RSS

Birdman: Or (The Unexpected Virtue of Ignorance) - 2014


هناك مخرجين تشتاقهم حين يطيلون الغياب ولكن تغفر لهم حين ترى الحمولة التي عادوا بها، وهذا الأمر ينطبق بالنسبة لي على اثنين  ديفيد فينشر وأليخاندرو كونزاليس أناريتو اللذان عادا عام 2014 بفيلمين من أفضل انتاجات العام .


أناريتو المكسيكي ذا الـ52 عاماً الذي بدأ حياته كعامل في محطة إذاعية مكسيكية ثم ملحن لعدد من أفلام بلاده ، صنع لنفسه هوية إنسانية سينمائية خاصة عن التحري عن صراع الإنسان لإثبات وجوده والدفاع عن كينونته البشرية في عالم فوضوي وضائع منذ فيلمه المكسيكي الطويل الأول Amores Perrosعام 2000 الفائز بالبافتا والمرشح للأوسكار كأفضل فيلم أجنبي قبل أن يدخل أمريكا عام 2003 برائعته 21 غرام التي أكسبت شون بين  جائزة أفضل ممثل في فينيسيا وترشيحين للأوسكار لنعومي واتس وبينستو ديل تورو ليضيف أناريتو إلى نفسه صفة مدير ممثلين مرموق جعلته محط أنظار نجوم هوليوود فجذب إلى فيلمه القادم العالمي بابل 2006 (الفائز بجائزة الإخراج في كان وبغولدن غلوب دراما) براد بيت وكيت بلانشيت وأوصل اليابانية راينيكو كاكايوشي والمكسيكية أدرينا بارازا لترشيحي أوسكار أفضل ممثلة مساعدة وخرج العمل بجائزة الموسيقى للأرجنتيني جيستيفو سانتالولا في عام المارشانا، الذي اكتسى فيه الأوسكار بلغة اللاتينية وجنسية مكسيكية فمع اناريتو و بارازا في مسرح كوداك كان هناك المخرج ألفونسو كوران ومدير التصوير أيمانويل لابوزكي والمونتير أليكس رودريغز(أطفال الرجال) والمخرج غاليرمو ديل تورو و ومدير التصوير أنغيمو كاباليرو (متاهة فون) والكاتب غاليرمو أريغا (بابل) وفني الصوت فرناندو كاميرا (أبوكاليبتوس) وبعد أربع سنوات من الغياب عاد أناريتو وأوصل الأسباني خافيير بارديم لجائزة أفضل ممثل في كان 2010 وترشيح ثالث للأوسكار عن بيوتيفل المرشح كذلك لأفضل فيلم أجنبي، ومجدداً اختفى أناريتو أربع سنوات قبل أن يعود بقوة بعمل أمريكي بالكامل يهجي أمريكا وينال احتفاءً واسعاً في مهرجان فينيسيا ورضاً واسعاً من الجمهور العالمي و يتوج بأربع جوائز أوسكار ثلاث منها حملها أناريتو ليكون المكسيكي الثاني الذي ينال الأوسكار كمخرج بعد عام واحد على ظفر صديقه ألفونسو كوران بالجائزة عن رائعته غرافتي (لدي حلم أن تستمر السلسلة ويتوج صديقهم الثالث ديل تورو بلحفل القادم) وسط جدل عن أحقيته بوجود الرائعة (Boyhood ).
بعد ثلاث مشاهدات لهذا العمل واحدة منها بعد يومين على فوزه بالأوسكار تعززت القناعة لدي بأن هذا الفيلم عظيم جداً، شريط سيعيش وسيصبح أكثر وأكثر موضوع الكثير من الجدل والتأويلات والتفسيرات والتحليلات ، عمل يحمل أكثر من وجه وأكثر من رؤية وموضوع، ويمكنك مشاهدته عدة مرات واكتشاف شيء جديد فيه كل مرة ، فيلم أكبر بكثير من أن يكون فقط عن نجم لسلسلة أفلام كوميكس شهيرة يحاول استعادة أيام مجده من خلال إخراجه لمسرحية دراميا في براداوي ثم تأخذ الأمور معه منحاً فوضوي توصله للانتحار، شاهدته أول مرة كهجاء للحياة الثقافية والفنية في أمريكا، وفي المرة الثانية رأيت فيه قصة النزاع الإنساني بين المعلن والمخفي بين الحقيقة والقناع وبين الواقع والتمثيل، وفي المرة الثالثة الأخيرة عشت مع أب يحاول استجلاب رضا ابنته وإصلاح حياته معها، وفي المحصلة هو كل هذه الأمور سوية، هو قصة بغاية التعقيد والعمق ومليئة بالإنسانية الصادقة رغم كل ما قيل حوله إن أناريتو تخلى عن نهجه الإنساني بهذا العمل ولكن أراه على العكس هذا أكثر أعماله اتصالاً بالإنسان وهمومه ومعاناته.
