RSS

Phantom Thread – 2017



في أفلام مارتن سكورسيزي الشخصيات تسعى لإثبات ذاتها في العالم، في أفلام سيدني لوميت الشخصيات تسعى للسيطرة على عوالمها وحكمها بقوانينها، في حين أن الشخصيات بأفلام بول توماس أندرسون مزيج من الاثنين، تريد إثبات ذاتها في العالم ثم السيطرة عليه، الفكرة داعبها بأفلامه الأولى بوغي نايت وماغنوليا، ومع فيلم سيكون دم أصبحت أكثر وضوحاً ونضجاً، ولم يعد أندرسون يكتفي بها بل أصبحت أفلامه تدور حول – الصراع على السلطة – فلم يكن مستغرباً أن يبتعد عن البطولة الجماعية وينتقل إلى البطولات الثنائية.
الصراع على السلطة الذي تجسد بين رجل الأعمال ورجل الدين في سيكون دم وبين التلميذ والمعلم في ماستر يعود لينفجر هنا بقوة بين الرجل والمرأة، العجوز والشابة، المبدع والإلهام، الغني والفقيرة، الرتابة والتغيير، الحياة والموت، وأندرسون ككل نظرائه من المبدعين يعرف كيف يعالج نفس الموضوع كل مرة بأسلوبية مختلفة، فيه الكثير من ريبيكا ألفريد هيتشكوك، الفتاة الجميلة الفقيرة التي ترتبط بالأمير ولكن لا تعيش معه بسعادة أبدية، عليها أن تتعمل مع ماضيه ونظامه وقوانينه وأسلوبه بالحب وطقوسه.




يبدو العمل في افتتاحيته وكأنه يتبع أسلوب الفلاش باك ولكنه ليس كذلك بالضرورة، حديث (إلما) بالبداية عن (رينولدز) وهي متقدمة بالسن وإنها قدمت له (كل شيء) و (أنه أكثر شخص متطلب) ليس سوى حيلة مونتاجة ضمن تحرير هو الأفضل لعام 2017 ليضعنا أندرسون بجو ما نحن قادمين عليه عن علاقة بعيدة عن الاستقرار ومليئة بالصراعات، ينقلنا بعدها لتصوير طقوس (رينولدز) صاحب دار الأزياء الأسطوري في لندن الخمسينات والذي لا يقصده سوى النخبة، يرينا صرامة عاداته اليومية وانضباطه حتى بالشخصي منها، علاقته المضطربة مع عشيقته التي تشرف على نهايتها، ووجود أخته الكبرى (سيريل) الدائم والمهيمن في عالمه، يطلعنا أندرسون على مخاوف (رينولدز) وهو بمشارف خريف عمره، إحساسه الذي لا يفهمه بالهرم وخوفه المباغت من الموت يترجمه بشوق جارف لوالدته، تنصحه (سيريل) بالذهاب إلى الريف وهناك يلتقي بشكل عابر بـ(إلما) نادلة المقهى العشرينية الفقيرة والجذابة ويبدأ كل شيء.

