حتى اليوم بعد أكثر من خمسين عاماً على عرضه يبدو فيلماً صادماً جداً وجريئاً إلى أبعد الحدود، يحاول به بونويل أن يكسر الصورة النمطية لا للأشكال والمفاهيم السينمائية وحسب بل للنمطية القابعة في اللاوعي الإنساني، لنظرة الإنسان العادي المسبقة للأشياء، يلامس حدود اللاوعي البشري ويهزه ويدفعه للخارج لنرى الأشياء على حقيقتها كاملةً بقذارتها بعتهها بشرها بشهوانيتها بأنانيتها بعدم امتنانها، فيلم يجلب أكثر النماذج تطرفاً ويعرضها على الشاشة في رحلة استثنائية تخوضها كاهنة مراهقة قبل أيام من إلقائها لنذورها لتغير نظرتها كاملةً لكل شيء.


الفيلم هو عبارة عن مجموعة من الهواجس والأفكار الغريبة المتطرفة التي كانت تدور في لاوعي بونويل منذ شبابه ، قام بجمعها ورصفها بجانب بعض لتشكل قطعة سينمائية واحدة شديدة غرابة والأهمية، سلسلة من الغرائبية المستمرة بالتصاعد، تجربة فيها الكثير من التشويق والكثير من السريالية والكثير من الصدمة والتطرف، ينجح فيها بونويل منذ المشهد الأول أن يدخلنا مع فيردينيا (بأداء فوق الممتاز من سيلفيا بينال) إلى قصر ذلك الثري الموحش المنعزل ونبدأ باكتشاف غرابة أطواره وتطرف أفكاره، ونكتشف معه كذلك الكثير عن فيردينيا وهواجسها وصراعاتها الداخلية، ثم عودة الابن المنبوذ بعد وفاة والده ليحاول من خلال ما تركه له أن يشكل صورة لأب غائب على الدوام ثم لينتقم منه، وفيردينيا التي تحاول أن تتطهر من إثم لا ذنب لها فيه فتطبق تعاليم الكنيسة بإيواء مجموعة من المشردين وفتح باب القصر لهم دون أن تعي الجانب الأسود بالنفس البشرية الذي يتحدى كل قداسة وطهر وفعل خير.
جمالية العمل لا تقتصر فقط بالمنظور الذي يعرضه بونويل مباشرةً ولا بشكله الصادم المثير والمتطرف، أهميته الحقيقية بنظري هو بالصراع الخفي وراء الحدث، ذلك الصراع الذي لا نراه ولكن نشعر به و نبحث عنه ونفكر به بعد انتهاء العمل،  الصراع الداخلي بين ميل الإنسان للطهر وجوانبه السوداء الغرائزية الشهوانية التي تمنعه وتشده لها، الصراع بين الفقر والغنى، بين الدين والعقل، في العمل هناك عدة صراعات خفية لا يهدئ، فيردينيا التي تتصارع الإنسانة والقديسة بداخلها منذ المشاهد الأولى وهي تنظر لشعرها الأشقر المسدل على المرأة ثم تخفيه بسرعة وتنام على الأرض بجانب الصليب والمسامير وتاج الشوك مرتديةً الملابس الخشنة ليخرج لا وعيها ويعبر عن نفسه بمشيها وهي نائمة بملابس النوم الكاشفة عن مفاتنها والتي تشعل الشهوة بقلب زوج خالتها الجريح المنعزل غريب الأطوار ويحاول الوصول إليها بشتى الوسائل ليحظى أخيراً بمحبوبته الغائبة ويدخل هو الأخر بصراع بين الدنس والأخلاق لا يتحمله، وتعيش فيردينا صراع داخلياً بين الأنثى التي أيقظها هيام الدون جيمي بها وشعورها الصامت بالذنب الذي لا تبوح به وتحاول تطهيره ومسحه.
دون جيمي الذي يهيم حباً بفيردينا حين يرى بها شبهاً لزوجته الراحلة التي توفيت ليلة زفافهما بين يديه، ويبقى هذا الشبه يسبب المعاناة لفيردينيا حين يعود ابن جيمي غوركي إلى قصر والده، ويرى فيردينيا تجسيداً لزوجة الأب التي تسببت بإبعاده عن والده ونشأته كيتيم ، ليكون هناك شيء من تصفية الحسابات بينهم، والقدر يلعب مع فيردينيا وغوركي بشكل متناقض ليأخذ كل منهما دور دون جيمي وزوجته ويحاولان بشكل ما أن يعيدا تشكيل قصة الحب التي عاشاها.