الفيلم يأتي بالوقت المناسب جداً بعد عام على انتحار العبقري فيليب سيموري هوفمان وهو قمة نجاحه ومجده وانتحار عظيم الكوميدية روبين ويليامز بعد اكتئاب حاد وهو الذي لطالما زرع البهجة في قلوب الملايين ، وتحول ممثلين موهوبين من طينة روبيرت داوني جونيور ومايكل فاسبندر إلى أفلام الكوميكس وإخراج شخص بقامة كينث برانا لأحد تلك الأفلام وعودة نجوم أكشن الثمانينات مثل (ستالون وأرنولد وويلس وفورد) لتقديم أجزاء جديدة لأفلامهم القديمة الحركية العنيفة (روكي رامبو داي هارد تيرمينتور أنديانا جونز) وهم على أعتاب الستين أو السبعين بعد أن كساهم غبار الزمان وأصبحوا مستحاثات فنية وتراث سينمائي، أمر يدعونا للتساؤل ماذا يجري في هوليوود؟ وأناريتو يجيب على الكثير من هذه التساؤلات ، لا يدخل هوليوود ولا نراها بمشهد واحد ولكنه يتحرى بنفسية نجومها ويتجاوزها إلى حياة الطبقة الفنية المثقفة في أمريكا من ممثلي المسرح المتزمتين والنقاد الصارمين والشباب المتمرد على كل التقاليد والممثلات الموهوبات الحالمين بأضواء المجد وكلمات الثناء وتصفيق الحضور ، لنرى الوجه الأخر للنجومية والشهرة والمشاريع الفنية ، لنرى أحلام محطمة وآمال ميتة وحياة متسارعة يمتلكها الخوف والإنكار تضيع بها القيمة الفنية للفنان ويصبح الفن نخبويةً جداً لفئة معينة تستطيع دفع ثمنه لتتباهى به كشراء لوحة باهظة لتعليقها بصالون منزلك الفاره دون أن يكون عندك رغبة أو اهتمام باكتشاف الفن الحقيقي ورائها، فقط لتصنع لنفسها حاجزاً عن العموم الجاهلين غير المقدرين للفن .
هجائية أناريتو لهوليوود والحياة الفنية في أمريكا تبدو في صميم عمله بدأً من اختيار ممثليه الذين تقطعت سيرة حياتهم وطباعهم مع شخصياتهم وكأنها كتبت لهم ، فمن حيث موضوع الكوميكس جميع ممثلي العمل مرتبطة مسيرتهم بشكل أو بأخر بأفلام الكوميكس، مايكل كيتن الرجل الوطواط في أفلام تيم بيرتن، إدوارد نورتن هالك 2008 إيما ستون غوين ستيتي من سلسلة الرجل العنكبوت المذهل، شخصية نعومي واتس تشبه إلى حد كبير ماضيها قبل الشهرة ، الممثلة الموهوبة والجميلة جداً التي طال بها الزمان والجهد دون أن ينتبه أحد لموهبتها واقتصار الاهتمام بشكلها وجسدها وتسويقها كممثلة إثارة حتى كادت تعتزل قبل أن يأتيها ديفيد لينش بنص الفيلم العظيم مولهاند درايف 2001 وينقلها إلى نجمات الصف الأول – الذي حتى بدورها الأهم ذاك غلب على أدائها العري والإغراء – وإدوارد نورتان أكثر ممثلي جيله موهبة والعامل منذ عشرين سنة بالمهنة دون أن يعثر على التقدير الذي يستحقه أو يأخذ الأدوار التي تناسب حجم موهبته وأغلب أدواره مساعدة وبطولاته الفردية قليلة والثناء والاهتمام به إعلامياً أقل بالأخص مع سمعته الشهيرة بالفوضى والشغب وافتعال المشاكل في مواقع التصوير.
