RSS

Blade Runner – 1982


أحد أكثر أفلام الخيال العلمي احتراماً على الإطلاق، وعن استحقاق، ريدلي سكوت الذي ختم السبعينات بتقديمه شكلاً مرعباً وحشياً للفضاء في (Alien) ، لم ينتظر سوى ثلاث سنوات ليعود ويخوض مغامرة جديدة في الخيال العلمي بعيداً عن الفضاء هذه المرة، ضمن الأرض ومستقبلها وصراع الهيمنة عليها ، ونجح بتقديم أحد أرفع كلاسيكيات السينما قيمة وليس فقط ضمن نوعها.
هو ليس فقط مغامرة خيال علمي مشوقة، ليس فقط فيلم مزج بين صنفي النوار والخيال العلمي مبتكراً ثورة في كلاهما و فاتحاً الباب أمام روائع سينمائية كـ(Total Recall) و (Minority Report) و (Looper)، هو مع كل هذه الأمور أعمق من ذلك بكثير، رحلة روحية رائعة تنتصر للحياة في وجه الموت، تنتصر للروح أمام هيمنة الآلة .


الفيلم أراد له سكوت أن يكون وريثاً لرائعة كوبريك أوديسا الفضاء، وأصبح كذلك بكل شيء حتى بخوضه نفس رحلته الصعبة، عدم التقبل الأولي ثم تراكم التقدير مع إزدحام الأسئلة والتفسيرات حوله حتى حاز على مكانة مرموقة جداً جعلته بالنسبة للكثيرين الفيلم الأفضل للثمانينات، تدور أحداثه عام 2019 عن ستة عاملين آليين متطورين في مستعمرة فضائية يتمردون ويهربون إلى الأرض، ويتم تكليف ديكارد – هاريسون فورد أحد محققي الـ(Blade Runner  - عداءوا النصل) المخصصين بملاحقة العمال الآليين المارقيين بمطاردتهم، ونتابع على التوازي رحلة ديكارد التحقيقية التي يكون لها الفضل ليس فقط بعودته للعمل بل لعودته للحياة وتفتح أمامه الباب أمام العديد من الأسئلة الوجودية حول حقيقته وحقيقة من حوله، ورحلة فريق الآليين للعثور على سر الحياة، وتتقاطع الرحلتان في صراع فريد من نوعه بين الحياة والموت والخلود والعدم.
افتتاحية العمل مبهرة، لقطة علوية متسعة للأبنية ولوس أنجلوس المستقبلية مع موسيقى ملحمية من فانجاليز (فيها روح افتتاحية أوديسا الشهيرة، مع تصميم مدينة مستوحة بالكامل من ميتروبليس لفريتز لانغ) تتقاطع الصورة مع عين بشرية تملئ الشاشة تنعكس عليها صورة المدينة، جزئية العين لها دور كبير في الحبكة والعديد من المعان الباطنية الهامة، العين هي مرآة الروح وبوابتها معلناً سكوت بشكل ضمني إننا سنخوض معه رحلة عن حقيقة الروح البشرية، وشكل مراقبة العين للعالم فيها شيء من الطابع الآلوهي العلوي كإشارة إلى الصراع الوجودي القادم، عن المخلوق الذي يريد التمرد على خالقه للحصول على أجوبة كل شيء ونيل حقه بالخلود.

