RSS

A man & a woman – 1966


القصيدة، الرواية، المقطوعة الموسيقية، اللوحة، الفن، الحب، الحياة، الحلم كلها تم مزجها هنا في فيلم عن رجل وامرأة، عمل عظيم، غريب عن كل شيء آخر، فيلم عن المشاعر، يخاطبها ويدغدغها ويحركها، بعيداً عن كل المذاهب السينمائية والمدارس الفنية، بعيداً عن التجريب والسريالية، بعيداً عن الأفكار الضخمة عن مشاكل العالم المستعصية عن تعقيدات وتناقضات الإنسان وهواجسه ومخاوفه يأتي هذا الفيلم ليبتعد عن هذا كله ويقدم قصة بغاية البساطة عن وقوع رجل وامرأة عادياً بالحب ضمن ظروف عادية وتحولات عادية جداً.


هذا العمل يشبه استراحة من المشاكل اليومية وهمومها ليدخلنا بجو من العواطف المتصارعة ويجعله يمس أعماق ذاته، هو فيلم يحتفي بالحياة وجمالها، فيلم يهتم بمغازلة الإنسان وعالمه الداخلي ومشاعره، يهتم بإحداث التأثير الروحي والعاطفي الذي تحدثه القصيدة أو الموسيقى أو الأغنية أو الرواية وينجح بذلك، هو عمل فني بحت يحتفي بالفن ويستغل الفن ليحتفي بالحياة، ربما لا يمكن لي أن أتكلم عن حبكته أو صراعاته لأن الفيلم لا يهتم بذلك كله، الأمور فيه بسيطة جداً وتجري ببساطة متناهية لا يوجد فيه في الحقيقة سوى شخصيتان تلتقيان تخرجان سويةً يتحدثان يقعان بالحب هذه هي القصة بكل بساطة ، ولكن قوة الفيلم الحقيقية تأتي من تأثيره العاطفي والرومانسي العالي، بالنسبة للعشاق هو الفيلم المناسب لهم الذي يحيي عواطفهم ويعطيها تجسيداً مادياً حقيقياً على الشاشة، وبالنسبة لغير العشاق (رجال أو نساء)  يثير بداخلهم الحنين للحب والشوق لخوض غماره بالأخص إنه لا يقدم حباً مستحيلاً ، لا يقدم قصة تراجيدية أو شخصيات مسرحية غريبة، فما يقدمه شيئاً عادياً وبسيطاً جداً وبغاية الواقعية وممكن الحدوث، عظمة العمل ليس بتطرف قصة حبه وعدم تقليديتها أو تحدياتها عظمة العمل بصدق المشاعر التي يقدمها وحقيقيتها.

ربما لم أشاهد مسبقاً عملاً قادراً على أن يكون عن العواطف وأن يجسدها بهذا الشكل وأن يثيرها بهذه القوة لدى الإنسان، شاهدت (حب) لمايكل هنكه وعشقته – فيلم فرنسي آخر عن الحب فاز بكان والأوسكار وبطولة جان لوي تارتينيان – وهو الآخر عن الحب وتناقضاته وتخبطاته ولكن ما يميز فيلم كلاود ليلوش هذا هو إنه لا يكتفي بأن يرينا هذه المشاعر مجسدة بل أن نعيشها أيضاً وأن نقع نحن أيضاً بحب الشخصيات، أن ننتحل شخصية البطل ونحب (آن) ونتفاعل مع القصة بكل تحولاتها، هو يغمر المشاهد بشعور عارم من النشوة والامتلاء العاطفي غير المفهوم ، قد يتهيئ للقارئ أو حتى للمشاهد إن عظمة هذه التحفة شاعرية فقط بعيداً عن جمود حركة الصناعة السينمائية التجريبية المهتمة بالأدوات والتقنيات لمخاطبة غرائز المشاهد وأفكاره، ولكن ما يبدع فيه هذا العمل – كما برع فيه تايتنك بعد تسع وعشرين – إنه تجريبي بالكامل إلى حد ما وعظيم بأدواته السينمائية من مونتاج وموسيقى وتصوير ويستغلها بشكل كامل ليصنع التأثير الروحي، يقلب عملية الآلية وماديتها ليدب الروح والعاطفة، كالمقطوعة الموسيقى التي هي وليدة حركة الآلات المادية الجامدة.