يذكر الفيلم بشكل سريع أسماء العديد من نجوم هوليوود ليجعل الهجائية بالصميم فحين يصاب الممثل الذي يؤدي دور البطولة بالمسرحية يبدأ ريغان بالبحث عن ممثل حقيقي موهوب قادر على أداء الدور، يطلب وودي هاريلسون أو مايكل فاسبندر أو جيرمي رينر ولكن جميعهم مشغولين بتصوير أفلام حركة وكوميكس (هنغر غايم أو أكس مين أو الأفينجرز) (حتى هو ألبسوه البذلة) يعلق بهذه العبارة ريغان على جيرمي رينر الذي سطع قبل سنوات كأحد مواهب هوليوود الحقيقية في خزانة الآلم ثم تاون قبل أن يجذبه إغراء أفلام الانتاجات الضخمة، وريغان الذي سبق له ولحق هذا السراب حتى غرق بالرمال المتحركة يعرف زيف هذه الاختيارات ، ريغان كما يقول الفيلم – وكما هو مايكل كيتن بالحقيقية – حقق نجاح صاروخي بسنوات قليلة بأفلام الكوميكس تحول إلى النجم الأول عالمياً وحاز على كل شيء ، ولكن كما حقق النجاح بسرعة خسره بسرعة والسينما التي تتغذى على الدماء الشابة لفظته حين أصبح عجوزاً لصالح غيره من الشباب وتخلت عنه وهو الذي من أجلها وبسببها تخلى عن كل شيء، لنرى فيه ضريبة النجاح، الغرور الذي يحطم كل شيء الوهم الذي يعمي صاحبه عن الحقيقة وإن كل هذا زائف وزائل حتى يصحو بأحد الأيام وقد تقدم به العمر ولم يعد يستطع أن يجري في ذلك السباق وإن قصر الرمال الذي بناه لم يسكن به غيره وطرد الجميع خارجاً وبقي به وحيداً ثم انهار فوقه ودفن تحته ولم يعد أحد يذكره غير ماضيه وشبابه الذي يدافع عن وجوده بعقله حتى يطيح بتوازنه ويقوده للجنون .
بالمقابل ورغم إن ريغان يظهر الكثير من التذمر والسخرية حول ماضيه كبطل خارق سابق وحول تكالب النجوم على أدوار الكوميكس ولكن يبدو إن أغلب تلك السخرية هي من باب الظهور بشكل محترم أمام الوسط المسرحي الذي دخله، في أعماقه هناك الكثير من الحنين للمجد الغابر الذي عاشه ، يحاول أن يرفض تلك الفترة إلا أن حالته الفصامية وصوته الداخلية يعبر عن الكثير من الشوق لتلك الأيام والكثير من السخرية والحسرة على الواقع الذي وصل إليه وقد خسر كل شيء والألم من عدم قدرته على استعادة ذلك المجد، منذ المشهد الأول وهو يمارس اليوغا ليهدأ أعصابه يبدو وإنه يعيش ضمن هلاوسه وصوته الداخلي يؤنبه، ريغان يشاهد برنامج عن روبيرت داوني جونيور و الأجر الخيالي الذي ناله عن افينجرز وايرون مان ويحدثه صوته الداخلي بالكثير من الحسد عن تلك المرتبة التي وصل إليها داوني من النجاح والثراء وهو الذي أطلق هذه الموجة يعيش في غرفة قذرة ولا يستطيع العثور على تمويل لمسرحيته .
