RSS

Mad Max: Fury Road – 2015


عام 2003 فاجئ أرنولد شوارزنيغر جمهوره بتقديم جزء ثالث متأخر لرائعته (The Terminator ) كمحاولة إعادة فرض وجوده على الساحة وتذكير الجمهور به وبقيمته الشعبية بعد تقدمه بالسن وتراجع مستوى أفلامه على مدة عقد من الزمن وتخليه عن عرش نجم الحركة الأعظم لممثلين أصغر وأكثر شباباً، حركة أرنولد بزمنها كانت دعائية – شخصية له – لا مجرد حنين لزمن ذهبي سينمائي بل ليكسب المزيد من الأنصار بين الناخبين الأصغر سناً في انتخابات 2004 على حكم ولاية كاليفورنيا، حضور الفيلم القريب للممتاز على شباك التذاكر والأصداء التي تراوحت بين الجيد والمقبول لدى النقاد والمتابعين أغرى أبناء جيله ليغامروا ويعيدوا تقديم روائع أفلام الحركة من الثمانينات – عقد الأكشن الذهبي الحقيقي – بتتمات جديدة فرأينا روكي سادس ورامبو رابع وجزئيين رابع وخامس لـ (Die Hard) ورابع لأنديانا جونز ، أفلام تراوح قبولها النقدي والجماهيري بين المقبول نوعاً ما والسخرية مما يصلح تسميته أزمة منتصف عمر أو مراهقة بعد الخمسين يعيشها الممثلين الأكثر شعبية بزمانهم.


مع تواكب التتمات والإنعكاف عن تقديم سينما صيف أصلية كانت المسألة مجرد وقت حتى نرى ميل غيبسون يركب دراجته النارية أو سيارته في صحارى استراليا ويحيي بجنونه الشرطي ماكس على الشاشة الفضية، وفعلاً عاد ماكس المجنون ولكن بدون ميل غيبسون،  بل مبتكر الشخصية الأصلي جورج ميللر هو الذي أعاد بعثه من تحت رماد الثمانينات إلى أضواء الألفية المعاصرة، تصرف غريب من مخرج عرف عنه إنه مقل بأعماله ولكنه بالمقابل لا يقدم سوى أعمال ناجحة كل بضع سنين فمنذ أخر جزء ماكس عام 1985 قدم فقط خمسة أفلام نالت جميعها ثناء عالي أحدها Babe  (أنتج وكتب الجزء الأول عام 1995 وأخرج الثاني عام 1998 ) يعتبر من كلاسيكيات السينما العائلية والثاني Happy feet  نال الأوسكار كأفضل فيلم أنيميشن عام 2006، وهذه المسيرة التالية لماكس على مدى ثلاثين سنة امتلأت بالأفلام العائلية يجعلنا نستغرب رغبة ميللر القادر على صنع سينما أصلية ناجحة أن يعود لدفاتره القديمة ويقدم الأكشن بعد أن نجح بأن يصنع لنفسه صورة المخرج العائلي الناجح ، القضية ليست إغراء مؤثرات اليوم وهو الذي تجاوز ثورة مؤثرات التسعينات، وليست قضية مال وهو الذي درت عليه أفلامه العائلية ملايين تطمر ماكس، وليست قضية تحية لميل غيبسون كما فعل سبلبيرغ حين ألبس هاريسون فورد القبعة وأعطاه السوط وقذفه بمغامرة أنديانا جونز تلبية لرغبة النجم الستيني للعودة إلى الأضواء مجدداً، فميللر تجاهل وجود غيبسون كلياً، هناك أمر آخر ببال ميللر ، أمر لم يفطن له الجمهور ولا النقاد أو يفكروا به قبل عرض الفيلم فتابعوا أخباره بتململ، أغرتهم الصور المسربة والعروض الدعائية وتقاسم هاردي وثيرون للبطولة ولكن العمل قبل عرضه لم يكن الأكثر منتظراً في موسمه، إلا إنه وبعد عرضه قلب الموازيين وأصبح من أنجح أفلام 2015 نقدياً وجماهيرياً، ماذا فعل ميللر ؟ الجواب هو إنه لم يقدم تتمة ولم يقدم إعادة ، أنسى ماكس السابق كلياً، هذا فيلم أصلي بالكامل.