هذا الفيلم يحوي أحد أفضل إنجازات التصوير والديكورات على الإطلاق، حتى من لم يعجبه الفيلم أو لم يفهمه فلم يستطع إنكار حالة الإبهار التي أحدثها جوردان كرونويث في التصوير و لورانس جي باول في الإخراج الفني، يعطوك بدون أي حوارات تقريباً صورة عامة عن المستقبل الذي تدور فيه الأحداث ويجعلوك تتأقلم مع المكان والزمان سريعاً رغم غرابته، عدا الحالة الجمالية التي يقدماها، والأهم إن سكوت مع مدير تصويره ومصمم ديكوراته يحققون أحد أفضل الحالات السينمائية في الاستفادة من التصوير و الديكور لتعزيز الفكرة وإيصالها للمشاهد.
الإخراج الفني ينتقل من الصورة للواسعة للوس أنجلوس المستقبلية إلى تصوير أدق تفاصيلها (طبعاً هناك جهد جبار لا يمكن إنكاره من مصممي الملابس و فنيي المكياج) ويعمل على عدة مستويات صعبة بين الديكورات الخارجية والداخلية، صانعاً عالم متكامل بلا أي ثغرات يمكن ملاحظتها، ويعطيك صورة عن عالم هجين وغريب جداً، بين المبالغة بالطابع الآثري ومزجه بالمستقبلي المبالغ فيه (كالهرم في وسط المدينة) وتفاصيل السوق الذي تدور فيه أهم الأحداث الممتزج بين هويات عرقية متناقضة آسيوية وعربية و غربية، وتصاميم البيوت الداخلية، الواسعة، الفارغة، الموحشة، والفخمة جداً في نفس الوقت كتعبير عن الحضارة الإنسانية الخاوية.

يرافق الإخراج الفني تصوير عجيب، مبالغ جداً بتقنيته وآليته وصناعيته ولكن ممتع جداً للعين، يعطي جو من الآلية المتعمدة الموحشة والسوداوية، ويبدو على إنسجام مع موسيقى فنجاليز الآلية التي ركزت على الغيتار الكهربائي والأورغ وابتعدت عن الآلات الوترية والنفخية الكلاسيكية، ولكن مع ذلك أعطت مقطوعة ملحمية حقيقية، محققاً ريدلي سكوت إنجازاً عظيماً بصنع هوية خاصة لفيلمه، مبهر بأن يجعل فيلمه بغاية الجمالية الفنية الممتعة للعين ولكن بنفس الوقت مرعب جداً وموحش وكئيب وآلي.
سكوت بفضل فنياته ينجح بتقديم صورة عظيمة عن مستقبل عالم يسير بركب العولمة والتصنيع والإدمان على التطور التقني والعلمي دون أن يواكبه تطور روحي إنساني على نفس الدرجة، عالم مفتقد للهوية والروح والحياة، عالم مزيف وآلي وميت، في هذا العالم الجنس البشري يواجه خطر إنقراض حقيقي غير المنظور، ليس الإنقراض السكاني، هناك تركيز على الزحام وعلى عدم الإشارة لأي خطر حقيقي بيئي أو جرثومي أو حتى سياسي واقتصادي يواجه العالم، نحن في زمن ما بعد الأخطار الكلاسيكية، الإنقراض يبدو روحياً، تفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها العاطفي الروحاني، الخطر الحقيقي هو التأكل الداخلي، فالإنسان أو العرق البشري وصل للقمة، أنجز رسالته للكون،  عثر على إجابة لأغلب الأسئلة حتى على سر الروح، لم يعد شيء يقف في وجهه أو يعيقه، إلا الموت لم يستطع التغلب عليه، وبعد أن عرف سر كل شيء وحل لكل شيء إلا أخطر شيء، لم يعد يبهره شيء أو يحفز خياله ليبحث أكثر، مما أوصله لمرحلة الخواء الروحي، الخواء الذي عبر عنه سكوت بشكل عظيم بتفاصيل عمله كتركيزه على منحوتة لكأس أجوف فارغ القعر مبني على قاعدة من الكتب المصطفة على شكل هرمي، هذا الخواء هو الوباء الجديد الذي يعصف بالبشر والذي تبدو تفاصيله في كل مكان، يبدو حتى في جدران المنازل الفارغة كالنمل الأبيض الذي يلتهم أساسها، مع إشارة دائمة ومتكررة للمطر المنهمر، المطر الذي لا يبدو هنا كحالة تطهير روحية – ربما هو كذلك بالنسبة لديكارد – المطر هنا يبدو كبداية عاصفة توشك أن تطيح بكل شيء وأن يجعل البشر يسلمون موقعهم لكائناتهم المخلقة الأكثر تطوراً منهم.