ريغان ورغم حنينه لذلك المجد فهو لا يستطيع أن يستعيده فكبر سنه وعذاب ضميره اتجاه ابنته والتزامه الداخلي بأن يكون شيئاً مهماً لأجلها يمنعوه، ومع هذا كله هناك اكتشافه حقيقة نظرة الناس له بعد أن ضاع مجده، أدرك إنه لم يحقق شيء ذا قيمة يكسبه الاحترام كان مجرد شخصية ترفيهية ، يذكر قصة جورج كلوني (النجم الذي أفلت من أفلام الكوميكس وصنع لنفسه مجد فني وشعبي حقيقي) واجتماعه معه في طائرة كادت أن تسقط وتفكيره الوحيد إن الإعلام لن يذكره بعد موته وسيذكر كلوني فقط، ويقارن بين هذا الموقف وحقيقة وفاة نجمة الدعارة فرح فاوست في نفس يوم وفاة الأسطورة مايكل جاكسون وكيف إن العالم لم يذكر سوى صاحب النجم الراقي، يشبه نفسه بنجمة الدعارة فهو أيضاً كانت مهنته إشباع غرائز الناس وحواسهم لا تقديم فن حقيقي، هذه الحقيقة التي تؤرقه وإنه سيختفي من هذا العالم دون أن يترك أي أثر وهو الذي كان ينظر لنفسه كعنصر أساسي في الثقافة والترفيه الأمريكي ، لم يستطع أن يكون شيئاً تفخر فيه ابنته حتى بعد وفاته فيقرر أن يخاطر بكل شيء من أجل أن يصنع مجداً فنياً حقيقياً.
رغم المخاطرة التي يبذلها ريغان بالمراهنة على اسمه وكل ممتلكاته بصنع مسرحية للشخص الذي ألهمه أن يكون ممثل قبل أن ينجرف بتيار السينما التجارية ولكن هذا لا يكسبه احترام الوسط المسرحي بل سخريته مما يجعله ينفصل عن واقعه أكثر وأكثر اتجاه أوهامه، في المؤتمر الصحفي يحاصر الصحفيون ريغان بين أسئلة عن المسرحية لا يعرف الإجابة عنها وبين أسئلة عن الإشاعات حول البيردمان وماضيه فيه، ثم يوظف مايك (إدوارد نورتان) الممثل المسرحي الموهوب ليعمل بمسرحيته فيتصرف معه ذاك بتعالي ويعامله كتلميذ لديه ويقود هو المسرحية، ابنته سام (إيما ستون) تواجهه بالحقيقية  إنه لا يفعل ذلك من أجل الفن بل يفعل ذلك من أجل جذب الاهتمام بعد أن أهمله الناس ونسوه ويبدو حديثها فيه شيء من الصواب فهو أصبح من الماضي الذي لن يعود ومن جمهوره لم يبقى سوى العجائز بينما الجيل الجديد لا يميزه ولا يميز أفلامه ليصبح قطعة منسية، والأقسى من ذلك إنه حتى المسرح يبدو إنه يرفضه فرغم كل اجتهاده ولكنه في اللحظة الحاسمة يلفظه عارياً من باب إخراج النفايات.
الصدام الحقيقي بين ريغان والوسط المسرحي الفني لا يتمثل فقط بصدامه مع مايك ، بل مع الناقدة المسرحية الصارمة القاسية المتزمتة تابيثا التي لم تستطع أن تساير اللعبة الفنية فتحولت إلى رقيب عليها وحارسة للفن الذي تمجده ، تكره ريغان لأنها ترى فيه كل ما يكره وأحد أسباب ضياع الفن الحقيقي وبعودته للمسرح يسخر من كل شيء تمجده وتقدسه ويحاول أن يتطفل عليه ويستغله ويشوهه، يرد عليها كيف تستطيعين أن تحكمي علي وتتحكمي بمصيري ومصير غيري بمجرد كلمات منمقة تكتيبنها تبعاً لمزاجك دون أن تخسري شيئاً ودون أن تشعري بحجم الخسارة والتضحية التي يبذلها أي فنان لصنع الفن حتى وإن كان لا يرضيها، وحين يتركها يلتقي المشرد الذي يؤدي عرض مسرحي منفرد في الشارع ويرى فيه انعكاس لصورته المجنونة والمصير الذي ينتظره إن تابع بالمسرح فيسلم نفسه لهلوسات البيردمان حتى يتجسد أمامه ويحرضه إنه يجب عليه الدفاع عن آرثه وأن يحترمه، يقتنع بفكرة إنه قام بشيء عظيم يوماً ما ولو لم يقدره أحد الآن ، هو ألهم الكثير وسلى أيامهم وأعطاهم أحلاماً بسيطة وواقعاً بديلاً، منحهم الترفيه والخيال، ويفكر إنه عليه أن يترك أوهام حلمه المسرحي ويعود إلى أمجاده السابقة أن يقوم بعملية جراحية يحلق ذقنه يحصل على إنتاج ودعاية ضخمة ويغير مجدداً من شكل صناعة السينما التجارية وعندها سيحلق مجدداً ويعود النجم الذي كان يحرك العالم بطرف أصبعه، نعم هو شخصية مشهورة وليس ممثل كما قالت الناقدة ولكن هذا لا يعني إنه بلا قيمة، ويستسلم ريغان لبرهة لهذه الأحلام ويعيش أحد أكثر لحظاته في الفيلم هدوءً وصفاءً ولكن ذلك لا يمنعه من العودة للمسرح ليخوض أقسى تحدي ينتظره بحياته التحدي الذي سيغير كل شيء من أجل أقسى ما يتمناه رضا أبنته.
