RSS

Moonlight - 2016


منذ المشاهد الأولى شارون الطفل يهرب من أقرانه (مجتمعه) ولكن لا يجد ملجئاً سوى أوكار التعاطي (واقعه) يعثر عليه خوان (بيئته ومصيره) ويحتضنه يحاول مساعدته ولكن في بيئة كهذه لا هرب للإنسان من مصيره إلا إليه.


سوّق الفيلم على أنه أحد أفلام السود أو الشذوذ واختصر بأنه عن شاذ أسود، الأمر فيه تسخيف كبير لذات الفيلم ، هو فيلم عن البيئة المنحطة الفقيرة المنحلة بغض النظر عما هي، عن المجتمع المهمش الذي يعيد إنتاج نفسه بلا توقف، عن حلم الاختلاف والتغيير الذي يداعب الإنسان ومحاولته أن يعيش مع ذاته بسلام، عن الناس المنسيين وأحلامهم المحطمة وذاتهم المكسورة، فيلم يجسد معاناة معنى أن تكون أقلية ومختلف وضعيف في مجتمع أقلية وضعيف، عن أن تكون في قاع الهرم الغذائي ومضطهد من الجميع، باري جينكيز برائعته هذه ذكي جداً لا يتحذلق لا يتذاكى لا يجعل فيلمه متشعباً ليس عن العنصرية أو التفرقة لا يوجد شخصية بيضاء واحدة بالعمل أو حكومية أو خطابات وإنشاءات أو محاولات تغيير، لا يوجد شيء في العمل غريب أو دراسة غريبة غير تقليدية للشخصيات، تاجر المخدرات ذا المبادئ، الأم المدمنة، العاهرة الودودة ، صبيان المدرسة البلطجية، كلها نماذج شاهدناها سابقاً وجينكيز يعيد تقديمها كما اعتدناها متعمداً يجعلها أكثر إنسانية ويجعلها ضحية لمنظومة اجتماعية أكبر ولمفاهيم متجذرة في بيئة صعبة، هو دراسة إنسانية ونفسية لشخوص هذه البيئة لهذا المجتمع المعزول والمرمي بعيداً عن الحضارة والاهتمام، لا يحاول جينكيز أن يغير شخصياته ويجعل عندها الطموح للتغير لأنها تجاوزت هذه المرحلة ورضيت بما هي عليه كمحاولة لعقد السلام مع المجتمع، حتى كيفن الذي حاول أن يتغير ونجح بقي لديه حسرة إنه لم يعش كما يشتهي، يتمنى لو كان غير ذلك، يعيش فقط كما هو مطلوب منه الآن وطموحه الوحيد أن يستطيع أن يحدث التغيير من خلال أبنه ، ولأجل ذلك فالعمل لا يوجد به الكثير من الأحداث مجرد مواقف جوهرية قليلة مرصوفة جنب بعضها بمونتاج ممتاز عرفتنا بالشخصيات وصنعت ملامحها وما بينها من أحداث هو مجرد يوميات روتينية متكررة بلا توقف كعجلة هذا المجتمع التي تدور بلا نهاية وبلا تغير أو أمل به ليتحقق، فقط فسحات قليلة من الصفاء والنقاء تحت ضوء القمر .

يروي جينكيز قصة حياة شارون على ثلاث فصول، كل فصل يروي موقف أو موقفين يختصر هذه الحياة دون إسهاب أو كثرة كلام أو شخوص، فيلم يعتمد كثيراً على التأمل على الاختصار وعرض الوافي فقط ومليء بالدلالات عما يريد قوله ، الفصل الأول يسميه الصغير عن لقب شارون بالطفولة والفصل الثاني يسميه شارون عن مرحلة المراهقة والثالث يسميه بلاك لقب شارون بمرحلة الرجولة بعد أن أصبح موزع مخدرات، التسميات للفصول متعمدة شارون كان (الصغير) المضطهد الضعيف الضائع حين كبر بالسن أراد أن يكون ذاته (شارون) ولكن المجتمع لم يتقبله واضطهده واعتصره فتحول إلى (بلاك)، بلاك كذلك هو اللقب الذي كان يناديه فيه كيفين حب طفولته الذي بقي مختبئاً تحت جلده ولم يمت كما يخبئ أسنانه الحقيقية تحت البذلة الذهبية، في مرحلة بلاك شعرت بالبداية بالسوء من أداء تريفينت ريديس لها شعرت إنه مدعي بظهوره كموزع مخدرات، ولكن بمشهد لقائه بكيفن انقلبت الحالة الأدائية تماماً وظهر مبدعاً ، إدعاءه كان متعمداً بالبداية فهو يمثل بحياته الخاصة دور بلاك القوي الشديد ، ولكنه بالحقيقة شارون الصغير الضعيف الهش المسالم الوديع، وفي مشهده العظيم مع كيفن تشعر بالطفل الصغير يتحدث تحت جسم بلاك الضخم، تشعر رغم كل الكمال الجسماني الذي يظهر به بلاك ولكنه مشوه ومحطم وهش أكثر من ذي قبل.

