RSS

The Past – 2013


الذي جعل فيلم الماضي أحد الأفلام الأكثر انتظاراً بالنسبة لي هي ثلاثة اسماء أولاً وجود الفرنسية من أصيل أرجنتيني برنس بيجو في أول بطولة بعد الفيلم المتوج بخمس جوائز أوسكار (الفنان) الثاني وجود طاهر رحيم في البطولة في ظهوره الأهم منذ (النبي) عام 2009 المتوج بلجنة تحكيم كان وبافتا أفضل فيلم أجنبي والثالث والأهم هو وجود أصغر فرهادي على كرسي الإخراج في أول عمل له بعد فيلم عام 2011 إنفصال وأول فيلم له بفرنسا بعد أن سبق لمواطنه كيروستامي إخراج فيلمه (نسخة طبق الأصل) فيها.


الفيلم يعالج به فرهادي موضوع مشابه لموضوع فيلمه الأشهر وهو الطلاق وانعكاساته على العائلة، ولكن هذا العمل يدخل بمعالجة أخرى تماماً وأسلوب أخر تماماً، هو يحافظ على الطابع الإنساني للقصة التي تجعلها تكسر الحواجز وتهتم بالحالة الإنسانية ومشاكل الإنسان العامة التي لا تعرف لغة أو جنسية أو مكان، القصة حول أحمد (علي طه) الإيراني الذي يعود لفرنسا لإكمال معاملة الطلاق مع زوجته السابقة ماريان (برينس بيجو) لتستطيع تلك الزواج من عشيقها سمير (طاهر رحيم) ولكن حين يصل لباريس يكتشف إن حياة ماريان بفوضى كبيرة واحتياجها له ليس ليكمل المعاملة بقدر ما هي محاولة لمساعدتها ليتجاوز مشاكلها المستعصية.
أحببت هذا العمل وانسجمت معه أكثر من انفصال رغم إنه أضعف منه في بعض المواضع ولكن مع ذلك ففرهادي صنع عملاً هاماً يستحق التقدير ويلفت الإعجاب، العمل قوم على عنصر الاكتشاف يعاملنا كأحمد الذي يدخل هذه العائلة ويبدأ بإكتشاف الخلل الذي تعانيه والمعضلة التي تمر بها بالتدريج، معرفة عناصر المشكلة وإزاحة الغموض عن الحادث الذي سبب الشرخ بالعلاقات في تلك العائلة يقود العمل باتجاه شديد التشويق ويجعله ممتعاً جداً ويشد المشاهد حتى النهاية مع حبكة متقنة جداً و لا تخلو من القيمة، أحمد خلال عودته تنتابه مشاعر الحنين اتجاه عالمه السابق يشعر بشيء من الحسرة على تغير كل شيء ولا يستطيع تقبل وجود سمير في المنزل، يستمتع حين يساعد زوجته السابقة وابنتها لوسي من الزواج الأول ولكنه في  نفس الوقت يشعر إن ماريان تريد إذلاله بقدومه، في العمل لا يوجد تفاصيل عديدة عن سبب طلاقها من أحمد ولكن فرهادي شرحها بفكرة مبسطة بعدم قدرته على التأقلم مع فرنسا ونسيان إيران وما سببه ذلك من كئابة وفوضى بحياته جعله يعد لبلده وهذا يبدو واضحاً من دخول التفاصيل الإيرانية بكل مفاصل حياته .
قد ينتقد بعض العمل لعدم تعمقه بأسباب طلاقات ماريان السابقة ولكن الدراسة العظيمة لنفسيتها والأداء المبهر من برينس بيجو يفسر الكثير من ماضيها، أنانيتها فوضوية حياتها نزقها غضبها انجرارها وراء عواطفها دون تفكير بأقصاها سلبها وإيجابها وعنف ردود أفعالها وعدم الحكمة باتخاذ قراراتها وعدم الاعتراف بأخطائها ودخولها العلاقات المتتالية دون التخلص من مشاكل العلاقة السابقة وعدم وضوح أسباب أفعالها، في علاقتها مع أحمد هناك ما زال بقايا عواطف شعورها بالحاجة له والغضب منه ورمي سبب الانفصال عليه بعد أن كان الزوج المناسب لها الذي خلق رحيله فوضى عارمة ، وهنا يبدو فرهادي عبقرياً حين لا يتعاطف مع الشخصية الإيجابية للنهاية ويظهر سلبيات سببت بمشاكل العمل، كذلك سمير لا يرمي كل الأخطاء عليه أو على ماريان، فهما شخصيتان إنسانيتان بأخطائهما، يمكن تفهم ما يقوما به لأن ما يمرا به يشعر به كل إنسان ويعيشه وربما يرتكبه.
