RSS

Manchester by the sea – 2016


هذا العمل يحوي كمية قاتلة من الألم، ألم غير مفهوم كيف صنعه كينث لونرغان، كيف صوره، كيف نقله للمشاهد، كيف استطاع حمله لممثليه، وكيف استطاع طاقمه تقبله ونقله لنا بمنتهى السلاسة، دراما تحتمل الكثير من الحوار من الانفعال من المواجهات الدرامية، ولكن لونرغان يرمي كل ذلك وراء ظهره ويتعامل مع نوع آخر أكثر صعوبة ، الآلم بالعمل غير منظور، أنسى الدموع فهي شحيحة، أنسى الانفعالات والإنفجارات الصاخبة لأنها غير موجودة تقريباً، الصراع غير منظور والألم داخلي، ساكن بين ضلوع الشخصيات ومتعايشة معه، الألم يتسرب من الشخصيات ليسكن عظام المشاهد بسلاسة رهيبة ومرعبة، فيلم يعتصر القلب، يعذب ويطهر في نفس الوقت، فيلم بارد جداً في السطح، حوارات هامشية جداً عادية جداً مجتزأة جداً، ولكن تحت السطح، في عمق العمل وعمق الحدث هناك نيران تشتعل، ليست قيمة العمل بما يقدمه، بل قيمته الحقيقية بما يسكت عنه ويغفله ويتركنا نتخيله ونشعر به ونلمسه، أنت بهذا العمل لا تراقب فقط الشخصيات وتدرسها بل تعيش معها وتشاركها حياتها، فيلم يرتكز على التفاصيل الحياتية اليومية على الأحداث غير المهمة والتي لا تعني أحد ليجعلنا نتحرى ونكتشف من وراءها خبايا عديدة من الذكريات والمشاعر تخفيه الشخصيات ولا تريد أن تبوح به أو تعالجه.


لونرغان يتعامل مع أحساس الممثل وتواصله الحسي مع المشاهد، المونتاج العظيم غير المقدر بترشيحات الأوسكار مساحات التصوير الواسعة وبرودة المكان ولحظات الصمت الطويلة والحوارات المجتزأة والموسيقى الحارقة تلعب دوراً كبيراً بصنع دراما العمل الصعبة، هناك مشاهد عديدة تدرّس بالعمل، مشاهد صادمة محيرة كيف كتبها لونرغان وكيف أوصل أحساسها لممثليه ليخرجوا أقسى أحزان الشخصيات دون حوارات كاملة وواضحة أو دون حوارات بالأحرى، إنجازه هذا صادم جداً، تعيش معه ولا تتمنى للعمل أن ينتهي، تستمع بألمه، تستمتع بالتطهير الذي يصنعه هذا الألم، لذلك لن تستطيع أن تنهي العمل دون أن تقول إنه فعلاً أحد أفضل إنجازات الدراما الحديثة.
جزء كبير من قيمة العمل يحملها كيسي آفليك بأدائه العظيم لشخصية لي تشاندلار، هو ميت حرفياً على الشاشة، ردود أفعاله وتفاعلاته ميتة جداً، انفعالاته محدودة جداً، هذه الشخصية استهلكت نفسها من الحزن، المأساة اعتصرته واستنزفته حتى أخره، لا يبدو أن في حياته أي شيء مفيد أو مهم أو له قيمة، حتى ثورات غضبه المحدودة تبدو دون معنى، شخص خسر كل شيء فلم يعد لديه المزيد ليقدمه أو يقلق عليه، يبدو بارداً جداً بالتعامل مع موت أخيه رغم قربهما من بعض، لأنه بكل بساطة لم يعد لديه المزيد من الحزن ليقدمه، الشخص تجاوز مرحلة الحزن، تجاوز مرحلة الغضب، تجاوز مرحلة الصدمة، تجاوز الشعور باللذة والجمال أو الشوق لهما أو الإحساس بوجودهما والحاجة لهما ولم يعد لديه سوى الحسرة، سوى أن يمضي حياته يومياً وهو يجتر عذابه ويستعيد أشباحه ليستلذ بجلد ذاته بصمت، آفليك يبدع بتجسيد الألم الصامت، يبدع بتحويل وجهه المخنوق نبرة صوته مشيته ليصبح تعبيراً حياً عن حزن يمشي وينقل العدوة للمشاهد، تراه يقف بصمت ولكن تشعر بالبراكين تتفجر بداخله وبالنيران تحرقه إلى مالا نهاية.
التنقل بين ماضي شخصية لي وحاضرها يحصل أغلبه بنصف العمل الأول، ليس الغرض فقط التعريف بالشخصية وماضيها وعقدها، بل يبدو إن الغرض الحقيقي هو تصوير حالة الانتقال التدريجية من شخصية تعيش اسيرة الماضي إلى شخصية تحاول بصعوبة أن تعطي نفسها راحة من هذا الماضي لتلتفت لمسؤولياتها المفاجأة التي رميت عليها في الحاضر، المشهد العظيم حين يعلم لي أن أخاه ترك له في وصيته مسؤولية الاهتمام بابنه بعد وفاته يلخص ذلك بأقل حوار ممكن، يترك مجال كبير للصورة ليشرح الأمر، ملامح كيسي آفليك المذعورة والموشكة على الانفجار حين يخبره المحامي بذلك، ثم قفزات المونتاج العظيمة إلى الماضي إلى اللحظة المفصلية الصادمة بحياته تجعلنا نشعر به يقول : (هل فعلاً أنا قادر على هذا؟) تجعلنا ندرك إنه يقول لنفسه إنه على وشك أن يتسبب بكارثة جديدة، وإنه إن رضي سيكون بمواجهة مع كل الآلم الذي هرب منها، مع ماضيه الموجود في كل شارع وزاوية في البلدة وفي نظرات الناس المعذبة له، مع اضطراره على أن يلتقي صدفة بزوجته يومياً ولو بشكل عابر في شوارع البلدة الصغيرة والتي ستفجر له يومياً نزيف جروحه الغائرة، ولكن حين يستمر الحوار مع المحامي ويدرس مع لي كل الخيارات الأخرى غير الممكنة للاعتناء بابن أخيه ثم يعطيه المحامي الخيار بالتنازل عن الوصية يقول لي : (إذا من سيتولى أمره؟) هنا يدرك لي إنه لا يوجد حل آخر، إنه عليه قبول هذه المسؤولية وتحمل كل ما ستجره معها من عذاب، استمرار المشهد الاسترجاعي للكارثة بعد قبول لي المسؤولية يجعلنا نلمس أبعاد أخرى لعذابه، هذا شخص لا يحاول الهرب من شيء، منذ اللحظة الأولى كان يدرك إن كل شيء خطأه بالكامل، ولكن عذابه الأكبر إنه لم ينل العقوبة التي يستحقها، إنه نجى من غلطته الكبرى، وربما تركه مع ضميره وأشباحه كانت هي العقوبة الحقيقية، العقوبة الأشد قسوة وفتكاً، فمهما حاول الابتعاد بقيت تلك الذكرى والأشباح يلاحقانه، يحملهم معه في كل مكان يذهب إليه، في البداية كانت محاولة لاستمرار الجلد الذاتي، ولكن حين عاد إلى منزل أخيه ووضع الصور تحت مرآة عينيه أنتقل الأمر ليصبح مثل بطاقة الإنذار، تذكرى حتى لا يكرر الخطأ مجدداً.