ديكارد في رحلة بحثه عن الآليين يبدأ من الدكتور ألدون توريل (جوي تركل) مبتكرالآليين الذي يقدم لديكارد أخر ابتكاراته، ريتشيل (شين يونغ)، الآلية الكاملة، التي لا يمكن لها أن تتمرد أبداً، لأنها بكل بساطة لا تدرك هويتها، مقتنعة تماماً إنها بشرية وتدافع عن هذه الهوية، لدرجة إن ديكارد كاد أن يخدع بها.
ديكارد يقدمه العمل على أنه شخص منهك، ككل مجتمعه، يعيش منعزلاً وحيداً، يتردد على مطعم صيني لا يفهم لغته ولا يفهمون لغته لينعم بأكبر قدر ممكن من العزلة، يبدو له ماض أسود ودموي يحمله معه (كعقدة كل أبطال سينما النوار – وسكوت يعبر عن بطله وماضيه من خلال تفاصيل ديكور منزله والتصوير وأداء رفيع جداً من هاريسون فورد) والآن يبدو إنه يخوض أزمة داخلية عميقة بسبب هذه القضية تجعله يشك بكل شيء حوله، حتى بذاته، تجعله يتسائل عن حقيقته وحقيقة من حوله، تجعله لأول مرة يكتشف الزيف في هذا العالم وإلى أي حد هو كاذب ومخادع.
ريتشيل هي العقدة، الأزمة الجديدة التي تواجه ديكارد وتجعله يشك بحقيقة كل من حوله، والعلاقة التي تنسج بينهما شديدة التعقيد والغرابة رغم بساطتها الظاهرة، ريتشيل تنكر حقيقة كونها آلية، تتمسك بهويتها البشرية، ليس خوفاً من تصفيتها (إحالتها على التقاعد) بل لأن هذه هي الهوية التي تعرفها والتي ترفض لها بديلاً وفقدانها سيؤدي إلى اختلال بتوازنها الداخلي، وريتشيل بفطريتها تحاول إيقاع ديكارد بحبها لتثبت بشريتها، لتثبت إنها إنسان كامل لها مشاعر وعواطف تميزها عن الآلات قادرة على الوقوع بالحب وعلى إجبار ديكارد على حبها، وإلا فكيف سيحب صياد الآليين آلية؟، وشعور ديكارد بالحب لها يحيره أكثر، يجعله يتسائل عن الفوارق بين البشريين والآليين وحقيقتهم، وحقيقة عواطفهم وكيف يمكن إعتبارهم مختلفين عن البشر وهم يحملون نفس هذه الروح والعواطف.

العمل الذي وضع نصه كل من ديفيد ويب بيبولز (كاتب Unforgiven  و Twelve Monkeys) و هامتون فينشر باقتباس عن رواية لفيليب ديك أحد أشهر كتاب الخيال العلمي (كاتب Minority Report و Total Recall ) يقدم تصوير مفرط بإنسانيته لشخصية الآليين لا أذكر إني شاهدته في أي فيلم خيال علمي سابق، هنا ريدلي سكوت ذكي جداً حين لم يتجه للخيار الأسهل حول مطاردة ديكارد للآليين، بل أعطى للآليين مساحة واسعة جداً على التوازي مع رحلة ديكارد (طبعاً مع ثناء للمونتيرة مارشا ناكاشامي على إنجازها بصنع التوازن بين القصتين والعمل الممتاز على مستوى تفاصيل القصة والإنتقال بين طبقات المشهد المعقدة وإضفاء روح الإثارة عليه) .
الآلييون في العمل لهم دوافع واضحة جداً ومفهومة، لهم بعد عاطفي وفطري يحركهم ويقودهم، هذه الآلات لم يصبها خلل فيروسي في نظامها، لم يكتشف ذكائها الصنعي إن البشر تهديد لوجودها، لم يقدها خطأ في برمجتها إلى استنتاج بأن البشر هم أصل أخطار الأرض ويجب إزالتهم لتستطيع إنجاز مهمتها بحماية الأرض، كل هذه الأمور الكلاسيكية والنمطية في سينما الخيال العلمي يقوم ريدلي سكوت برميها والتركيز على الدوافع البشرية التي تحرك الآليين بعد أن طوروا مشاعر حقيقية وروحانية أصلية.

