RSS

Gravity – 2013



هذا العمل خالف كل التوقعات التي رسمتها حوله عن كونه خيال علمي أو كأوديسا الفضاء رحلة تأملية لموقع الإنسان وحجمه في الكون، هو أقرب لأبولو 13 أو كحياة باي والمقذوف، بحث في غريزة البقاء لدى الإنسان ونضاله الحثيث للنجاة وهو يواجه أكثر مخاوفه تأصلاً، أن يكون وحيداً ومعزولاً في فضاء رحب هو الوحيد الذي يشغل حيّز فراغه.


المبدع المكسيكي ألفونسو كوران مخرج له رؤية خاصة بعالم الخيال العلمي والفنتازية، عبّر عنها في هوليوود من خلال هاري بوتير وسجين أزكابين عام 2004 واكتملت الصورة عام 2006 بأطفال الرجال، وهذا العام يكرر التجربة مجدداً ولكن بشكل أكثر عمقاً وبعداً عن الخيالية وأقرب للواقعية ولكن ضمن كل وسائل صناعة الفيلم الخيال العلمي، لدينا رحلة في الفضاء الخارجي ومراكب ومكوكات فضائية ومغامرة مخيفة ومصطلحات علمية ورواد فضاء وبذلات بيضاء منفوخة، ولكن كل ذلك تم تطويعه في قصة بالغة في الواقعية عن فرضية كيف سيتفاعل الإنسان مع مواجهته للضياع وخطر الموت المحيط به في بيئة لا يوجد فيها شيء يصلح لحياة الإنسان ويخسر فيها كل وسائل النجاة ولا يبقى شيء ينجده سوى غريزته وذكرياته وطموحاته.
ألفونسو كوران يجبر المشاهد على أن يعيش هذه التجربة ويتفاعل معها بكل حواسه، يبقيه لحوالي الساعة والنصف مشدوداً إلى كرسيه وأنفاسه تتضائل ووزنه يخف وكل شيء يضيق حوله، هو يبهر بأن يشعره بأن كل شيء يطبق عليه ويصهره رغم إن ما يشاهده هو رحلة أبطال العمل في أكثر الأماكن رحابةً واتساعاً.
الفيلم يبدأ بنسق سريع يدخل المشاهد فوراً ضمن الأحداث والمغامرة، لا يقدم لشخصياته أو يمهد لها، لأنه لا يريد صنع شخصيات استثنائية بل شخصيات من صميم الحياة الواقعية وعوالمها قذفت في بيئة مناقضة لكل شيء اعتادت عليه ويساعد على وجودها، مشهد افتتاحي مبهر بلقطة واحدة دون قطع نرى فيها مات – جورج كلوني رائد الفضاء الواثق من نفسه والودود والمغامر والثرثار الذي يصنع جو من الألفة والود العائلي لأفراد طاقمه وطموحه أن يكون أكثر من حلق بمفرده بالفضاء، ومعه الخبيرة الهندسية رايان ستون – ساندرا بولوك عالمة أرسلت بمهمة فضائية رغم عدم انتمائها لعالم رواد الفضاء وعدم قدرتها على التأقلم فيه، تأتيهم رسالة بانفجار أحد المكوكات الروسية وتطاير شظاياه بفعل القوة النابذة إليهم، وفي أحد أعظم مشاهد التفجير السينمائية وأكثرها إخافة وتشويقاً، تتحطم مركبتهم بالكامل – دون ضجة في فضاء لا ينقل ذبذات الصوت – وتطير رايان بعيدة، ويبدع كوران بصنع الانطباع بالضياع ويجبر المشاهد على أن يلمس أحد أكثر الأمور إفزاعاً على الإطلاق حين يضيع الإنسان في الفضاء الأسود الواسع وهو يدور فيه بلا توقف .
أحداث العمل لا تحمل الكثير من التطورات وهذا مناسب لفيلم فضاء واقعي دون وحوش بأفواه ممتدة ويهتم بعرض الوحدة في عالم لا يوجد فيه تواصل مع أحد حتى عن طريق اللاسلكي، لذلك فهو يختزل أحداثه ويضغط وقته ويملأه بتفاصيل دقيقة ممتازة ومؤثرة دون مبالغة بتضخيم المخاطر وتهويلها وتتالي المغامرات والاكتفاء بالأخطار الموجودة من صميم البيئة ومواجهتها، يهتم بالتركيز على المشاعر التي تعيشها البطلة ورحلتها لاكتشاف الدافع الذي يدفعها للنجاة والعودة رغم إنها كما تقول