في القصص العاطفية المشابهة تبدأ القصة من تصوير عالم الفتاة الذي زلزله دخول الفارس الوسيم، أندرسون يبدأ القصة بشكل معاكس بتقديم عوالم الأمير ثم (دخوله) عالم الفتاة و(نقلها) لعالمه، الأمر مقصود ليرينا أندرسون إن علاقة (رينولدز) بـ(إلما) ليس مبعثها ذلك الحب الرومانسي الجارف من طرفه منذ اللحظة الأولى، ولا حتى إعجابه بها سوى بحدوده الدنية، هو ليس سوى نمط إعتيادي يتبعه بحياته للعثور على فتاة جميلة بسيطة تتعلق به ومطابقة للمواصفات الجسدية التي يطلبها لتكون مصدر إلهام له، أشبه بموظفة أخرى في مملكته ولكن لاحتياجاته الخاصة، هي تفتن به منذ اللقاء الأول - والأمر ليس مستغرب – ولكن لا تخضع له، التنافس وصراع الهيمنة بينهما يشتعل منذ اللحظة الأولى، حين يدعوها رينولدز على العشاء تعطيه ورقة مكتوبة مسبقاً تعبر عن إعجابها به، تخبره بهذه الطريقة بأنه ليس هو من اختارها فقط بل هي من اختارته أيضاً في الوقت نفسه.
يضعنا أندرسون في الجو الذي ستكون عليه علاقتهما من الموعد الأول، يجعل (إلما) تدرك إنها ستخوض منافسة خاسرة سلفاً مع والدته وذكراها، لن تصل إلى الكمال التي كانت عليه ولن يكون لها وحدها أبداً، تقول له : (أنت تدعي القوة) فهمته منذ اللحظة الأولى أنه طفل ضعيف هش يحيط نفسه بقوانينه وعالمه الخاص ليحمي نفسه، يرد عليها : (أنا فعلاً قوي) فتقول له : (لا تكون قوياً علي) ليس لأنها ضعيفة هشة، بل لأنها هي أيضاً قوية لن ترضى أن تكون ضعيفة أمامه، يأخذها (رينولدز) إلى مشغله ويعاملها كمجسم عارض ومشروع لمصدر إلهام لأزياءه، تقتحم عليهم (سيريل) جلستهم بلا استئذان وترحب بـ(إلما) وتمدح جمالها وتعطيها قبولها، إنذار مبكر إن (إلما) إن شاءت الارتباط بـ(رينولدز) فلن ترتبط به لوحده سترتبط بأخته أيضاً، ويطلعها على حقيقة الإرهاق والتعب الذي ستعيشه حين تنجح بأن تكون جزء من إبداعه، (إلما) تشعر بالخجل من جسدها و بأنه غير مثير، ولكن يفاجأها (رينولدز) بأنه يدرك عيوب جسدها ويفضل هذه العيوب التي تجعلها مثالية بالنسبة له ولتصاميمه التي يفترض أن تصلح هذه العيوب، هذا الإعجاب الغريب يزيد من ثقة (إلما) بنفسها ويجذبها لـ(رينولدز) أكثر، ولكنه بنفس الوقت تعبير عن غرابة طباعه ومتطلباته غير التقليدية في الحب ، (إلما) تدرك الصعوبات التي تنتظرها ولكنها تستمر يقودها الإنبهار بشخصية (رينولدز) وعالمه ويطربها إعجابه بشكلها، تقول له : (أي كان ما ستفعله أفعله بحذر) تقولها بلهجة يغلب عليها الإنذار المبطن وليس الرجاء.