القصة معروفة عن ماكس الشرطي السابق في زمن ما بعد الحرب الكونية الأخيرة والكوارث البيئية التي دمرت الحضارة البشرية وأعادتها إلى ما تحت الصفر ووضع ما تبقى من بشر تحت رحمة مجموعة من المعاتيه والطغاة وفرض جو جنوني قريب للسريالي على الأرض الميتة، في هذه البيئة يخوض ماكس (توم هاردي) مغامرة لاهثة لمساعدة القائدة فيوروزا (تشارليز ثيرون) على إنقاذ مجموعة من خليلات حاكم الماء المتسلط الخالد جو (هيو كيز بيرني) من ظلمه وإرسالهم إلى الأرض الخضراء التي لا تسكنها سوى النساء، العمل لا يحوي حبكة أو منعطفات هامة، لا يوجد شيء صادم أو استثنائي في القصة لتراه، عظمة العمل هي بتفاصيله، هو فيلم تفاصيل ، كل شيء فيه مبهر للعين ومشوق مع إيقاع إثارة عالي جداً، مشاهد مطاردة وحركة مبتكرة لا تتوقف على مدى 120 دقيقة ومليئة بالتفاصيل الدقيقة الجذابة، ميللر لم يترك أدنى شيء يفوته كل مشهد مصنوع بحرفية عالية وينجح بسلب عقل المشاهد وأسره طوال العمل ورفع الأدريناليين إلى ذروته حتى مع المشاهدة الثانية ، هو فيلم يصلح أن نقول عنه إنه ليس لأصحاب القلوب الضعيفة، مليء بالتلاعب مليء بالمخاطرة ، مبهر برفع مستوى الإيقاع البصري حتى ذروته ثم منح فواصل راحة بسيطة للمشاهد قبل أن يحلق به مجدداً أو يهوي به مجدداً سالباً عقله وحابساً أنفاسه ومهدده بأزمة قلبية، هو كلعبة الأفعوانة يصعد به بسرعة للأعلى ثم يعطيه لحظات من الراحة قبل أن يهوي بعربته للأسفل مجبراً المشاهد على الشهيق والصراخ والضحك والتفاعل حتى أقصى الحدود.
هذا فعلاً أفضل فيلم حركة وإثارة منذ Inception  على الأقل ، هذه النوعية قد تكون مبهرة وذكية بحبكة قصتها أو قد تكون مبهرة بتفاصيل صناعتها وماكس هو من النوع الثاني ، قد يعتقد البعض إن هذه النوعية أسهل من الأولى التي تطلب ذكاء استثنائي لصنع حبكة غير تقليدية، ربما هذا صحيح، ولكن صنع فرجة سينمائية عظيمة من النوعية الثانية يعيشها المشاهد وتعيش معه بعد نهاية العمل وتبقى تبهره مع كل إعادة و تعلق بذاكرته فهذا الإنجاز يحتاج لجهد جبار وعبقرية من نوع خاص وميللر كان على مستوى التحدي، جمالية الفيلم ليس فقط بمشاهد المطاردة العظيمة ، بل تفاصيل العالم الذي يصنعه استثنائية، الأجواء التي تدور بها القصة، العالم الذي يصنعه ميللر  استثنائي وغير تقليدي و مثير ومرعب ومبهج وذكي على مستوى مشاهد المطاردة، أفكار مجنونة عديدة لا أعرف من أين جاء بها، ولكي يقدم رؤيته المستقبلية السريالية الخاصة بأعلى المستويات الحرفية والجمالية الفنية كان بحاجة لموسيقى ومكياج وديكورات ومونتاج تصوير ليست فقط ممتازة وإنما استثنائية وفعلاً كانت كذلك، فالعناصر الفنية لرائعة ميللر ممتازة أعلى من مستوى أي فيلم أكشن أو خيال علمي وصنع بها تحفة إثارة حقيقية.

