RSS

Gone Girl – 2014


"عندما أفكر في زوجتي, تنتابني أفكار بخصوص رأسها بالأخص, أتخيل نفسي أحطم جمجمتها الجميلة, وأفحص مخها في محاولة على أجوبة الأسئلة المعتادة في أي زواج, فيما تفكر؟ بماذا تشعر؟ ماذا فعلنا ببعضنا؟
هذه الافتتاحية مع نظرة إيمي (روزاموند بايك) الباردة المشفقة والمريبة العصيبة على الفهم كلغز تدرك إنك على وشك الدخول ضمن واحدة من أفلام التلاعب التي لا يجيدها سوى ديفيد فينشر، الأمريكي البالغ من العمر /   53 / يتجاوز باعتقادي كونه أحد أفضل مخرجي أبناء جيله وأحد أفضل العاملين بالإخراج حالياً ليكون من العلامات الفارقة كأفضل مخرجي السينما الأمريكية على الإطلاق، الرجل لا يكتفي أن يكون وريثاً شرعياً لهيتشكوك وبولانسكي ودي بالما كسيد سينما الإثارة المعاصر  ، بل هو امتداد لكوبريك وسكورسيزي كباحث عن الطبيعة الإنسانية الوحشية البربرية وراء ثوب الإنسان العصري وعن التناقضات والتشوهات الروحية التي سببتها الحياة المدنية المعاصرة، العقلية المبدعة وراء ثلاثة من أفضل أفلام الإثارة في التسعينات (se7en – the game – Fight club) والمرشح مرتين للأوسكار عن The Curious Case of Benjamin Button  و The Social network ، كان الجمهور ينتظر منه مع سماعه أنباء دخوله لمشروع جديد إجرامي مثير شيء بحجم Zodiac  و The Girl with Dragon Tattoo  ، وفعلاً لم يخيب الآمال وقدم شيء تجاوز كل التوقعات ...