الأيام التالية من حياة (إلما) بعالم (رينولدز) هي مزيج من التعب والعمل المستمر والرقابة الدائمة التي تتحملها (إلما) بعد أن ينتقل إنبهارها الأولي بـ(رينولدز) إلى حالة إعجاب بـ الفنان – داخله الذي جلعها عارضةً تلفت الأنظار بأزياءه، تبدو قد عرفت سر الدخول إلى قلبه، قدمت له شيء لم تستطع (سيريل) تقديمه، (سيريل) المقدرة تماماً لعبقرية أخيها والداعمة الأولى له ولكنها تلعب دور المدير الصارم الذي يكبح هذا العبقري عن الإندفاع بعبقريته بطريقة تدمر (البزنسس) الذي أسسوه سويةً، لذلك ترغمه على تصميم ثوب لأحد الثريات التي لا تناسب ذوق (رينولدز) ويبغضها ويشعر إنها تهين أزيائها، (إلما) لا تهمها (الأعمال) بقدر ما يهمها (الفنان) لذلك تنحاز له وللدفاع عن فساتينه وفنه وعدم إضاعتهم، وهنا يبدو إن رينولدز بدء فعلاً يحب (إلما) ويقبلها للمرة الأولى بشغف.
رغم إنبهار (إلما) بعالم (رينولدز) وإعجابها به ولكنها لا تسمح لنفسها بالذوبان بالكامل داخله، تبقى تحافظ على شخصيتها واستقلالها، تعترض على طقوس فطوره، تحاول اقتحام عزلته ونيل مكانة (سيريل)، تنتقد اختيار القماش وحين يهاجم (رينولدز) ذوقها تصر (إلما) على الحفاظ على رأيها – شخصيتها - وعدم الانجرار خلف سلطان (رينولدز) بل تتعمد استفزازه وإغضابه كمحاولة لتحريكه ولفت النظر نحوها وإنها ليست كأي موظفة من الموظفات، فضول منها لتقتحم الإنسان بداخل الفنان وتتعرف على الجانب الذي لا يعرفه أحد وتغرم به كما أغرمت بالفنان، - ذلك الإنسان الذي بان على حقيقته حين أقعده الإرهاق بعد التعب، إنسان مختلف عن الفنان الصارم، طفل هش خائف يبحث عن من يمده بحنان الأم وعطفها دون أن تشعره هذه الرعاية بأنه ضعيف وحتاج للآخر، ولكن طبيعتها المتمردة و طبيعة (رينولدز) الطفولية الملولة وخوفه من التغيير وفقدان السلطة واقتحام أي حد لحصونه، يفقد (إلما) رويداً رويداً حظوتها عنده وتحولها إلى موظفة عادية من موظفاته، وأندرسون يبدع كيف يصور الذبول التدريجي لإلما وذوبانها بين الحشود والموظفين واختفائها وهنا يبدو أختياره لفيكي كرايبس ممتازاً – كنت مستغرب عدم أختياره لاسم معروف ككيرا نايتلي مثلاً التي تحمل صفات الدور إنكليزية موهبة وتملك جسد العارضات وتألقت سابقاً بأفلام الحقب الكلاسيكية والفيكتورية – فجسم كرايبس مناسب جداً لتكون عارضة ووجها يحمل صفات شعبة اعتيادية وجذابة وطفولية وغير مألوف للمشاهد يجعلنا نشعر إنها فعلاً غريبة عن هذا العالم ويجعل اختفاءها بين حشود الكومبارس وعدم تميزها سهلاً جداً ويمكن لملامحها بسهولة أن ينتقل بين الانتعاش والنضارة وبين الانهاك .