الآلييون هنا لا يريدون أن يكونوا بشريين أو أن يحكموا البشر أو يزيلوهم، يريدون الأمان، المعاملة بأنصاف، عدم استعبادهم، إعطائهم الفرصة للحياة، هم متفوقيين ويدركون ذلك، ولكن تفوقهم يترافق مع فنائهم الداخلي السريع، هم محكومين بأربع سنين فقط ليعيشوها ويريدون حل لهذه المعضلة، يريدون كسر الموت، فكما طوروا هنا مشاعر بشرية حقيقية طوروا معها المخاوف الإنسانية من الموت والرغبة الأصلية بالخلود.
زعيم الآليين روي باتي (روتجر هاور) يخوض رحلته نحو صانعه ليعثر منه على أجوبة حول وجوده ويطلب حلاً للموت، هذه الرحلة فيها الكثير من الرمزية العظيمة، عن علاقة المخلوق بالخالق ورغبة المخلوق بتحدي صانعه، الصانع، الدكتور ألدون توريل يقيم على قمة الهرم، أعلى المدينة، الصعود إليه يتم بمراحل لعبة شطرنج، تحدي للعقل البشري ليثبت تفوقه حتى يكون المصنوع مؤهلاً ومستحقاً لمقابلة الصانع، روي الآلي استطاع بذكائه التغلب على صانعه والوصول له، ورغم إنه استغل المهندس سباستيان ليصل ولكن يستقبله توريل وكأنه يعرف مسبقاً إنه سيأتيه، كان يتوقعه وينتظره، ليخبره إنه لا حل لمشكلته، لا يمكن هزيمة الموت، هذا قدره، بل هو ضريبة تفوقه، تفوقه يأتي على حساب حياته الطويلة، ينصحه بأن يستغل هذه الفترة القصيرة من الحياة مع قدراته المذهلة ليستمتع بحياته، روي لا يرضى بالإجابة، يبحث عن تعويض لهزيمته فيقتل توريل كإنتقام.

هذا المشهد يبدو تلخيصاً لعقدة الوجود الإنسانية الحديثة، الإنسان الحديث الذي قهر كل شيء بواسطة العلم، وطوع الكون كله لسلطته، ولكنه لم يستطع الوصول إلى الخلود وإلى أجوبة الأسئلة الوجودية الأهم في حياته، وصل إلى الآله بالتفكير والفلسفة والبحث والعلم ولكن لم يجد عنده الأجوبة والحلول التي ترضيه، لم يقنعه بأنه لا يوجد حل لمعضلة حياته وموته وإنه لا غاية أصلاً من جوده سوى إرضاءً لغروره فقرر قتله، قتله مجازياً بالتمرد عليه والإلحاد به، ليخوض بعد تحرره من الآله رحلة ضياع عدمية، ونحن نرى فعلاً إن روي بعد أن سلم بفشله بعدم قدرته على الوصول إلى الخلود تصبح تصرفاته عبثية وعشوائية وفيها الكثير من عدم المسؤولية بالأخص بمشهد مواجهته الأخيرة مع ديكارد، ولكن الآله لا يموت، هو يراقب الأمور كلها بصمت ولا يتدخل ويترك إشارات على وجوده، ويبدو ذلك من خلال شخصية جيف (إدوارد جيمس أولسون) الذي يوحي إنه هو الآله الحقيقي الخفي الذي يظهر ويترك إشارات دائمة من خلال صنعه لمجسمات ورقية هشة لطيور ومريب وغامض بنواياه وكلامه .
روي هو المستقبل، المرحلة التالية من المستقبل التطوري البشري، يقول لديكارد (لقد كنت في أماكن عجيبة وشاهدت الكثير من الأمور التي لا تخطر ببالك) هذا الكائن المتطور المكون من جسد سلفه والذي يملك علم لا يملكه ويملك قوة وقدرات رهيبة لا يحلم بها، هو التجسيد للإنسان الكامل، الذي لا يحمل فقط علم وقوة لا متناهيين بل تطوره العاطفي والروحاني متواكب مع تطوره الجسدي و المعرفي، وسكوت يركز جداً على حقيقة مشاعر روي وحبه لبرايس (داريل هانا) ويصوره إنه حب حقيقي أصيل ولا يقتصر فقط على روي وبرايس بتصوير براءة الحب والمشاعر وصدقها كذلك ريتشيل لديها مشاعر حقيقية اتجاه ديكارد و هناك حب بين ليون وزورا.