الفيلم يتحدث عن نيك دان (بين أفليك) كاتب مغمور وصاحب بار تختفي زوجته في ذكرى زواجهما الخامس تاركةً آثار لجريمة قتل أو اختطاف، زوجته إيمي ابنة كاتبة قصص أطفال شهيرة وشخصية في كتابات والدتها الأهم (The Amazing Amy  ) ووجه اجتماعي محبوب مما جعل من اختفائها سريعاً قضية رأي عام ومحل اهتمام الصحافة والإعلام، وملابسات الاختفاء وماضي مضطرب في العلاقة مع ظهور دان بابتسامة عفوية أمام صورتها المكبرة بابتسامة عفوية في مؤتمر صحفي وبعض الهفوات منه تحوله مباشرةً إلى المتهم الأول في اختفاء زوجته.
الفيلم أحد أكثر أعمال فينشر إثارة رغم إنه ليس بصخب وعنف وسرعة Se7en  و Fight club و The Girl with Dragon Tattoo   ، هو هادئ في نصفه الأول ويتصاعد بقوة في نصفه الثاني ويحافظ فينشر معه على إيقاع مضبوط من العنف والدموية ويركز أكثر على أجواء التوتر والشكوك والريبة، الحدث الذي نراه ليس مهم وإنما ما نتخيله وراء الحدث وما نتوهمه عنه وما نتوقعه أن يؤدي إليه، الفيلم وبرغم طوله وبرودته ولكنك لا تشعر بالزمن أثناء مشاهدته، سلسلة من ألاعيب العقل المبسطة والمتداخله يمارسها فينشر ويوقع بها شخوصه الإنسانية جداً ، منذ بداية العمل وأن تشعر بوجود ألعوبة ما، كل الأدلة تشير إلى أن (نيك) متورط باختفاء زوجته والمنطق يقول هذا والإعلام يصر عليه، ولكنك مع ذلك لا تتيقن للاتهام ، التناقض الذي نراه بين رواية نيك وبين كيف دون في المذكرات وتعاطفنا معه مع تكالب الإعلام عليه ورفضهم سماع صوته وإحساساً بصدق مع يرويه - بفضل أداء صلب من بين أفليك - يجعلك تشعر دون وجود أي دليل حقيقي إن هناك ألعوبة ما وقع بها ولكنك في نفس الوقت لا تستطيع منع نفسك من التفكير إن الألعوبة ربما من نسجه، ورويداً رويداً يقود فينشر الخطوط بيده نحو زاوية أخرى ميتة لم نراها بدايةً وحين توشك اللوحة على الاكتمال بعقل المشاهد يحرمه من لذة الاكتشاف ليقدم له الحل المتوقع أصلاً ولكنه يعوض ذلك بلذة أسلوبية العرض، فلمشهد المطول الذي يكشف فيه الألعوبة هو أحد أفضل المشاهد التي أخرجها في مسيرته.
بعد الاكتشاف يقود فينشر الأحداث نحو مستوى أخر من الإثارة وأنت تتابع بفضول وترقب تفاصيل عقلية معتوهة ومريضة جداً وتنتظر منها ما تخبئه للشخصيات بالأخص وأنت ترى الأحداث وقد أفلتت لحظة من يدها وانكسرت خطتها المحكمة وأصبحت هي الطريدة والضحية ليفاجئك فينشر مجدداً بحل أخر كان قد مر على المشاهد بشكل خاطف في منتصف العمل ولكن لم نتخيله على هذه الوحشية والقسوة ويقود بها الأحداث نحو طريق أخر مختلف.
المرحلة الثالثة الختامية بالعمل هي الأكثر إثارة لم تنتهي الأمور مع كشف الألغاز الموضوع الآن كيف ستتصرف الشخصيات حيال ما عرفته بالأخص وقد أصبح الخطر أكثر فتكاً وكل الحلول قد تحمل شيء من الخسائر لينتهي بطريقة قد تبدو غير منطقية ولكن ومع مجرى الأحداث والموضوع الذي يعالجه العمل تشعر إنها أفضل نهاية ممكنة للعمل.
باعتقادي إن أهمية فينشر كمخرج ليست بقدرته على جعل أقل تفصيل بعمله مثيراً وذكياً بل أهميته الحقيقية إن الإثارة التي يقدمها ليست فارغة أبداً، أعماله السبعة منذ Se7en  وحتى The Girl with Dragon Tattoo  - هي ثمانية ولكن استثنيت بينجامين بوتون – تشكل حلقات بسلسلة مشروع فكري يتحرى أمراض المجتمع الحديث، ويبدو أوضح ما يكون بأفلامه الأربع الأشهر والأهم بنظري العزلة في Se7en النمط المعيشي الاستهلاكي في Fight club وهيمنة المظاهر والتوزيع والتصنيف الطبقي والاجتماعي في The Social network وشكل العالم الحديث المتوحش البربري معدوم الأمان كغابة رغم كل مظاهر الحضارة في The Girl with Dragon Tattoo   ، وبهذا العمل الحديث – الذي ينتمي لنخبة أعماله – يعري فينشر عالم الإعلام وهيمنة الميديا على العقول بطريقة لم نرى بجرأتها كثيراً، الإعلام الحديث لم يعد ناطقاً بصوت الشعب وليس ناقلاً للخبر وليس سلطة رابعة ، هو صانع للخبر وموجه له وسلطة أولى ديكتاتورية تتحكم بمصائر البشر ظن قضية اختفاء إيمي يستلمها الإعلام ويجعل منها شغله الشاغل ويتبنى فكرة ويقود الجمهور نحوها دون أن يهتم بالبحث أن كانت حقيقية أو لا، ويحكم على الجاني ويدينه دون أن يهتم لدفاعه، فقط لتقديم قصة ترضي توجهات المذيعة وتكون مقبولة للجمهور ويتلاعبون بها بشتى الأشكال ليقبلها المشاهد، هو يؤثر على الجمهور وعلى عائلة الضحية وعلى التحقيق حتى ، والجمهور يستجيب لما يقال بلا مناقشة ويتابع الأمر كأنه يتابع برنامج تلفزيوني ترفيهي في حالة انعدم بها الفرق بين الترفيه المصطنع والحقيقية وسيطرت ثقافة تلفزيون الواقع على العقول فلا أحد يكترث إن هناك حياة حقيقية وراء القصة امرأة اختطفت وربما قتلت وشخص ربما يكون مظلوم المهم فقط أن يتابع عقل يعجبه ويرفهه، حتى نيك لا يكترث لأمر زوجته ولا يخيفه القضاء بقدر ما تخيفه صورته أمام الإعلام وتأثيرها عليه وعلى مجرى التحقيق، ومن ناحية أخرى يبدو مستمتعاً بأن يتصدر عناوين الأخبار وأن يكون بطلاً على الشاشة ولو كان منبوذاً ، ويبدو هذا الاستمتاع جلياً حين يظهر بمقابلة ليبرئ نفسه ، واللعبة الإعلامية تدخل في صميم الأحداث وتتحول إلى بطل فيه ليكون الخيار الذي تتخذه الشخصيات منطقي رغم غرابته فلشخصيات لم تكافح من اجل مصيرها بل من أجل صورتها، حتى إن اللعبة الإعلامية والضغوط الاجتماعية يستغلها فينشر بذكاء ليجعلها سبب وحشية الشخصية المجنونة بعمله ويجعل من أفاعيلها المرعبة وسيلة تحرر من نمط حياة جعلها طوال عمرها تحت الأنظار والمراقبة.
بعد أن أثبت نفسه كمخرج محترف بثلاثة أفلام فاز أخرها بالأوسكار يريد الآن أن يثبت نفسه كممثل محترف أيضاً ، هو يقدم هنا أفضل أداء بمسيرته ، شخصية ازدواجية ليست مثالية مليئة بالتناقضات والأخطاء والعيوب ونتعاطف معها رغم كرهنا لتصرفاتها ، شخصية رغم سوء تصرفاتها ولكن ذلك لا يكفي ليبرر أن تكون مجرمة ، يبرع بتقديم حجم الضغوط والمعاناة التي يرزخ تحتها تجاه هذه المعضلة وفي نفس الوقت يبدع بإظهار جانب مستمتع بكل هذا الضغط وهذه اللعبة ولو كانت خطيرة، (روزاموند بايك) تقدم بشخصية إيمي أداء شديد العظمة وأفضل أداء بالعمل، تلعب بالشخصية على ثلاث مستويات ونتماها معها بكل تحولاتها، في العمل مجموعة من الأداءات الثانوية الممتازة جداً من نيل باتريك هاريس تايلر بيري وكاري كون وكيم ديكينز وطبعاً ميسي بايل ، فينشر يقدم صورة قوية ببساطتها ، مع تصوير سوداوي ومونتاج شديد التمييز يصنع بفيلمه عالماً يموج بالجنون والرعب والخطر نابع من العالم الحقيقي صانعاً فيلماً فينشرياً حقيقياً .
9 / 10

0 التعليقات:

إرسال تعليق