الفيلم ليس فقط عن ريغان هو يتراوح ويتأرجح بينه وبين مايك شاينر (إدوارد نورتان) كتعبير عن النزاع بين الفن الراقي والهابط بين السينما التجارية والمسرح الدرامي ، والبيردمان ليس فقط ريغان كل شخص لديه بيردمان بداخله لديه تلك الشخصية الخارقة التي يحلم أن يكونها ولا يستطيع الذي يحادثه بصوت خفي بين حين وآخر، فلبيردمان هو قصة كل من لحق حلمه ثم فقده ويحاول صنع فرصة أخيرة له لاستعادة البوصلة والمشي على الدرب الصحيح ، هو قصة الحلم الذي يحطم صاحبه.
من جمالية البيردمان إن أناريتو ورغم المحور المشوق جداً الذي يدور حوله عن آزمة ريغان والتي كان يكفي لها صنع فيلماً مميزاً ولكنه يعمل بنفس على الجهد على باقي شخصيات، مايك يعيش حالة الممثل المدمن على التمثيل والذي لا يستطيع فصل التمثيل حتى في حياته، الشخصية الخائفة التي تكبر في السن قبل أن يحقق طموحه ومشروعه الفني، غارق بالوصولية والأوهام والحسد ، شخص يشعر إنه يناضل في عالم أكبر منه وانقلبت عنده الأدوار بين التمثيل والحياة الواقعية، يمثل دور القوي غير الآبه والمستهتر بالحياة الحقيقية وعلى الخشبة يطلق مشاعره ويصل لأضعف وأكثر مناطقه حلكة ، وشخصية ليزلي (نعومي واتس) تشعر بأنها تخسر نفسها في سبيل الفن فقدت احترام الناس لها وكرامتها وهي تسعى وراء النجومية مما حولها إلى سلعة ووسيلة إشباع غرائزية وليست ممثلة ذات قيمة فنية وتحمل مشروع وقادرة على خلق الحياة على الخشبة .
أناريتو بعمله هذا يبدع بإسقاط فكرة الحياة على المسرح ، يرينا إن الحياة تحولت إلى مسرح كل شخص فيه يبحث عن لحظة تقدير واهتمام ولو كانت مزيفة، عالم تحكم قوانين الحياة فيه الفضائح وشبكات التواصل الاجتماعي، سام تصرخ بوجه ريغان إنه خائف من أن لا يكون مرئياً لدى البشر وتطالبه بأن يكون له حياة اجتماعية أن يمتلك صفحة على الفيسبوك، الفيسبوك الذي يبدو مسرحاً مصغراً لكل إنسان يستعرض فيه صوره مقاطع الفيديو التي تأرشف حياته، يتقاسم مع آلاف وربما ملايين الغرباء لحظات فرحه وحزنه وخواطره وهواجسه ليكون بطلاً في مسرحية صفحته، الفيسبوك هو العزلة الاجتماعية الكبرى المقنعة بشبكة وهمية من العلاقات، وحين يصور العشرات ريغان عارياً ويعرضون المقطع على اليوتيوب ويحقق خلال ساعة مشاهدات بالآلاف تقول له سام آلا يحزن فهذا خير له هذه تعتبر قوة تمده بالنجاح على مسرحه وتجعل له اسماً متداولاً بين الناس، هذه اللقطة فيها استعارات كثيرة ليست فقط للفظ المسرح لأدعياء الفن بل أيضاً إنه حتى يستطيع أي شخص في مسرح الحياة أن يحوز على الاهتمام يجب أن يتعرى بالكامل من أي شيء حتى يكون مرئياً، موهبته وما يتميز به لا يكفيه، أمر لا تستطيع معه سوى أن تتذكر مايك وهو ينتصب على مسرح الحياة المصغرة ،و تشعر حين ترى أساليب مايك بالشهرة وجذب الانتباه إن هذا الشخص لا يعتمد على موهبته والمسرح (الحياة) لم يعد يتطلب موهبة بل يحتاج