شذوذ شارون ليس سوى تعبير عن أي مدى يمكن أن يكون حلم التغيير خطيراً في هذه البيئة، بالأخص ببيئة لا تقبل الاختلاف ولا تعترف بالضعف، شارون لا يفهم اختلافه ولا يفهم لما هو مضطهد بسبب هذا الاختلاف ، لديه أحلام كثيرة لا أحد يفهمها، والدته المدمنة لا يمكن الاعتماد عليها وخوان كان يلعب فترة دور الأب ثم توفي بسن صعب، تيريزا حلت فترة مكان والدته ولكن هواجس شارون لا يمكن أن يبيح بها لوالدته وغيرها، لذلك وجود كيفن بحياته ضروري، شخص لا يفهم فقط اختلافه بل ويشاركه به، حبه له ليس فقط ميل جنسي شاذ، بل رغبة من شارون بالعثور على شخص يحتويه يفهمه يقدره لا يضطهده، لذلك بقي هذا الحب معه رغم الصدمة التي تعرضا لها وسنين الافتراق والتحولات التي مرا بها.
علاقة خوان بشارون هي ركيزة العمل الأساسية ، خوان يبدو مثل شارون شخص كان له أحلامه أماله هواجسه ولكن بيئته طحنته وغيرته وحولته إلى عكس ما كان يريد، رأى بشارون فرصة ليصنع فارق ما تغيير ما ، اكتشافه بأنه والدته هي زبونة لديه يسبب له طعنة مؤلمة وشرخ بعلاقته مع شارون مبكراً التي كان من الممكن أن تغير من حياتهما، ولكن خوان بقي ملازماً لشارون حتى بعد وفاته، شارون حاول أن يكون ذاته كما علمه ذاك ولكن البيئة لم ترحمه وحطمته فتحول إلى بلاك، شكله بسن الرشد وكيف تحول إلى نسخة عن خوان حتى بالملامح والملابس يبدو متعمداً من جينكيز ليجعلنا نتخيل حجم المعاناة التي مر بها خوان حتى تحول إلى تاجر مخدرات وليرينا كيف إن البيئة التي أنتجت خوان أعادت إنتاجه مجدداً من خلال بلاك وربما يكون كيفن جونيور أو غيره هو خوان القادم.

منذ العشرين دقيقة الأولى للعمل شعرت إنني أمام إنجاز سينمائي عظيم، باري جينكيز بفيلمه الروائي الأول المحدود الميزانية يصنع هوية بصرية عظيمة جداً لعمله، يبدو كثيراً من الأحيان ملحمياً، يبدو مزيجاً من مدينة الرب شوارع قذرة أفلام سبايك لي المليونير المتشرد دون أن يفقد هويته الخاصة أو يكون عنيفاً أو مثيراً بل هو أكثر أفلام البيئة حزناً وهدوءاً وتأملاً ، الصورة رائعة جداً ، استخدام الألوان عظيم ، الأرجواني في القصة الأولى الأزرق في القصة الثانية تدرجات الأصفر الداكن في القصة الثالثة ، كل منها له دلالته الخاصة ، عنف الطفولة ، مرحلة البحث عن الذات والحزن بالمراهقة ، السوداوية والاستسلام بمرحلة النضج ، الصورة تتعشق بالمكان وتجعله بطلاً للعمل وتجعلك تنتمي للبيئة وتشعر بأنك تعيش بها ، مساحات الصمت والتأمل ، لحظات الصفاء في الليل وعلى البحر ، مشاهد البدر القليلة المبهجة ، التركيز على تصوير شارون أغلب العمل بعيداً عن التجمعات ككائن معزول في قوقعة لوحده غير مرئي ، الموسيقى المؤلمة الاستخدام العظيم للأغاني ، مشاهد الأحلام ، الصورة المهتزة والضبابية حين تظهر أم شارون المدمنة، إنجاز التصوير والموسيقى بالفيلم ربما هو الأفضل لعام 2016 عن جدارة .

تمثيلياً العمل بالقمة ، ربما هو أفضل طاقم تمثيلي لعام أمتلئ بالطواقم المبهرة (مانشستر على البحر وحيوانات ليلية والجحيم أو الطوفان والخادمة على سبيل المثال) النجم التلفزيوني ماهرشالا علي بدور خوان يصعب على الوصف القوى مع الوداعة والطيبة والحزن المستتر والذنب والأمل المحطم، نعومي هاريس بدور والدة شارون ممتازة جداً بتقلبات الشخصية المدمنة على طول عشرين سنة وتشعر بها فعلاً تسوء حالتها بين مرحلة وأخرى وفي القصة الثالثة بعد معافاتها تشعر بندم السنين يعتصر الشخصية، جانيلي مونعي بدور تيريزا ممتازة ، أليكس هيبرت و أشتون ساندرس و تريفينت ريديس بالتناوب على دور شارون فوق الممتاز وأسرين بكل مرحلة يظهرون فيها، وكذلك جادن بينر و جاريل جيروم و أندريه هولاند بدور كيفين .

 في أحد مشاهد الفيلم المبكرة يقول خوان لشارون : (كن ما تريد) ولكن لا شارون ولا كيفن ولا أحد بالفيلم تمكن من أن يكون ما يريده ، فيلم جوهرة عام 2016 .

0 التعليقات:

إرسال تعليق