RSS

Winter sleep – 2014


لا استطيع أن أمنع نفسي من الشعور بالإشفاق الممزوج بالحسد وأنا أتخيل حالة أعضاء لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة وهم مضطرين لاختيار فيلم واحد من ضمن تحفتين ليتوجوه بسعفتهم، فالاختيار صعب حين تكون المنافسة بين فيلمين مثل يومين وليلة و بيات شتوي، وكان جنوح اللجنة نحو الخيار الأسهل فبدل أن تسمح للدالدريز بتسجيل رقم تاريخي كأول صانعا أفلام ينالان السعفة ثلاث مرات، قامت بتتويج مدلل المهرجان التركي نوري بيلج جيلان بالجائزة الكبرى أخيراً وهو الذي سبق له وأن نال مختلف جوائز كان الأخرى.


كان قد سبق لي وأن تعرفت على سينما جيلان من خلال فيلمه المميز (3 monkeys ) الفائز بجائزة إخراج كان عام 2008 ، فيلم يتناول قصة خيانة زوجية في الأناضول بين سياسي وزوجة سائقه الذ حمل عنه وزر جريمة قتل أثناء حملته الانتخابية، فيلم فيه صناعة سينمائية رائعة مشوقة لم نرى فيها الخيانة كفعل صريح وإنما كدلالات تجعلنا متيقنين بنسبة 90 % إن الفعل وقع وترك 10 % من مساحة للشك كانت هي مسرحه للعب بالمشاهد طوال فترة العمل ومن وراء هذا اللعب قدم  الكثير من الدلالات السياسية العظيمة وتصوير لتناقضات والصراعات الطبقية في بيئة الأناضول الريفية القاسية، مواضيع عاد جيلان وقدمها اليوم في بياته الشتوي ولكن بشكل أكثر تشويق وبرودة وحنكة، يتحدث عن عابدين (هالوك بيلجينير) اقطاعي ومالك لقرية أناضولية ينتمي للطبقة المثقفة من خلال تاريخ مسرحي تمثيلي متواضع وامتلاك جريدة مغمورة ينشر بها مقالات اجتماعية وفنية ناقدة ويعكف على تأليف كتاب عن تاريخ المسرح التركي، يعيش في فندق مع شقيقته نجلاء (ديميت اكباج) المطلقة والمترجمة لأعمال أدبية عالمية وزوجته نهال(ميليسا سوزان) الشابة المحسنة ذات الأيادي الخيرية، ونتابع على طول فترة العمل اليوميات الروتينية الباردة لهذه العائلة الصغيرة في الفندق ونلاحق سلسلة حوادث تبدأ باعتداء أحد الأطفال على سيارة عابدين رمياً بالحجارة ليقودنا إلى مكاشفات بين الشخصيات تفضح تناقضاتها وعقدها في البيئة المزيفة العفنة التي تعيشها.
الفيلم دراما استثنائية مميزة ودراسة معمقة للطبقة الاقطاعية المثقفة في العالم كله وليس تركيا وحسب، هذه الشخصيات تنسج لنفسها عالم خاص من الوهم، يعيشون مرتاحين مع فكرة البراءة والنقاء من أي مشكلة اجتماعية ومقتنعين بأن كل ما يفعلونه خير للمصلحة العامة ومبرر وكل العيوب والنواقص الاجتماعية سببها جهل الطبقة الفقيرة  دون أن يخامرهم أدنى شك بأن لهم اليد الطولى بعيوب المجتمع وفقر تلك الطبقة، ويمارسون سطوتهم على تلك الفقراء متذرعين بحقهم بالدفاع عن نقائهم بمواجهة شوائب الفقراء وبأن المجتمع مقسم منذ الأزل هكذا فقراء وأغنياء وليس لهم ذنب أن القدر احتباهم بالثراء ، وكل مساعدة يقدمونها للمجتمع هي إحسان يتفضلون به وأغلبه لصنع سمعة اجتماعية عطرة، وأي تصرف قاسي ولا أخلاقي يقومون به بحق الفقراء هو للدفاع عن حقوقهم الشرعية بمواجهة الأشرار الفاسدين المحتالين الحاسدين الطامعين بثرواتهم، وينصبون أنفسهم أوصياء على الأخلاق والدين ينظّـّرون وينظّـّرون محاولين الظهور بشكل المثل والقدوة التي يجب الاحتذاء بها وحياتهم مليئة بالعفن الاخلاقي والنفسي الذي يتجاهلونه ، (عابدين) يكتب مقالات رديئة يتحدث بها عن مشاكل المجتمع ويحاول اختراع حلول لاصلاحه دون أن يهمه إن كان هناك من يقرأ أو يستفيد أو إن كانت هذه المقالات هي المساعدة الحقيقية التي يقدمها ، وأخته نجلاء تتكلم وتتكلم عن ضرورة المسامحة والتعاطف مع الشر ومحاولة إلهامه الخير دون أن تقوم بأي مبادرة حقيقية لذلك بل إنها تتخلى عن مذهب المسامحة الذي ابتدعته وترفضه حين تتعرض لاعتداء من الشر وتنادي بالعقاب كضرورة لتصويب الشر في نفوس المعتدين، ونهال تنتقي أفعال الخير انتقاءً وتهتم من خلالها بصورتها الخاصة الملمعة التي تطهر بها نفسها من عفن زوجها وأخته وحين يحاول عابدين أن يكون جزء من أعمالها ترفض ذلك خوفاً على مجدها المصطنع من أن يسرقه عابدين.