أفلام بول توماس أندرسون تحوي متعة استثنائية بمراقبة بناء الشخصيات وعلاقاتها وصراعاتها، مفاجأة دوماً وغير تقليدية، أكثر الشخصيات الخادعة والغامضة في العمل هي (سيريل) شقيقة (رينولدز)، مختلفة عن الشخصيات النمطية بهذه الزاوية، الأخت الكبرى أو الأم أو الخادمة المهيمنة على حياة الأمير والمسيطرة عليه والتي تمنع أي أحد من الوصول له، (سيريل) موجودة فعلاً بحياة (رنولدز) بشكل مستمر ومهيمنة عليه، حتى ضمن حياته خاصة موجودة دوماً وظهورها بمشاهد(رينولدز) و (إلما) يبدو مزعجاً جداً ومريب للمشاهد، ولكن ليست الشخص المتسلط التي تمنع أي حد من الوصول إليه، هي أقرب لاستمرار والدته في حياته، الراعية لإبداعه والمكتشفة له والتي نذرت عمرها لأجله، الوحيدة القادرة على التأثير وعليه والاطاحة به وعلى فهمه بالكامل ولن تتوانى عن حمايته من أي شيء حتى من نفسه، (سيريل) لا تمانع أبداً أن يكون بحياة (رينولدز) نساء، تدرك وتتفهم حاجته كإنسان وكفنان لإمرأة وتدرك إنه بدون إمرأة سيخسر شغفه ويدخل بالاكتئاب، بل هي تريد إمرأة بحياة (رينولدز) حتى تحظى هي الأخرى بحريتها ولا تبقى مرتهنة به، تعمل بأسلوبيتها الصارمة على مد الجسور بينهما، تجبر (رينولدز) على أن يكون أكثر رقة معهن، وتقنع النساء على أن يكن أكثر تفهماً وقبولاً لعقليته وقوانينه ونظامه، أن يكن له بالكامل دون معارضة حتى يعطيهن نفسه بالمقابل ولو لم يصرح بذلك، حين تخبر (إلما) (سيريل) إنها تريد تنظيم مفاجأة لـ(رينولدز) تضطرب (سيريل) وتعارض الفكرة بالبداية، ليس لعدم رغبتها بتعزيز التواصل بين (إلما) و (رينولدز) بل لمعرفتها بطبيعة أخيها وإن أي تغيير بنظامه وتعريضه لمفاجأة تهز عالمه سيقابلها بطريقة عصبية تخلخل العلاقة مع (إلما)، ثم تقبل لأنها تدرك إن من حق (إلما) أن تعرف (رينولدز) بطريقتها، وفعلاً حين يتعرض ذاك للمفاجأة يضطرب ولا يعرف كيف يتعامل معها بشكل صحيح، يسأل في البداية عن أخته لشعوره إن الأمان بعالمه اختل وإنه الأن مهدد، يفتعل شجار على العشاء حول الطهو، ليس لأن الطعام ليس مطهي حسب رغبته، حتى لو كان العشاء محضر كما يريد لن يعجبه وسيبتدع سبب للشجار، الشجار سببه وقوعه تحت المفاجأة، نزع السيطرة منه، وقوعه تحت هيمنة شخص آخر، آثناء الشجار (المنفذ ضمن مشهدية بغاية العظمة) يتحول (رينولدز) إلى طفل صاخب، يتعامل مع الموضوع بسلوك غير منطقي ومزعج جداً، تصارحه (ألما) بحقيقة رغبتها بعلاقة حقيقية معه ، مع شخصه، مع ذاته، بعيداً عن كل الهالة الإمبراطورية حوله، بعيداً عن أزياءه، تقاليده وقوانينه، وموظفيه، وأخته، وزبائنه، ومعجبيه، تريد وقتاً خاص بينهما، يشعرها فيه بخصوصيتها وأهميتها وإنها ليست مجرد لعبة ضمن ألعابه يلهو بها ثم يسأم منها ويرميها، (رينولدز) بكل بساطة يخيرها إما البقاء بقوانينه وإما الرحيل، ولكن (إلما) تبتكر حل ثالث.