الفيلم يتحدث عن متسابق سيارات جان لي ديروك (جان لوي ترانتينيان) أرمل وأب لطفل ومدققة سيناريو أن (أنوك إيمي) أرملة وأم لطفلة، يلتقيان أثناء زيارة ولديهما في مدرسة داخلية يوصلها في أحد الليالي إلى دوفال ويتبادل هو وإياها أطراف الحديث وينجذبان لبعض ويتكرر خروجهما سويةً حتى يقعا في الحب، الشخصيتان راشدتان وتحملان جروح عاطفية غائرة بالأخص آن التي لم تستطع خسارة زوجها فني الدوبلير والعاشق المثالي، حاجتهما لبعض هي حاجة لعائلة وشريك أكثر من حب، ينجذب جان لوي لها سريعاً وحين يمسك يدها في السيارة تنظر له شذراً بأنه يتسرع بالأمور فهو لم يحدثها عن زوجته وحين يحدثها عنها تكتشف عمق الجرح الذي يعيشه مع شعوره إنه سبب وفاتها، تتغير حياته ويتخلى عن علاقاته العابرة بينما تتجول هي في شوارع باريس وتتذكر لحظاته معه ويغمرها الشعور بالنشوة، تلاحق أخباره وسباق السيارات الذي يخوضه فترسل له رسالة من كلمة واحدة (أحبك) فيترك لأجلها السباق تاركاً معه كل الخطورة التي فيه ليعيش معها حياة آمنة، المشكلة حين يجتمعان سويةً إن ذكرى زوجها تلاحقها فهو يعيش بداخلها وحين ينفصلان تعود الذكريات واللحظات التي قضياها لتطفو فيغير وجهته ويتجه إلى محطة القطار لينتظرها ويختمان العمل بلقاء عاطفي، العمل لا يهتم بتعقيد مشاكل الشخصيات وصراعاتها يقدمها ببساطة وشاعرية، يشرحها بطريقة وافية دون المبالغة في التراجيدية، يصور الأمور ببساطة مطلقة تشبه بساطة وقوع الحب فهو يحدث دون استئذان وبلحظة مباغتة دون تمهيدات، اللقاءات تستمر لأشهر ولكن ليلوش لا يقدم سوى لقاء واحد هو ربما عبارة عن عدة لقاءات ممزوجة سويةً ولكنها تلخص تطور الحب بينهما وتلخص معها مشاكل الشخصيات، والعقد والتحديات التي يواجهانها تبدو منطقية مع مشاكل الشخصيات وحلّها يبدو وافياً مع الاستسلام للحب ولغريزة الحياة، رسالة آن لجان لوي هي رسالة لتطالبه بالتخلي عن مخاطر عمله ليكون معها فهي لا تريد خسارة جديدة، ليختار الحب ويبتعد عن الموت الذي يحيط عمله، وانتظاره لها في محطة القطار هو لجعلها على موعد مع الحياة وتودع الموت الذي يمثل بداخلها مع ذكرى زوجها.

العمل هو كأغنية طويلة هذه هي بساطته وامتلائه بالأغاني الفرنسية الرائعة والموسيقى الرومانسية يعطي إحساس روحي عالي، التصوير بالألوان والأبيض والأسود والأبيض والأحمر رائع جداً، لم أفهم السبب الدرامي منه ولكنه مهم لروح العمل فلم استطع تخيل أي مشهد إنه سيكون بعظمة التي عليها لو كان مصور بغير طريقة، وأغلب اللقطات الخارجية وبالأخص لقطات الشاطئ هي ملونة وتضج بالحياة، التصوير بالعمل صنع لوحات بصرية مبهرة تغني العين كل مشهد لوحة مستقلة بحد ذاتها، أما المونتاج فبغاية العظمة تنقله بين الشخصيتين وتصوير تطور الحالة الرومانسية بينهما ومزجه لعالمهما والانتقال المدروس إلى الماضي والأحلام وتصويرها بسريالية أحياناً قدم الكثير للعمل، السيناريو مبهر بتفاصيله وبساطته وبحواراته الرائعة، مشهد الغداء ربما من أجمل المشاهد السينمائية إخراجياً ونصياً.
عظمة العمل الحقيقية بالأداءات الجبارة من جان لوي وأنوك الانسجام والكيمياء بينهما لم أرى مثله في السينما، العفوية لا نظير لها، لم اشعر بهما يمثلان بل شعرت إنهما فعلاً واقعان بالحب، أنوك إيمي الممثلة العظيمة سيدة الستينات بهذا الفيلم وفيلمي فيليني 8.5  و La dolce vita   وفيلم lola  الشهير تقدم أحد أعظم الأداءات السينمائية التي شاهدتها، لم أشاهد مرة ممثلة قادرة على تجسيد الحب بهذه الطريقة، ملامحها صمتها نظراتها كلماتها ردّات فعلها عظيمة بالكامل، جان لو دارتنيان مبهر، عفويته وطيبته وحبه وحنانه يصنعان نموذج رائع واستثنائي واقعي وبعيد عن المثالية، أحببت في العمل بيري بارو بظهوره بدور زوج آن الراحل وأداء فاليري لاغرانس بدور زوجة جان لوي جيد ، الفيلم من أكثر الأفلام فرنسية شعبية وأعظمها فيلم كلاسيكي لكل زمان ومكان عن حب الحياة والطبيعة والاحتفاء بها، فيلم يجسد معنا إن السينما فن حقيقي وجامع لكل الفنون وقادرة على صنع تأثير روحي لا يقل عن بقية الفنون الآخرى.
10 / 10

0 التعليقات:

إرسال تعليق