RSS

Whiplash – 2014


من حسنات الأوسكار إنه يعطي مجال لأفلام مثل Whiplash  بالخلود، فيلم رغم كل ميزاته الفنية وجماليته وأهميته إلا إن فرص خلوده بذاكرة المشاهد العادي شبه معدومة لعدة عوامل أهمها عدم تحقيقه الصدى التجاري وعدم شهرة صناعه في الوقت الحالي – لا ندري مصيرهم بالمستقبل - ، ترشيح الفيلم لخمس جوائز أوسكار فرصة لتحفة فنية حقيقة كهذه أن تبقى محط اهتمام المشاهد وهذا أمر أرضاني ولو جاء على حساب أفلام مثل Gone girl  و Foxcatcher  .


القصة بسيطة جداً ولكن بغاية العمق والأهمية والإتقان، أندرو (مايك تيلار) طالب في أحد معاهد الموسيقى الراقية يدرس الجاز من خلال العزف على الطبول يواجه تحديات عديدة في هذا الطريق تدفعه لدرجة الهوس بإتقان ما يتعلمه بالأخص حين يقع تحت يد قائد الأوركيسترا فليتشر (جي كي سيمونس) النازي بأساليبه التعليمية والذي يستعمل أكثر الطرق إرهابية لدفع طلابب نحو تقديم أفضل ما عندهم .
الفيلم الذي كتبه وأخرجه داميان شازيل بعيد تماماً عن أي نمطية أو تقليد شاهدناه بأفلام مشابهة وهنا تكمن جماليته، نرى أندرو من عائلة مفككة والدته هجرته في طفولته ووالده بروفيسور مسالم ضعيف الشخصية ليس راض عن عائلته ولكنه متصالح معها ودافع التحرر من مشاكله الأسرية يشكل عنصر ثانوي بقضية البطل ونراه في نفس الوقت على علاقة جيدة بوالده وهذا الشيء يمنع الفيلم من الدخول بمنعرج نمطي أخر عن تكوين علاقة أبوة بديلة مع معلمه وتجعل العلاقة بينهما علاقة تحدي من نوع خاص، الدافع الحقيقي لأندرو هو رغبته بتحقيق عظمة ذاتية له أن يتفوق على نفسه ، هو بتحدي مع زملائه ومعلمه وفوق ذلك مع نفسه ليحقق النجاح الذي يحلم به ليتغلب على رواسب الضعف في شخصيته ليفجر الفنان بداخله، يتعرف على نيكول (ميليسيا بينويست) وتنشأ بينهما علاقة رومانسية لطيفة ولكن الفيلم لا يدخل بمحور نمطي أخر عن الفتاة التي تلهم الفنان، إيريك يتخلى عنها لأنها تبعده عن هوسه وتحول بينه وبين العظمة، الهوس هنا لا يتم تصويره على إنه شيء قسري منبوذ ويأسر البطل غصباً عنه ويريد الخلاص منه بل هو يريد هذا الهوس يريد هذا الانغماس ومستعد أن يضحي بأي شيء ليحقق الاندماج الكامل مع شغفه و شازيل يبدع بتصوير هذا الهوس بطريقة مجنونة مقلقة جداً وعنيفة دون أن تشعر إنها مبالغة فالبناء النفسي الممتاز يبرر كل شيء و يستفيد هنا من شخصية فليتشر لتكون تعبير خارجي عن قسوة الفنان في جلده لذاته في سبيل تحقيق طموحه  .