الصراع الأهم بالعمل هو صراع مفهوم الدين والقدرة على تطبيقه فعلاً على جميع مناحي الحياة، فيردينا التي خرجت من الدير قبل أيام من إلقائها نذور الكهانة وابتعادها عن العالم نهائياً، اكتشفت صورة للعالم لا تعرفها لم يعلموها كيف تتعامل معها في الكنيسة، شكل سوداوي يجعلها تفقد رويداً رويداً إيمانها، تعتقد أن بها دنساً لا يؤهلها لتستمر في السلك الكنهوتي فتحاول استغلال الموارد الجديدة المتاحة أمامها لتكون قديسة بالحياة، ولكن هذا الدور لا تتقنه أبداً، رعاية الرب ليسوا مغلوبين على أمرهم طيبين في الأعماق ساعيين إلى الخير ونادمين على الشر هم في أفضل الأحيان مجرد مستغلين لعطف الكنيسة وإحسانها وحين تسنح لهم الفرصة يتمردون على كل شيء على الكنيسة والأغنياء بشكل عنيف جداً وغوغائي.
بونويل يقدم هجائية موجعة لدور الكنيسة، هل هي قادرة على الإتيان بحلول أم إنها تجلب مشاكل أكثر، هل حل مشاكل المجتمع هو بتجاهل الإنسان ورغباته ودفن هذه الرغبات أم بمصالحة الإنسان مع شهواته وذاته، هل جمع الفقراء والإنفاق عليهم هو الحل أم تحسين الاقتصاد وتأمين فرص العمل لهم، هل حل مشاكل العالم هو بانتظار معجزة أم بصنع تلك المعجزة، فيردينا برحلتها للعالم الخارجي وصدماتها المتتالية فيه أدركت تلك الحقائق ورويداً رويداً بدأ الإيمان بداخلها يخفت وتأخذ حياتها شكلاً جديداً وتتحول إلى إنسان أخر ربما لا يشعر بالطمئنينة الروحية كالسابق ولكن يفهم العالم ويعرف كيف يتعامل معه.
بونويل يقدم مشاهد عديدة ذكية للتعبير عن الصراع في عمله بين الكنيسة والعالم، مشهد سائق العربة الذي ربط كلباً بعربته يسحبه وراءه في كل مكان، الكلب قد يقتله التعب ولكن سائق العربة إن تركه مربوطاً قد يهرب، هكذا تتعامل الكنيسة بمنظور بونويل مع البشر، تقييدهم وترهقهم خشية فرارهم من حولها، يشتري غوركي الكلب ويطلقه ثم تمر عربة أخرى بكلب أخر مربوط وكأن بونويل يقول إن تقديم الإحسان دون توعية العقل لن تحقق أي تغيير بالعالم بل قد تزيد مشاكله أكثر، مشهد الصليب الذهبي الذي يخفي سكيناً بداخله صورة تعبيرية ذكية لحالة فيردينيا التي تخفي تحت قداستها وحشاً فتاكاً ، والمشهد لتلاوة الصلاة في الأرض الذي يتقاطع مع صورة العمال وهم يعمرون الأرض من جديد مقارنة سريعة يقدمها بونويل بين أسلوب الكنيسة المستجلب للمعجزات لإنقاذ العالم وبين دور المفكرين الذي يبادرون ويعملون لتحسين كل شيء.
بعيداً عن الأفكار والصور التي يناقشها بونويل ويقدمها هناك شكل بصري مبهر جداً بالعمل، يصنع شكل سوداوي مفزع جداً ويقدم مجموعة من المشاهد الجريئة الصادمة جداً كمشي فيردينا وهي نائمة أو الدون جيمي وهو يرتدي ملابس زوجته الراحلة، وارتداء فيردينيا لثوب الزفاف ومحاولة اغتصابها وهي مخدرة، يبدو العمل في ثلثه مشوقاً غرائبياً لدرجة الرعب، ويهدئ قليلاً في المنتصف مع الشكوك حول غوركي وما قد يفعله ثم عرض المشردين وأشكالهم الواقعية جداً والمفزعة والحفل المجنون الذي يقومون به بالقصر والذي يأخذ مساحة طويلة وهامة في العمل ويصنعه بونويل بشكل محكم جداً وممتاز يعيد فيه تجسيد لوحة العشاء الأخير بشكل ساخر.

بونويل ينجح بأن يصنع على التوازي فيلم بقيمة فكرية بغاية الأهمية وبشكل بصري مبهر وتجربة سينمائية محكمة بغاية الإثارة والتشويق وتستحق، يمكن التعامل معه كعمل مشوق غرائبي كرحلة إلى بواطن وأعماق أكثر الأفكار البشرية تطرفاً وجنوحاً وجنوناً وهو ناجح بهذا ويمكن  التعامل معه كفيلم جريء يناقش الأفكار النمطية ودور الدين والكنيسة بالصراعات الحديثة وقدرتها على إنقاذ الإنسان والعالم وهو بذلك ممتاز جداً أيضاً.

9/10

0 التعليقات:

إرسال تعليق