إلى فضائح وأساليب دنيئة لتدمير الآخر المنافس، مايك يضع نفسه بحالة بمنافسة مع ريغان وحين يتألق ذاك بأدائه يشعر مايك بالقلق والتهديد من ألا يستطيع أن يحوز على الأضواء فيبتدع قضية المشروب ليسرق الانتباه وفي العرض الثاني يظهر انتصابه أمام الجمهور ويكذب بلقاء الصحفي سارقاً أجوبة ريغان، ويدرك ريغان ذاك فيبتدع – عن دون قصد - فضائحه الخاصة على شبكة المسرح حتى يجذب له اهتمام الجمهور والمجتمع.
وفي هذا العالم المضطرب الذي يسعى الكل فيه على لحظة ليكون مرئياً يقدم لنا أناريتو سام الشخصية الوحيدة التي تريد أن تختفي، العلاقة بين سام وريغان هي من المحاور الرئيسية بالعمل والتي تدخل في عمق القصة والمعالجة ومنذ المشهد الأول تظهر سام تحادث ريغان عبر السكايب من أجل زهور يطلبها، سام هي الضحية الرئيسية لنجومية ريغان، إهماله لها على مدى سنوات طويلة بعد طلاقه أمها (إيمي رين) جعلها تنشأ بشخصية مضطربة وضائعة أوصلتها للإدمان والدخول إلى مصحات العلاج، تلك الحقيقة كانت الصفعة التي أيقظت ريغان وجعلته يقرر تغيير نمط حياته من أجلها أن يصبح إنساناً أفضل ليعود كبيراً بعينها وتفتخر به، اختار المسرح الذي تحبه وعيّنها مساعدته ليصنع صلة بينه وبينها رغم معارضتها، وحتى بعد تعينها مساعدته لا تبدو العلاقة بينهما جيدة وهناك نفور كبير من قبلها رغم محاولاته المستمرة التقرب منها وطوال الوقت والشعور بالذنب من أجلها يرافقه ويدفعه أكثر ليتمسك بتحقيق نجاح ربما يردم الهوة التي بينهما ، ولكن الأمر لا ينجح أبداً ويتقاطع التنافس بين ريغان ومايك بذكاء مع خلافات علاقة ريغان وسام حين تقيم سام علاقة مع مايك، تلك العلاقة التي تبدأ بوادرها مع اللقاء الأول حين يبدأ مايك بتوجيه أسئلة لسام يتولى ريغان الإجابة عنها فيقول لها مايك : (إنها تستطيع الكلام دعها تجيب) عبارة تجعل سام تشعر إن هناك من يحس بمعاناتها بأنه لا يوجد من يستمع لها ويهتم لسماع رأيها، ثم يعبر عن إعجابه بمؤخرتها ويظهر أمامها عارياً ويرفض العلاقة معها بدايةً وفي نفس الوقت يحاول أن يرشدها بأن نمط حياتها خاطئ وإن ما يسعى له والدها اتجاها هو الصواب بأن تحاول أن تحرر نفسها من عقدها وتستثمر طاقاتها تظهر نبوغها وتفوقها وذلك التواصل بينهما مع اختلاف سام القوية الجادة عن ليزلي الضعيفة والمهلهلة والسطحية يجعل مايك ينجذب لها ويقيم معها علاقة، ويصل التقاطع بين المحورين لذروته في مشهد العرض المسرحي الأخير التي يتحد بها ريغان بالشخصية التي يؤديها و يواجه مخاوفه وأحلامه يرى في الشخصية التي تؤديها ليزلي صورة لابنته (شقراء أيضاً وبعلاقة مع مايك التي لمحها تتبادل القبل معه قبل العرض) يخاطبها من خلال النص المسرحي (لماذا علي أن أتوسل محبة الناس ....؟؟ كل ما قمت به لأجلك وأنت من غير الممكن أن تحبيني مجدداً) فيطلق النار على نفسه ليموت الحلم وتلد شخصية البيردمان من جديد .