كأي فيلم خيال علمي لا بد أن يكون هناك اعتناء بجانب المؤثرات البصرية والأكشن في العمل، Blade Runner ليس فقط مستوفي لشروط الجودة بهذا المجال، بل هو ثوري جداً، ريدلي سكوت في شبابه كان خلاقاً جداً وثوري وملهم أكثر منه الآن، الرجل الذي أصبح فيلمه الأوليين هذا وAlien مرجعين لدى كل صناع الإثارة والرعب والخيال العلمي والنوار والنوار الخيال العلمي (تأثر سبلبيرغ به واضحاً بفيلمه Minority Report و Artificial Intelligence: AI) استغرب كيف خبت شعلة الإبتكار والثورية عنده لتصبح أفلامه بأغلب الأحيان تقليد لغيرها وينتج العديد من الأفلام الرديئة، نعم هو له بعض الأفلام الممتازة جداً بالأخص (Gladiator – Black Hawk Down – American Gangster  ) ولكنها ليست أصلية في كثير من الأحيان تأثر سكوت بغيره يجعله يقلد ويقوم بذلك باحتراف وبشكل خادع أحياناً رغم إنه ليس بحاجة لهذا، الحالة الوحيدة التي كان بها سكوت أصلياً هي في Alien  و Thelma & Louise و مؤخراً وإلى حد ما The Martian وطبعاً فيلمه هذا الأفضل بين أعماله .
المؤثرات البصرية عظيمة وثورية ومحيرة كيف صنعها سكوت، صانعاً عالم كامل بإبتكارات محيرة جداً ووافية ومرجعية في هذا المجال، ورغم إن سكوت لم ينجر باتجاه نواحي التشويق والأكشن في عمله - المناسب جداً ليكون تشويقياً - ولكن لم يهمله لحساب الجانب الإنساني والروحاني والفلسفي، الأكشن بالعمل موجود وممتاز ومشوق جداً على مستوى تشويق Alien والأهم إنه ليس فارغ ومفيد جداً للقصة.