إخضاع (إلما) (رينولدز) لسلطتها والرعاية به إلزامياً لم يكن مجرد إشباع رغبة سلطوية، بل لتثبت له إنه لن يضره شيئاً أن يخرج من محيطه، أن يكسر قوانينه، أن يتنازل عن السلطة ويخضع لسلطة غيره، من الممكن له أن يسلم ثقته للغير وسيكون هو وآرثه وفنه بأمان ولن يضيع، تلك التجربة التي خاضها (رينولدز) جعلته بمواجهة مباشرة مع مخاوفه وهواجسه وماضيه، مع رعبه من الشيخوخة وإحساسه بدنو الموت منه، وقلقه حول ميراثه وفنه، لحظة المكاشفة الذاتية هذه تجعله يدرك ضرورة التغيير بحياته، لطرد الموت الذي يسكنه (البيت الذي لا يتغير، بيت ميت) هذا ما يقوله (رينولدز) لـ(إلما) قبل أن يعرض عليها الزواج، لترد (إلما) فتعرض هي الزواج على (رينولدز) لتبقى على إصراره الدائم إنه ورغم كل ما يتمتع به ليس متفوقاً عليها وليست أدنى منه.
(رينولدز) لا تتغير عوايده بعد الزواج، سلوكه مع (إلما) قبل الزواج يستمر بعده، وهذا أمر ذكي ومنطقي من أندرسون، لا يمكن لشخص مثل (رينولدز) – ولا أي شخص - أن يتغيير بلحظة، (سيريل) يصبح دورها ضعيفاً ومحدوداً لأن (إلما) سيطرت على كل شيء، هي تنازلت عن السلطة منذ أن نادى الطبيب (إلما) بالسيدة (وودكووك) وتعاملت تلك مع اللقب كأمر واقع ولم تنكره بل ابتهجت به، وتقبلت (سيريل) الأمر ووافقت عليه بصمت واكتفت مؤقتاً كراعية لإمبراطورية (رينولدز)، الأمور تصبح أصعب حين يكشف الزواج التعارض بالسن بينهما، حين يدرك (رينولدز) كم أصبح عجوزاً بوجودها وليس لديه القدرة ولا الرغبة على مجاراة شبابها، وتدخل سريعاً مخاوف الخيانة والهجران، (رينولدز) أدرك بعد أن فتح كل أبوابه إن (العدو) أصبح بداخل قلاعه، وخطر (الإيذاء) الذي هرب منه طوال عمره بات أقرب إليه مما مضى، هذه المرة تهديد (إلما) بالترحيل لم يعد يكفي، لأن (إلما) هي التي سترحل بخيارها هذه المرة، وفي جولة المنافسة الأخيرة بينهما يدرك (رينولدز) إن لا خيار له سوى الاستسلام، يخرج من حصنه، يقتحم العالم ويعرض نفسه لكل ما يكرهه وكل ما يشعر أنه يهدده ليصل إلى المرأة التي يحب، إلى زوجته ويكمل حياته معها، الأمر مع ذلك لن يكون سهلاً، سيبقى (رينولدز) محتاج إلى الإجبار حتى يتجرد من قوته ويخضع لسلطة (إلما) ورعايتها، نوع من التحايل أنه لا يخضع لسلطة حد، فقط حين يخضعه المرض.
رغم كل السعادة التي تنتاب المشاهد بمتابعة كلاسيكية معاصرة كهذه، ولكن لن يستطيع أن يمنع الحزن من أن ينساب إليه وهو يدرك إنه يراقب الأداء الاعتزالي لأسطورة التمثيل المعاصرة دانييل دي لويس، غريبة هي هذه الصدفة التي جعلتنا عن دون قصد نتابع الأداء الوداعي لفيليب سيموري هوفمان في فيلم لأندرسون قبل انتحاره المفاجأ، ثم نودع دي لويس على الشاشة في فيلم لأندرسون أيضاً، دي لويس كعادته لا يخذل الجمهور، بالأخص وهو يودعه، يعطي أداء خلاب للذكرى، بعفويته وانسيابيته وهدوءه يقدم شخصية مليئة بالتناقضات والصراعات والمخاوف بمنتهى الهدوء، يبدع بالتنقل بين الطفل الكبير الذي يحمل ندوب من طفولته (فقدان الأب ثم الأم وتسلط المربية) والفنان المهووس بالذات، والعاشق الصامت، والرجل المسيطر، والزوج العجوز، الأبن متعلق بذكرى أمه والضائع دون قوة أخته، ويمزج كل تلك الشخصيات بشخصية واحدة ويعبر عنهم بنفس الوقت بمشهد واحد أغلب الأحيان، يلعب بميدانه الذي يتقنه بملامح الوجه ونظرات العيون، الصمت المريب والجاذبية الطاغية المرعبة، نبرة الصوت علوها وانخفاضها، تطويع جسده ليبدو فعلاً مصمم الأزياء المبدع وبنفس الوقت ذلك الإنسان المضطرب وراء ثوب المبدع.