علاقة فليتشر بأندرو غريبة عن اي علاقة مشابهة في الأفلام، في البداية هناك انبهار وإعجاب من أندرو بمعلمه لا يلبث أن يتحول إلى تحدي ورغبة بتحطيم الأخر، فليتشر لديه فلسفة خاصة بالتعامل هو لا يعنيه أن يكون مجرد قائد أوركسترا حرك يديه أمام الفرقة فأي شخص يحفظ النوتة يمكنه فعل ذلك، هو يبحث عن الموهبة الحقيقية وعن الموهوب الحقيقي هو يثق إن عظمته كمعلم موسيقي يكمن بفرصة اكتشاف فنان عظيم، أمر لا يساوم عليه ولا يتساهل به، لذلك فهو يستعمل أكثر الطرق النفسية تعذيباً ليحقق ذلك، متشرب لفكرة الجاز للأقوياء لذلك يضغط على تلاميذه بقسوة وكأنه يهدف تحطيمهم حتى يكتشف من عظمه أقسى بينهم، يسخر من رجولتهم يهين شخصيتهم يسخر من حياتهم يحط من قدرهم، يستفزهم ليفجر الوحش بداخلهم ليطلقوا أقسى قواهم كخلاص من هذا التعذيب، فليتشر يضغط على أندرو حتى يخترق ضعفه وتخرج موهبته للعالم يحاول خنقه وطحنه حتى يجعله أفضل وشازيل يصور مشاهد التدريب بطريقة متعبة جداً ويبدع بنقل مشاعر الإرهاق للمشاهد ويشعره بالضغط الذي يعيشه أندرو وزملائه.
رغم كل القسوة التي يتعرض لها أندرو من فليتشر ولكنه لا يكرهه هو يقدر ما يفعله ويتفهمه لذلك لا يرضى بدايةً أن يشهد ضده ، لذلك يلتقيه فيما بعد ويجلس معه بجو عال من الود يفهم به معلمه أكثر، ولكن في العرض النهائي يكتشف كم إن معلمه وحش لا يرحم فلا يجد حلاً سوى أن يكون وحشاً مثله، أن يأخذ الفرصة التي يستحقها وحين يكسر معلمه لا ينتقم منه ذاك بل يتحد معه لغرض واحد، هو نفس الغرض الذي سعى إليه بدايةً ونسيه بانغماسه بالوحشية، هو العثور على موهبة فنية عظيمة.
كأول فيلم طويل يخرجه الشاب داميان شازيل ذو الثلاثين ربيعاً يخرج عملاً بموهبة الكبار وخبرتهم، يتفهم الفكرة ويتقن نسجها، يبدع بصنع عمل عن الهوس والإنغماس به والرضى به كوسيلة لتحقيق النجاح حتى نصبح أسيري الهوس لغرض الهوس لا لشيء أخر، يصنع عمل عظيم عن قسوة موسيقى الجاز وصعوبتها، يعتمد على ممثليه ليرتقي بعمله إلى مستوى عال جداً مايك تيلير ذا السبع والعشرون عاماً يبذل مجهوداً مرهقاً بدور أندرو ويقدم نفسه كموهبة تمثيلية عظمة مع اتقان رائع لعزف الطبول، جي كي سيمونس الذي نذكره من دور مدير التحرير الغاضب في سبايدرمان لسام ريمي يقدم أداء بغاية العظمة ينقل الشخصية لتكون رئيسية ولتأسرنا وتشدنا للعمل هو قوي قاسي مهيوب غاضب ومخيف من الصعب وصف عظمة ما قدمه يهيمن على العمل بطاقة وقسوة وخوف لا نظير له، فنيات العمل مبهرة جداً التصوير الداكن والمونتاج العظيم يصنع فيلماً مميز بصرياً ويشكل تحفية فنية حقيقية.
9/10


2 التعليقات:

Unknown يقول...

لقد قرأت كل المواضيع في هذه المدونة تقريبا..
فعلا انت رائع بأسلوبك في الكتابة والتحليل..
انا شخص محب للأفلام.. ولكن بعد اكتشاف مدونتك زاد حبي للأفلام لأنك جعلتني اشاهدها من منظور مختلف.. جعلتني أشاهد الأفلام كما يجب أن تشاهد..

Unknown يقول...

مراجعة فيلم جبل بروكباك جعلتني اعشق هذه المدونة

إرسال تعليق