فيلم طريق الغضب هذا رغم إنه كأي فيلم حركة يعتمد على كليشيات من النوع ولكن الطريقة المميزة والرؤية الخاصة التي صنع بها ميللر عمله وإيقاعه فوق الاستثنائي جعل العمل أصلياً بالكامل ، وصنع مشاهد لا يمكن أن تنسى كمشهد الأعصار وماكس المعلق في مقدمة الحافلة وعربة الموسيقى ومقتل زوجة جو الخالد وطبعاً معركة غزو القلعة التي كانت من أعظم مشاهد المعارك التي شاهدتها على الإطلاق، ميللر ذكي جداً بصنع العلاقة بينه وبين جماهيريه ويعرف أن يقدم ما يردونه في الوقت الذي يريدونه ولكن بطريقة تفوق توقعاتهم، تعامله مع سلسلة كانت كاريزمة الممثل الرئيسي لها من العوامل الرئيسية لنجاحها في جزء جديد لا يحوي هذا الممثل كان عبقري جداً فرغم إن ميل غيبسون ليس موجود ولكن روحه موجودة وتوم هاردي – الذي أبدع سابقاً بفيلمي نولان inception  و  T.D.N.R وقدم أداءات ممدوحة جداً في Warrior  و Lock – عرف كيف يتلبس روح غيبسون، منذ المشهد الأول يحلق شعره ثم يخفي وجهه بقناع لحوالي نصف العمل ويبدع بارتداء كاريزمة غيبسون من خلال تكشيرة الوجه أو حملقة العيون ليجعل المشاهد يتقبل تدريجياً غياب غيبسون وحلول هاردي محله الذي كان على ثقل المهمة، وتشارليز ثيرون الأوسكارية والتي قدمت عدة أداءات ممتازة في مسيرتها فيMonster  و North Country و In the Valle of Ella و Young Adult و عدة أفلام حركة جيدة كـ Italian Job تمزج هنا بين القوى البدنية وأداء جيد جداً أعطى الشخصية الكثير من الأبعاد الإنسانية وجعلها مليئة بالعمق المطلوب الذي تحتاجه دون تعمق زائد أو مبالغة غير مطلوبة جاعلةً من شخصية فيبروزا على مستوى واحد مع شخصيات أنثوية عنيفة كلاسيكية كربالي من Aline  و العروس من Kill Bill.
لمن يبحث عن أفكار ورسائل بالعمل أقول له ستعود خائباً، هذا ليس كذلك، هذا فيلم متعة فيلم أجواء فيلم ترفيهي فوق الممتاز مع حبكة بسيطة جداً مناسبة للعمل وشخصيات بسيطة غير سطحية، هو فيلم يعود بنا إلى متعة السينما الأصلية ويثبت إنها ما زالت قادرة على سلب عقولنا وسحرنا جعلنا نتفاعل معها نغمض عينينا نحني رؤوسنا نقفز ونصرخ كما جرى مع أول من شاهدوا السينما في بدايات القرن الماضي، ومع ذلك فأنت لا تستطيع سوى أن تشعر بالرعب من هذا المستقبل الافتراضي الذي يقدمه ميللر بعمله، ما كان أشبه بالمستحيل تخيله قبل ثلاثين سنة يبدو اليوم ممكن الحدوث وهذا أمر مرعب فعلاً فانتشار الطائفية والظلم والعنف والتصفية والفاشية حول العالم والكوارث البيئية تجعلنا لا نستغرب أن يأتي يوم ونعيش بعالم ماكس المجنون وهذه الصلة غير المرئية التي يصنعها ميللر تحت السطح بين الواقع والافتراضي تزيد من مستوى الإثارة بالعمل والتفاعل معه ويجعله بالمحصلة أحد أنجح وأفضل الأفلام في موسمه.
9/10


0 التعليقات:

إرسال تعليق