المشهد الأخير مشهد أسال الكثير من الحبر حول تفسيره، في البداية نعود لقضية الهلوسات التي تعترض لريغان والتي تسببها حالة الانفصام الناتجة عن الصدمة بين ماضيه وواقعه، وحين تعترض تلك الهلوسات لريغان يقوم أناريتو بالانتقال من أسلوب تصوير العمل بالعين العليا الرقيبة لكل شيء إلى التصوير من داخل شخصية ريغان ومنطقها والرؤية بمنظورها، كمشهد حين يحلق بالسماء ويسمع هتاف الجمهور، طبعاً هو لم يحلق ولم يسمع هتاف أحد كل شيء بعقله وهذا ينطبق على المشهد الأخير بعد محاولته الانتحار على الخشبة والشهرة التي يحوز عليها يعود ليرى البيردمان ثم يقفز من النافذة، ما جرى بعد ذلك هي تتمة هلوساته، قدوم ابنته ونظرتها له وهو يحلق وافتخارها به كل هذا جرى بعقله بلحظات الأخيرة قبل اصطدامه بالأرض وموته، (في عقله) تحقق ما يحلم به، عاد ليحلق مجدداً بقوته الخارقة وبنجوميته التي تم أحيائها مجدداً أحبته ابنته وأصبحت تفخر به وتنظر له كما يحب ويحلم أن تراه دوماً الإنسان الخارق، إنسان قادر على حمايتها وإسعادها وأن يرضيها ويكون مصدر فخر لها.
وكما أثار المشهد الأخير الجدل كذلك فعلت أسلوبية أناريتو بتصوير العمل بأسلوب اللقطة الواحدة ضمن مذهبه المعتاد بالتجديد بأساليبه البصرية كالمونتاج العبثي في 21 غرام وبابل، ورغم الجدل الذي تسبب به أناريتو وأسلوبه ولكن الجميع أبدى إعجابه بالعمل الإعجازي الذي قام به إيمانويل لابوزكي سواء من أنصاره أو معاديه، أناريتو تعمد من أسلوب التصوير هذا نقل حالة التوتر والفوضى لدى الشخصيات للمشاهد وليتماشى مع عشقه للتجديد صانعاً طابع خاص لعمله تصوير فيلم عن تصوير مسرحية بأسلوب مسرحية، فشاهدنا العمل فيه الكثير من المشاهد الطويلة كفصول مسرحية الكثير من الحوارات الطويلة الكثير من البوح الداخلي (المتقن جداً حوارياً ونصياً)، لابوزكي قام بعمل عظيم كاميراه المهتزة ولقطاته المطولة وملاحقته للممثلين وزواياه الصعبة وتشكيلات الإضاءة وتسخيره كل ذلك لينتج لقطة واحدة تستمر ساعتين من الزمن تقريباً.
النجاح بتحقيق حلم أناريتو بصنع فيلم بدون قطع لا يمكن رميه فقط على لابوزكي، المونتيران دوغلاس كريس وستيفن ميرونس قاما بعمل جبار غير منظور استحقا عليه جائزة نقابة فنيّ المونتاج وكان من المستغرب عدم ترشيحهما للأوسكار، جمالية عملهما إنه غير مرئي أبداً، رتبا قطع بزل لابوسكي بطريقة تصنع انطباع اللقطة الواحدة وإنه لا وجود أبداً لأي قطع أو مونتاج، اللقطة الواحدة فرضت تحدي على الممثلين بتأدية العديد من المشاهد المطولة والحفاظ على الحالة الأدائية ضمن العديد من اللقطات القصيرة المقطعة التي يجب جمعها لتبدو لقطة مطولة، الطاقم التمثيلي قدم إنجاز يستحق الإشادة ويستحق جائزة نقابة الممثلين كأفضل طاقم فمجموع الأداءات الجماعية المميزة هي ربما الأفضل منذ سنين.