مع شخصية ماريان وأحمد المتقنتان هناك شخصية سمير، شخصية فوضوية عابثة لاهية منسلخة من أي شعور بالمسؤولية حتى بتعامله مع ولده، هذه الشخصية بتركيبتها مهمة جداً للعمل بصنع حبكته ولتصوير مدى السخط الذي تشعر به ماريان اتجاه أحمد التي أختارت شخصاً على النقيض منه تماماً ولو سيسبب ذلك بفوضى لأسرتها ثم استدعته إلى فرنسا بحجة اتمام الطلاق حتى تغيظه به وتريه إنها حملت من شخص أدنى منه بكثير في حين لم تسعى لتنجب منه طفل، في النهاية يعود أحمد دون إتمام معاملات الطلاق وماريان تنفصل عن سمير لأن المهمة التي سعت لها تمت، هي تريد إذلال وأحمد ولكن الضريبة لإكمال تصفيات حساب طلاق انعكست بشكل مدمر على عائلة كاملة وتنعكس يومياً بالتخريب على جيلين من الناشئة.
فكرة الماضي بالعمل تبدو محورية وهامة، مشاكل الماضي وأخطائه كيف يمكن حلها وتجاوزها، كل الشخصيات تحمل أخطاء ماضيها معها وتتمنى لو تستطيع العودة للماضي لمحيها ولكن لا تستطيع، وبدلاً من معالجة آثارها تقرر تجاوزها والسير فوقها ورمي الخطأ على غيرها دون أن تعترف بما ارتكبته، جميع الشخصيات بالعمل ساهمت بالكارثة التي وقعت، ولا أحد حاول الاعتراف بخطئه بالأخص كونه خطأ لا يمكن إصلاحه، أحمد هو الوحيد الذي حاول تصويب الأمور ومكاشفة الجميع بأخطائه، ربما لشعوره بالضرورة الأخلاقية لذلك أو لرغبته بالانتقام من ماريان، ولكن كلما حاول الإصلاح أكثر كلما ازدادت المشاكل تعقيداً لأن الشخصيات ترفض الاعتراف بخطئها ومسؤوليتها وحين تتأزم الأمور ترمي المشكلة كلها على أحمد متناسين المشكلة والسبب الأصلي، ليأتي مشهد النهاية العظيم – وربما ستصبح المشاهد الختامية الرائعة علامة لسينما فرهادي- مشهد تظهر فيه إن بعض أخطاء الماضي لا تصحح ولا حل سوى تجاوزها ولكن آثارها ستبقى تدمي القلب طويلاً.
مما يعجبني بالعمل هو إن الشخصيات جميعها من أصول غير فرنسية ومتأقلمة مع المجتمع الفرنسية ومشاكلها بأغلبها ذاتية لا مجتمعية، الفلم ما كان ليختلف لو كانت شخوصه فرنسية ولكن فرهادي أراد بذلك كسر الصورة النمطية وتسليط الضوء على فئة من المهاجرين تعيش حياتها ومشاكلها بصورة عادية كأي مواطنين فرنسيين وأوروبيين عاديين، الفيلم مشكلته بالتكثيف والتركيز على شخصية أحمد في البداية وتغييب شخصية سمير ثم تغييب شخصية أحمد والتركيز على شخصية سمير بالنهاية بشكل خلق شيء من التفاوت بالأخص إن شخصية سمير لا تحظى ببناء واعتناء كاف على مستوى بقية الشخصيات، العمل فيه أداءات جبارة من بيرينس بيجو التي قدمت أحد الأداءات النسائية الصعبة والقوية التي كشفت عن ممثلة عظيمة قادرة على التنقل بقوة بين أدوار لا ممثلة الدور الواحد هي مختلفة تماماً عن دورها الأوسكاري في الفنان وقادرة على أن تنسينا قوة دورها هناك وتجعلنا نركز ونعيش مع شخصيتها الجديدة، علي طه مبهر جداً وقادر على سرقة العمل وطاهر رحيم ممتاز أيضاً وصدمة العمل هي الأداء فوق العادي من باولين بيرلت بدور لوسي ابنة ماريان المراهقة أدائها رائع جداً في فيلم هو باعتقادي من أفلام العام التي سنذكرها طويلاً.

9/10

0 التعليقات:

إرسال تعليق