الإثارة تصل لذروتها في المشهد الختامي المواجهة بين ديكارد و روي، هي ليست فقط ذروة تشويقية، بل أيضاً ذروة فكرية، الإنسان البسيط (ديكارد) عاجز عن مواجهة المتفوق (روي) الفروق بين البسيط والمتفوق تبدو واضحة هنا، وتنتهي المواجهة وديكارد (الإنسان) على حافة هاوية حضارته ويوشك على السقوط وروي (المتفوق) يقف فوقه شبه عاري بكماله الجسماني القريب للآلوهي، يحمل بيده حمامة بيضاء رمز السلام والتي هنا تبدو أيضاً رمزاً للحياة، ويقوم بإنقاذ ديكارد، أنقذه لأنه لا طائل من قتله، أنقذه انتصاراً لقضيته التي ناضل من أجلها (الحياة)، قتله الأولي لتوريل كان انتقامي أما قتله لديكارد فعبثي ولا معنى له بالأخص إنه ميت بكل الأحوال وخسر حبيبته بريس وأثبت إن ديكارد لن يستطيع هزيمته، يجلس أمام ديكارد كآله بوذي وقد غرز بيده المسمار كالمسيح، أصبح له بعد آلهي وهو على وشك الموت، ولكن قبل موته أعطى لديكارد (الإنسان) درس بالمسامحة والحب والسمو، ديكارد الملوثة يداه بدماء الآليين لدرجة ماتت الروح بداخله فتعلم الإنسانية من هذا الآلي، أدرك غاية جديدة لحياته بعد أن تلقن الدرس من هذا الذي مر بدورة حياته البسيطة بكل مراحل التطور الروحانية فلم يعد فقط كائن مصنع أو إنسان متفوق بل أصبح آله جديد إلى حد ما يحمل خطايا الحضارة وحكمتها.
أدرك ديكارد إن عليه البدء من جديد، الاستسلام لعواطفه والتبرء من كل الآلية والموت التي تحكم حياته، لذلك عاد إلى ريتشيل (الآلية) وقرر أن يسلم نفسه ومشاعره لحب آلية وهو قاتل الآليين وصيادهم ويلغي كل فوارق بينهم بعد أن أدرك إنها أصبحت شبه وهمية.

خاتمة الفيلم محيرة، الحبكة عن مطاردة ستة آليين ولكن في الفيلم لم نشاهد سوى أربعة، قد نسلم إن ريتشيل هي الخامسة ولكن أين السادس؟ من الممكن جداً أن ديكارد كريتشيل آلي متفوق ولا يدرك حقيقته ولم ندركها نحن جمهور مما جعل سكوت يوقعنا بمكيدة صدقنا بها بشرية الآلي، هذا العام سنرى جزء جديد لا أظن إن له داع من هذه الرائعة، بالأخص إن هاريسون فورد مشارك بها وهو بسن السبعين مما ينفي فرضية إنه الآلي السادس ويحطم لذة غموض اللغز الأصلي، الفيلم سيخرجه دينيس فيلنوف وسيشارك به رايان غوسلينغ وجيراد ليتو، وكمعجب بالفيلم الأصلي لا أتمنى رؤية جزء جديد له لأنه لا يحتاج ولا يوجد شيء إضافي ليقال عليه، و جماله بفرادته وعدم إضافة شيء فوقه.
الفيلم يكمل اتقانه البصري مع أداءات تمثيلية ممتازة من الجميع بالأخص هاريسون فورد نجم الثمانينيات الأول (إلى جانب هذا الفيلم تصدر بطولة أفلام حرب النجوم وأنديانا جونز و Witness و The Mosquito Coast لبيتر وير و Frantic لرومان بولانسكي و Working Girlلمايك نيكولز وهي من أهم وأنجح أفلام الثمانينيات) و اعتقد إنه قدم أفضل أدواره هنا  وكان معه باقي طاقم العمل على نفس السوية من الجودة بالأخص الرائع روتجر هاور ، كما إن الفيلم كان له الفضل بإطلاق نجومية شين يونغ وداريل هانا.
هذا الفيلم أكبر من مجرد خيال علمي أو فيلم سينمائي ثوري، هو رحلة عظيمة لإكتشاف الذات، لإكتشاف هويتنا الحقيقية والدفاع عنها، فيلم فلسفي عن العالم المعاصر المدمن على التقنية والمادية والمهمل للروحانية لدرجة العدمية، عن الأزمات الوجودية الإنسانية وغرائز الإنسان الأصيلة بمعرفة غاية وجوده وقهر الموت والوصول للآلوهية والإنتصار للحياة، عن حقيقة الروح البشرية وحقيقة المشاعر الإنسانية ونقائها، إن كان لي الخيار بوضع قائمة بأفضل أفلام الخيال العلمي فهذا الفيلم لا ينافسه على مرتبة الأفضل سوى أوديسا كوبريك وميتروبلس فريتز لانغ.
10/10

نور الدين النجار

0 التعليقات:

إرسال تعليق