مايكل كيتن بدور ريغان قدم أداء فوق الممتاز، كما فعل أرنوفسكي عام 2008 بالاستعانة بميكي رورك لتأدية شخصية تتقاطع كثيراً مع ماضي الممثل فإن أناريتو يفعل ذلك مع كيتن الذي يتجاوز شخصية نجم يعيش أزمة تمثيلية لنرى شخصية مجنونة فصامية فاقدة للسيطرة ضائعة بين الماضي والحاضر بين الوهم والواقع محملة بعقدة الذنب متسربل بعار ماضيه والضريبة التي دفعها يشغله فقدان ابنته ويؤلمه ما جرى لأجلها ويجرحه نظرة الناس له وسخريتهم منه وتسخيفهم أحلامه، وإدوارد نورتان (الذي يعيش أحد أفضل سنيه بمشاركته بفيلم ويز أندرسون الأخير فندق بودابست الكبير الفائز أيضاً بأربع جوائز أوسكار ) بدور مايك يقدم أحد أفضل اداءاته ظهوره الأول الطاغي المهيب وطفوليته واستهتاره وتناقضه بين ضعفه المستتر وتقنعه بالقوى أعطى للعمل طاقة تمثيلية وجو من الفكاهة المميزة، إيما ستون تثبت يوماً بعد يوم إنها من أفضل ممثلات جيلها بسلسلة نجاحات مبهرة على مدى خمس سنين وترشيح أول للأوسكار بعمر 26 تقدم أيضاً أداء احترافي حقيقي تحاول كسر الصورة النمطية للفتاة المتمردة المدمنة لتقدم من خلفه آلم وحسرة حقيقية وشيء من الحكمة وتحول تدريجي لتحمل المسؤولية ، القديرة نعومي واتس تقدم أداء جيد بدور ليزلي حسب مساحة الدور- كنت أتمنى لممثلة بحجم وموهبة واتس دور أكثر محورية وأهمية - مشهد انكسارها بعد مشهدها الفاضح مع مايك من اصدق مشاهد الانهيار التي شاهدتها وهذا العام أيضاً من أعوامها الممتازة بأدائها الرائع لدور فتاة اللهو الروسية بالفيلم الكوميدي سانت فنسنت، زاك غالفينكيس و اندريا ريسبورغ وإيمي رين قدموا عمل جيد بأدوارهم.
أليخاندرو كونزاليس قدم حالة إخراجية رائعة ليس فقط باللقطة الواحدة بل هناك قدرته على التحرر من الإطار العام قصة ممثل تجاري يحاول صنع مجد درامي مسرحي له ليقدم قصة إنسانية عامة عن نزاعات الإنسان مع ماضيه وأخطائه وسعيه المجنون لإصلاحها والضريبة التي يدفعها لذلك، وعن الحياة الحديثة وتأثير قوانينها الغريبة المتغيرة على نفوس البشر وما تصنعه من خوف وضياع في نفوسهم  مع هجائية قوية للحياة السينمائية ونفسيات النجوم وعذابهم الخفي، وكل تلك المحاور العميقة جداً التي أمسكها أناريتو بإحكام دون أن تشعر بضعف محور لحساب أخر، وصنعها بشكل فيه الكثير من الكوميدية السوداء المبهجة والبعيدة عن الابتذال والمتناسبة مع جو العمل ، أناريتو صنع فنيات بالقمة ليس بالتصوير والمونتاج فقط بل المؤثرات البسيطة والقليلة أيضاً وموسيقى أنتونيو سانشيز أعطت جو رائع جداً للعمل المستحق لأوسكاراته الأربعة وأحد تحف السينما الحديثة
هذه ربما أطول مراجعة اكتبها استغرقتين أسبوعين بوضع الملاحظات ورؤوس الأقلام والأفكار واربعة أيام حتى خرجت بهذا الشكل أرجو أن تكون بمستوى العمل العظيم الذي تعالجه ولا أعرف كيف أختمها سوى بعبارة أعجبتني مرت سريعاً بالغرض (يكفي أن تقدم فيلماً ناجحاً حتى تعود للأضواء الأمر لا يحتاج لفضائح)
 10/10




0 التعليقات:

إرسال تعليق