RSS

Three colors : Blue – 1993


مع انهمار دموع جولي (جوليت بينوش) على خلفية موسيقاها الأوبرالية والإضاءة الزرقاء الداكنة لا يستطيع المشاهد سوى أن يتنفس الصعداء بعد نهاية رحلة صعبة خاضتها بطلته لتتعافى من آلام وجروح الماضي على مدى شهور من الحداد عاشها معها المشاهد على مدى ساعة ونصف من السباحة ضمن بحر حالك الزرقة من الحزن والفقدان.


فيلم الأزرق الجزء الأول من ثلاثية الألوان للبولندي كرازيستوف كيشلوفسكي هو مفخرة درامية في معالجة الألم ، فيلم مصبوغ بزرقة الحزن والكآبة التي لم تترك لأي لون آخر سبيل للظهور، ليس بالضرورة فيلم عن جولي ومعاناتها بقدر ما هو فيلم عن أقدار الحياة المتلاقية والمتعاكسة، فالشاب الذي يؤشر لسيارة لا تقف له ويتأفف بسبب تركه على قارعة الطريق يصدم بعد لحظات حين يراها تتحطم ويشهد على نهاية عائلة بكاملها لاينجو منها سوى الزوجة والأم (جولي) الذاهلة والصامتة أمام هول مصيبتها لدرجة لاتصدقها وترفض حدوثها وترفض معها حياتها الماضية بالكامل فتنكرها لتنكر كارثتها لتبدأ حياتها من جديد، تتحرر من الماضي وتبدأ من جديد رغم قسوة ضريبة هذه الحرية، فتبيع كل أملاكها وتحرق آخر مؤلفات زوجها الموسيقية وتحطم أي شيء يذكرها بهم وتختفي عن العالم وتعيش معزولة في أحد الأحياء الفقيرة وتلتقي مع عدد من الشخصيات الذين يشكلون خريطة عالمها الجديد.
قبل عزلتها تمارس الجنس مع أوليفر (بينويت ريجينت) صديق زوجها القديم الهائم بحبها ضمن علاقة عابرة كمحاولة لرد الوفاء لشخص عشقها لسنوات بصمت ولم يرض أن يخرب حياتها لأجل حبه وربما كمحاولة لاستجلاب أي شعور إنساني ما زال بداخلها ولكنها تفشل، ترى خادمتها تبكي على زوجها وابنتها بحرقة وحين تسألها عن السبب تجاوبها : (لأنك لاتبكين ، افتقدهم بشدة) وتبدو جولي معها وكأنها تراقب حزن إمرأة أخرى .
في عزلتها تلتقي بالعديد من الشخصيات الجديدة عازف الناي الذي يجتذب الثريات بشجن عزفه، راقصة التعري التي تمارس مهنتها لأنها تحبها دون أن أي غرض مادي، الزوج الخائن الحنون مع القطط، أمها الخرفة (بأداء قصير ورائع من أمنويلا ريفا) التي أضاعت كل شيء من ماضيها إلا ذكرى أختها، عشيقة زوجها الحبلى التي غفرت لها ولزوجها خيانتها فهي قاسمتها الحزن بصمت وهول المصيبة أكبر من الخيانة كما إن الإنكار الذي تمارسه جعل كل غضب يذهب مع الحزن.
هذه الشخصيات لاتغيرهم جولي بالضرورة ولا يغيرونها ولايهتم كيشلوفسكي بالتبحر بعوالمهم، فقصة جولي هي جزء من قصص عديدة حولنا وجميع الناس لديهم من القصص ما تستحق الرواية، ولكن مع ذلك كنت أتمنى لو اهتم أكثر بهذه القصص وتعمق بها.
عودة الشاب الشاهد مع الصليب الذي فقدته في الحادث حاملاً آخر كلمات زوجها هي اشبه بعودة الماضي الذي هربت منه وبحث عنها بصبر حتى وجدها، صدمة تقول لها إن ما جرى معها حقيقة وإنها فعلاً خسرت زوجها وأبنتها ولكنها كذلك عاشت معهم أجمل ايامها وعليها أن تواجه مصيبتها تلك، الماضي يحيط بها أكثر ليظهر على شاشأأكثر ليظهر على شاشة التلفاز يعلن اكتمال تأليف مقطوعة زوجها الآخيرة التي ظنت إنها أتلفتها وعندها لم تعد تستطع السكوت، بالأخص إنها هي من كانت تؤلف كل موسيقى زوجها ، وعندها تعود لتتواجد في العالم وتواجه مصيبتها من خلال الموسيقى لتعلن لا مصالحتها فقط مع آلمها بل لتعلن ايضاً ولادة شخصيتها الجديدة، لتكون هذه المرة هي المؤلفة لا الفخورة خلف ظل زوجها، لتستمر بالحياة وتبدأ مسيرة جديدة، لتعود الإنسانية وتدب بداخلها مجدداً وتتوقف عن التعامل مع كل شيء ببرود وحيادية، لتبكي في النهاية مودعة ابنتها وزوجها وحزنها الصامت.
الأزرق هو أحد أفضل الأفلام الرثائية، كيشلوفسكي يبدع بالابتعاد عن مشاهد تفجر العواطف واستدرار الدموع والمتاجر بالحزن بالاعتماد على التأثير الداخلي العميق للحدث، هو يقوم بما برع به إلكساندر باين لاحقاً في (الأحفاد) بإشعارنا بمدى الحزن الذي تعيشه جولي ويجعلنا نتخيل حياة كاملة عاشتها مع أسرتها دون أن نرى أي لحظة إنفجار حزينة أو مشهد فلاش باك، السيناريو الذي يقدمه ممتاز جداً خالي تقريباً من الحوارات ويركز على التأملات والمواقف العابرة بلعب دور كبير برواية القصة وتضيف إليه جولييت بينوش أداءً عظيماً جداً هو ربما أفضل أدوارها وأداءاتها، أداء يكاد يتفجر بالحزن والدمع في أي لحظة يصر على الكبت والنكران بصعوبة بالغة، أداء صامت يعتمد على النظرات والانفعالات الداخلية استحقت عليه جائزة فينيس وسيزار كأفضل ممثلة وترشيح للغولدن غلوب.
الميزات البصرية بالعمل ممتازة اللوان الأزرق وتشكيلات الغضاءة والتصوير رائعان والموسيقى التصويرية ممتازة وتضيف للعمل جمالية عالية وتتناسب والتحولات النفسية للشخصية.

9/10

0 التعليقات:

إرسال تعليق