من المفاجأ أن يكون فيلم يقوم ببطولته دي لويس ولكن لا يستأثر هو وحده بكل عيون المشاهد، البريطانية الشابة فيكي كرايبس بأول أدوارها البطولية بدور (إلما) أمام أسطورة التمثيل تبدو راسخة جداً وقوية وعلى مستوى قامة دي لويس، في مشاهد الذروة الثنائية بينهما تبدو صادمة بالتمكن والحرفية التي تقدمها، مبهرة بتفاصيل أداءها حتى الصغير منها، بنظرتها وذبولها وابتسامتها وإنكسار عينها وتصميمها وقوتها ومشيتها وحنية ظهرها، شاهدت العمل مرتين وصدمت لهذا التجاهل الغريب الذي تعرضت له خلال موسم الجوائز رغم تفوقها على أغلب ممثلات العام، ليست كرايبس لوحدها، بل القديرة ليزلي مينيفل بدور (سيريل) تكمل ثالوث الأداءات الاستثنائية في العمل، رغم عدم منحها مساحة كافية للتعبير عن دوافع ودواخل الشخصية ولكنها بأدائها الصارم، نظرتها الباردة، مشيتها الموزونة، نبرة صوتها الحادة تنجح بالتعبير عن كل دوافع الشخصية وعالمها وعلاقاتها.
هذا العمل كفساتين (راينولدز) تحفة فنية متكاملة بلا أي تفاصيل منقوصة، السيناريو مبهر بتفاصيله وشخصياته ونسج صراعاتها وحواراتها الذكية جداً، أندرسون يصنع إدارة للحدث ويجسده على الشاشة بإتقان متناهي، يصعّد الصراع بهدوء يبرع به حتى يوصله للذروة بمشهدية عالية المستوى تبقى بالذاكرة، يعطي روح تشويقية خفيفة ذكية تشد المشاهد وتجذبه مع نفس رومانسي عالي جداً، أفلام أندرسون السابقة صعبة جداً وعسيرة الهضم على المشاهد رغم إدراكه لعظمتها، يبدأ الفيلم معه بعد انتهاءه وتكبر قيمته مع الأيام، هذا الفيلم ليس كذلك، ليس لأنه أقل ثقلاً وأكثر خفة، هو على نفس ثقل سابقيه ومثلها يبدأ تأثيره بعد انتهاءه وتنكشف عظمته أكثر بالمشاهدة الثانية، ولكن أندرسون هنا كسر الحاجز بينه وبين الجمهور، جعله مع ثقله رقيقاً ناعماً قريباً للجمهور وسهلاً عليهم، جذاب وساحر بروح كلاسيكية الخمسينات المصنوع بها، راقي وجماهيري وكلاسيكي، لن استغرب إن أصبح مع الأيام أكثر أفلامه شعبية وجماهيرية.
أندرسون يعطي إحساس الخمسينات ليس فقط من الأزياء والديكورات والمكياج الساحرة للعين، بل سينما الخمسينات حاضرة جداً بالروح الرومانسية المنعشة الممزوجة بالاضطراب والصراعات التي تنتهي بالسعادة، وبصناعة العديد من المشاهد وزواية التصوير والميزانستين وقطع المونتاج والموسيقى التي تبدو هاربة من الخمسينات وعلى أعلى مستوى، الموسيقى الإبداعية من جوني غرينوود بتعاونه الرابع مع أندرسون يعطي كعادته مقطوعة موسيقية كلاسيكية لا تتوقف أغلب فترة العمل وتجعله بطلاً إضافياً بالعمل وتتمزج مع مؤثرات صوتية تلعب دوراً هاماً بشرح الحالة الدرامية للمشهد وصراع الشخصيات (مشاهد الإفطار المبهرة بالذات)، أما حركة الكاميرا وزواية التصوير ودرجات الإضاءة فلا تكتفي بتقديم لوحات بصرية مبهرة، بل يستعملها أندرسون ليقدم لغة تعبيرة تغني العمل وتشرح الكثير من خفاية صراعته كالمشهد الذي لا يغيب عن الذاكرة حين يأتي راينولدز ويكتشف إن إلما حضرت له عشاء مفاجئ، زواية التصوير مع الإضاءة، وجودها بالأعلى ووجوده بالأدنى والإحساس بالإجلال حولها وغياب السلطة منه ووقوعه تحت حكمها وإحساسه بالعجز أمامها، أو مشهد هلوسته الاستثنائي ومشهد حفلة الميلاد الخاطف للأبصار.
هذه درة كلاسيكية حقيقية، فيلم عظيم عن عقلية المبدع وهووسه بنفسه ومخاوف الإنسان وضعفه في ثوب المبدع، وعلاقته المضطربة مع ملهمته، فيلم عن المرأة التي لا ترضى أن تكون ضعيفة، لا ترضى أن تبقى بالظل، أن تبقى خاضعة لسطوة الرجل، تسعى لأن تثبت نفسها ووجودها وتسيطر على عالمها رغم جنسها وفقرها ومحدودية ثقافتها بكل الوسائل المتاحة أمامها من أنوثة ودهاء وعطف أمومي، عشاق السينما الذهبية سيعثرون بهذا العمل على ضالتهم، أنصار بول توماس أندرسون سيجدون به إثبات جديد على كونه المخرج الأفضل بين جيله، محبي دي لويس سيتلقون أفضل تحية وداع من نجمهم المحبوب، تحفة 2017.
10/10
 
  


1 التعليقات:

essamsherif يقول...

تحليل مهم وعميق، شكرا

إرسال تعليق