في العمل (لا يوجد شيء في الأرض يستحق أن تعود إليه) ، هو عمل يصور صراع غريزة النجاة مع الخوف، عن الخطر الذي يداهم الإنسان ويدفعه بكل قواه وأعماقه ليتمسك بالحياة بغض النظر عمّا فيها من سلبيات، عن العزلة الحقيقية والشوق للإنسانية، الشوق ليكون مع أناس يحبونه يتعاطفون معه يبهجونه يصلون لأجله حين يموت لتحتضنه الأرض بعد رحيله لا ليبقى غريباً وينتهي وحيداً، الشوق للحياة بأصغر تفاصيلها ضمن فضاء الموت المحتجز به حتى ولو كانت من خلال نباح كلب أو الحديث مع غريب بلغة غير مفهومة.
كوران يوازن بصنع لحظات درامية شديدة التأثير ولحظات بغاية الإفزاع تصور حقيقة الخطر الذي يعترض الإنسان في عالم لا ينتمي له، ورغم كل الأفلام التي صورت وحوش الفضاء والمخاطر الفنتازية خارج الكرة الأرضية ولكن المكسيكي العبقري يرينا إن الخطر الحقيقي هو في الفضاء كاملاً في بيئته وتركيبته وإنه مفزع لوحده بلا أي وحوش، هو الخطر الكامن في كل مكان دون إمكانية مواجهته وقهره فقط الهرب منه بأي وسيلة ممكنة.
العمل مع التجربة المفزعة والموترة التي تخوضها بطلته فيه دراما رائعة وعلاقة ممتازة بين رايان و مات، ليست علاقة حب أو إعجاب، بل علاقة تضحية من باب الواجب والاضطرار، علاقة شوق لشريك إنساني يؤنس الوحدة، شخص يلهم القوة للنجاة والمتابعة، الفيلم الذي أبدع فيه كوران إخراجياً وكان بطله الأول أعطى أهمية كبيرة فيه للتمثيل الصعب جداً كون ملامح الممثلين – على قلتهم – مطموسة تحت أطنان الثياب الفضائية ومعتمدة على الصوت بدرجة كبيرة بكل الحالات الدرامية والنفسية للشخصية، جورج كلوني يقدم أداء قصير وجيد جداً لإنسان بقوة تفاؤل وبطولة حقيقية تلهم من حوله، ساندرا بولوك نازعت كوران على البطولة بأفضل أداء لها حتى الآن، نبرة الصوت واضطراب الملامح والدخول لأعماق الشخصية وملامسة أكثر مخاوف الإنسان شراسة وأكثر أحزانه ألماً وأكثر طموحاته مشروعة ومزجها جميعاً بتوليفة أدائية رائعة، تقدم الشوق الحقيقي للإنسانية والحياة والنضال غير المهادن لأجلها، وإيد هاريس له حضور صوتي جيد بالعمل.
كوران قدم بعمله تحفة حقيقية ليس فقط على صعيد المادة وإنما على صعيد الصورة وهي الأهم بأعمال كهذه بالأخص كونها النافذة للتعبير عن مادة العمل الدرامية، التصوير عظيم، كوران يكرر إنجازه الاستثنائي بعد أن قدم في رائعته أطفال الرجال أفضل تصوير للعقد الماضي يعود هنا ويقدم عملاً تصويرياً رائعاً، فرغم عدم وجود مشاهد طبيعية واسعة أو مطاردات حثيثة ولكن التصوير يصنع لقطات بصرية رائعة وإثارة مفرطة ودراما قوية، اللقطات المتواصلة الطويلة وتحرك الكاميرا بالفضاء الرحب وملاحقتها للشخصية ومزجها بين جماليات الفضاء وروعة منظر الأرض الصغيرة والتعايش مع حالة الشخصية وتصوير الأحداث مرّات كثيرة من منظرها جعل منه عملاً استثنائياً، مع الإبداع بتفاصيل المراكب الثلاث وتكتيك لحظات الإثارة والمؤثرات الممتازة العظيمة والتركيز على ضياع الجاذبية وكل وسائل الحياة الطبيعية ممزوجة بدراسة نفسية ممتازة لمشاعر رائد الفضاء في مآزق مماثل والموسيقى المؤثرة صنع تحفة متكاملة على صعيد النص وصعيد الصورة والأداء، فيلم يستحق أن يكون من نخبة إنتاجات السينما الحديثة.
  10/10

0 التعليقات:

إرسال تعليق