RSS

Three Colors: Red-1994


الجزء الثالث والأخير من ثلاثية الألوان هو ربما ليس فقط أفضل أفلام السلسلة بل ربما أحد أفضل إنتاجات السينما الفرنسية على الإطلاق فيلم عظيم وحقيقي جداً عن كل ما أراد كيشلوفسكي تقديمه في ثلاثيته عن الأقدار المتلاطمة، عن التناقضات الصارخة، عن الحب الأعمى الآسر، عن الفقدان المؤلم، عن حياة الناس وقصصها الرائعة الغريبة المجهولة، هو فيلم بلون العاطفة وعنها عن الأحمر لون النار الدافئة الحنونة باعثة الحياة والأمل والطمئنينة والحارقة بلهبها.


القصة الرائعة عن علاقة صداقة استثنائية بين عارضة الأزياء الشابة فلنتين (إيرين جاكوب) وفاض متقاعد (جان لوي ترينتينات) يحمل بها الاثنان الشفاء للآخر والعلاج والأمل بحياة أفضل، علاقة تصرخ بأشد تناقضات الحياة، فلنتين بشبابها وعاطفتها وشغفها الطاغي غير الملجم، والقاضي بخبرة سنينه وتجاربه وعقلانيته التي لا تعرف سوى الصح أو الخطأ دون اي تأويل أو تفسير عاطفي، يعيش حياة منعزلة يتنصت على الآخرين ولا ينكر هذا أو يستحي منه له فلسفته الخاصة بذلك يريد أن يعرف كل شيء يريد أن يتحكم بكل شيء حتى يستطيع أن يعطي أحكامه دون خطأ أو خلل، تدخل حياته وهي بمآزق صعب بين ابتعاد حبيبها عنها ومشاكل متجذرة في عائلتها تريد لأجلها الابتعاد ولكن مسؤوليتها اتجاه أمها وأخيها يعيقانه، تدهس كلبته خطأً بسببه حين تشوش أجهزة تجسسه على مذياع سيارتها وحين تراه تصدم ببروده اتجاه أي شيء ولكنها لا تتخلى عنه ولا ترضى أن تبتعد فبشكل أو بأخر ودون أن يعيا ذلك هو استدعاها لتغير عالمه.
في رحلات تجسسه ندخل حياة مجموعة من الأشخاص ما يجمع بينهم الحاجة إلى الشغف والعاطفة، الرجل الشاذ بحياة مزدوجة مدمرة والشاب القاضي الذي عشق فتاة تكبره في السن، والأم التي تدعي المرض لتبقي ابنتها قريبة منها (وهي نفسها العجوز التي تجتهد لرمي الزجاجة في حاوية التكرير) شخصيات ترمز لأبطال فيلمنا بشكل أو بأخر، الشاذ عن السر العاطفي المحرم الذي يمكن أن يدمر أسرة (ماضي فلنتين)، والشاب وعشيقته وارتباطهما بماضي القاضي (مستقبلها) ، والأم وابنتها عن مخاوف فلنتين وشعورها بالمسؤولية اتجاه عائلتها (الحاضر) ، دخول فلنتين يغير عالم القاضي يشعره إن الحياة ليست قوانين عقلية مجردة بل مجموعة من الخطط العبثية التي لا يمكن التنبأ بها، القاضي يشعر إنه يعرف كل شيء ولكنه لا يهتم بتغير خطة الحياة رغم إنه يمتلك القدرة فالحياة برأيه تكرر نفسها وتتجه دوماً نحو نفس النهايات ولكن سير العمل والرحلة البحرية التي كشفت للقاضي أمور يعرفها ولا يعرفها تجعله يدرك إنه مهما تقدم به الزمن وطال فهو جاهل بكثير من الأمور والحياة لا يمكن الإحاطة أبداً بسر أقدارها وخططها.
العمل عظيم جداً بربطه ماضي الشخصيات بحاضرها بحياة المحيطين بها، بصنعه للصداقة الرائعة بين بطليه ومزجها بعبثي الأقدار وسيرها غير المفهوم، الناس جميعهم لهم مهمة ومهما طالت معاناتهم فهناك مخرج طالما إن لديهم الجرأة على التحدي والبحث فالشريك والهدف والحلم موجود حولهم، لا يمكن التأكد من حقيقة إن القاضي فعلاً راوده الحلم أم لا عن فلنتين ولكنه الأمر الوحيد الذي كان مصيباً به، وحين ظن إنه بمبادرته بفضح نفسه لم يغير شيئاً كان على العكس قد صحح الكثير من أخطاء الماضي، أجبر فلنتين على سلك خط سير عكس طريقه وبذلك نجح بإنقاذ الشاب الذي يعيش حياته مجدداً بكل لحظات فرحها وأحزانها.
الفيلم يتجاوز الأزرق بقوة السيناريو وحبكته القصة مثيرة جداً ومليئة بالتحولات الجذابة والصادمة والمشوقة، كيشلوفسكي يبدع بالتركيز مجدداً على رسم الشخصيات وعلى الحدث وتأثيراته ولكنه لا يكتفي بذلك بل يركز على الحوار أكثر ويقدم هنا مشاهد حوارية رائعة جداً ومبهرة ، كيشلوفسكي ركز بالأزرق على بطلته وبالأبيض على بطله وهنا يركز على الاثنين معاً برسم مبهر للعلاقة ويكملها بأداء عظيم من ممثليه إيرين جاكوب نجمه فيلمه الشهير الحياة المزدوجة لفيرونيكا تقدم أحد أعظم الأداءات النسائية بعاطفة شفافة حارة صارخة وألم قديم دفين وتردد وحيرة اتجاه الحاضر وخوف مزعج اتجاه المستقبل وشوق لمجهول يغير حياتها أداء يلخص العاطفة ويطرحها للمشاهد، الرائع جان لوي ترينتينيات يقدم أداء عظيم هادئ قوي متحكم متألم من الداخل حكيم جداً وآسر للمشاهد.
الصورة البصرية أحد أفضل انجازات كيشلوفسكي هنا الأحمر وتشكيلاته في الديكور والتصوير والإضاءة والمونتاج والموسيقى الأوبرالية صنع لوحة فنية حقيقية شديدة الإبهار، العمل هو آخر إنجازات كيشلوفسكي قبل رحيله عام 1996 وهو أهم ما قدمه نال عنه ترشيح مهرجان كان وترشيح للأوسكار لأفضل مخرج وسيناريو وقبله نال جوائز أفضل مخرج في برلين عن الأبيض وأفضل فيلم في فينيسيا عن الأزرق وجائزة لجنة التحكيم في كان عن الحياة المزدوجة لفيرونيكا ليكون من القلة التي قدمت القليل وحفظه السينما بين اسمائه الخالدة وأعظم فنانيه.

10/10      

0 التعليقات:

إرسال تعليق