مع الدراسة النفسية العامة المعمقة لطبيعة هذه الطبقة يمزج جيلان معها بطريقة مبهرة دراسة لعيوب والعقد الخاصة لشخصياته، هذه الشخصيات المنعزلة عن العالم كله في فندق حولته لمملكتها الخاصة التي تفقد قيمتها وقوتها خارجه رغم إن حلمها الدائم هو الهرب منه، هذه الشخصيات محبطة مكسورة الأحلام لم يبقى لها سوى سطوتها بعد أن عجزت عن أن تكون ما تريده، عابدين يهرب من فشله التمثيلي بتأليف كتاب عن تاريخ المسرح وينظر بحسد لنزيل شاب في فندقه يعيش جنون الشباب ومغامراته، و نجلاء تنظر بحسد إلى شباب نهال واستقرار حياتها الزوجية وتتألم لعجزها عن مواصلة حياتها بعد الانفصال أو تحقيقها لأي قيمة مجتمعية أو ذاتية حقيقية لتسبح بيوميات متتالية لا نهائية من الفراغ والضجر والروتين، نهال تحسد نجلاء على قوتها بوجه عابدين وترثي لأحلامها المحطمة بعد افتضاح الصورة القاتمة لزوجها الذي كان يوماً فارس أحلامها والذي اسر طموحها وآمالها بفندق بارد حتى تركها تعجز عن تخيل أي حياة خارجه، الشخصيات جميعها ترد الهرب من الفندق والعثور على حياة خارجه ولكنها لا تعرف مكاناً أخر تأوي إليه غير هذه المملكة تعثر فيه على القوى والأمان والقيمة ليكون أكبر انكساراتهم إدراكهم إن رصيدهم الاجتماعي الحقيقي هو صفر خارج هذا الفندق.
الفيلم طويل جداً وبارد ومليء باليوميات المكررة ولكنه خال من الحشو وميزته بطوله وبروده وتكرار بعض مشاهده بحركة متعمدة من جيلان ليجعلنا نتعمق بالشخصيات وحياتها نشعر بضيقها وندرك طبائعها ليصعد العمل في نهايته إلى جو جيد من التشويق غير المفتعل، فبعد أن تعمقنا طويلاً بنفسية عابدين وعرفنا مدة قسوته وشراسته وقسوته وحتى قذارته بدفاعه عن ممتلكاته وقيمته لا نستطيع سوى أن نراقب بقلق كيف سيتصرف مع شخص يرى فيه تهديد لشرفه واستقراره الزوجي ، في مشهد حواره الرائع مع الاستاذ نراه يتحول إلى رئيس عصابة لا شيء يحول بينه وبين قتل من يهدده، ويقطع جيلان هذا المشهد بمشهد عظيم لـنهال وهي تحاول تعويض عائلة اسماعيل نجاة اسلار عن الضرر الذي ألحقه بهم عابدين طوال العمل ونتشوق أيضاً لنراقب ردّة فعلهم اتجاه إحسانها هل سيقبلونه ويغفرون لعابدين كل شيء مقابل نقود يحتاجونها أم إن الكرامة الإنسانية ستمنعهم، وانهيار نهال في سيارتها لم يكن سوى لإدراكها إن تلك الشخصيات التي تحتقرها تملك شيء فقدته في مملكة عابدين رغم ثروتها وثقافتها وهي الكرامة التي حررت أولئك الفقراء الجهلة من طغيان عابدين.
الفيلم فيه دراسة تفصيلية وافية لكل شخصية ومبهر برسم الحدث ونسج الحوارات الواقعية العظيمة، مشاهد المكاشفات بين عابدين وأخته وزوجته وبينه وبين الأستاذ وبين نهال وإسماعيل عبقرية جداً، عدا العديد من المشاهد الهامشية الثانوية التي تصدم المشاهد وترفع من قيمة العمل، كتقديم الخف النسائي لأحمد ومشهد اعتذار الطفل ومشهد ردّة فعل نجلاء بعد فقدانها لقطعة أثرية ومشهد رفض المسافر في محطة القطار إجلاس مساعد عابدين بقربه.
بصرياً هذا العمل يحوي أفضل تصوير لعام 2014 المشاهد الداخلية بإضاءة خافته تكاد تكون شموع تبدو مرسومة بريشة فنان واختيار القرية المنحوتة بالحجر والجبل جعل من طبيعة الأناضول بطلاً إضافياً في الفيلم مع الطاقم التمثيلي الرائع الذي قدم أداءات جبارة جداً بالأخص من بيلجينير بأحد أفضل الأدوار الذكورية الرئيسية للعام الماضي.
هذا العمل هو دراسة  صادمة لطبيعة الصراع الخفي في المجتمع التركي المتناقض والقابل لأي لحظة للانفجار وتفسير تقريبي لسبب ما حصل في المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة وخصيصاً في جارة تركيا الجنوبية بلدنا بلد الشمس الجريحة سورية ، صراع لا يتعلق فقط بالمال والفقر بل صراع يتعلق بالكرامة قبل أي شيء أخر .

10/10 

0 التعليقات:

إرسال تعليق