وفاة جو يحدث ثورة بحياة لي غصباً عنه، يبدو هناك صدام بين حياة باردة روتينية معزولة يعيشها لي وبين حياة يعيشها باتريك مليئة صخب المراهقة، الصداقة الفرقة الموسيقية الفتيات الرياضة، يتعامل لي بدايةً بشيء من عدم الاكتراث اتجاه أبن أخيه ولكن رويداً يبدأ يدرك إن هذا المراهق هو مسؤوليته ورويداً يبدأ بتقبل هذه المسؤوليات ومحاولة ممارستها ووضع شيء من  الانضباط بحياة المراهق والأهم التعامل مع آلمه، باتريك أيضاً لديه آلم خفي مع تخلي والدته السكيرة عنه حين مرض والده وإضطرابات مرحلة المراهقة، هناك الكثير مما يمر به هذا الشاب في سن صعب يسبب لديه عوارض غضب و جموح، باتريك كما لي يتعامل مع آلمه بصمت، يخنقه بداخله ولا يتحدث عنه كثيراً، باتريك لا يعرف كيف يتعامل مع موت والده، لا يعرف كيف يعبر عن حزنه، يؤلمه الشوق لوالدته ويريد استغلال موت والده للتواصل معها، لي عليه أن يتعامل مع كل هذا وتربكه رغبة باتريك بالتواصل مع والدته مع مخاوفه من عدم أهليتها لترعاه، لي عليه أن يخترق حياة باتريك أن يستخرج ألمه ويجبره على مواجهته والإفصاح عنه والتعامل معه، ولكن كيف يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه؟ كيف يمكن للي الكابت لألمه أن يجبر باتريك على أن يفشي عن مكنوناته وشيطانه وأسراره ويتعامل معها، بالمقابل باتريك يدرك ما يعانيه عمه من آلام حين يرى الصور بغرفته، ولكن لا سنه ولا خبرته تؤهلانه للحديث عن الموضوع، وطول فترة بقائهما معاً لا يتطرقان لأزمة لي بكلمة واحدة، العمل يقوم على هذا الأساس، على عدم المواجهة المباشرة، على اللف والدوران حول الحدث، ما تعيشه الشخصيات يشعر المشاهد بقسوته وفظاعته ولكن لا يراه، هو متواري تحت السطح والشخصيات تخفيه بأحاديث ومشاكل ثانوية وهامشية، كتعبير باتريك عن حزنه لموت والده بالتذمر من بقاءه بالثلاجة وعدم دفنه وانهياره حين يرى الدجاج المجمد في الثلاجة، والشجار الدائم على مكان السكن وإصلاح القارب، والآلام الداخلية الخفية لا تقتصر على الشخصيات الرئيسية، يبدو إن العمل قريباً جداً للمشاهد حين يرينا إنه حتى الشخصيات الثانوية لديها آلامها، أو إن أوجاعها متصلة بشكل أو بأخر بالمأساة التي جرت – وهي مآساة صادمة جداً هزت أركان هذه البلدة الهادئة - ولكن جميعاً يريدون تجاهل الحديث المباشر عن الموضوع، كشخصية والدة باتريك، والتي رغم تجاوزها لمشاكل إدمانها الخاصة والحياة المستقرة التي تعيشها مع صديقها المتدين ولكن مشاعر الذنب تجاه ابنها تؤرقها، في مشهد الغداء تبدو رغم تحضيرها الممتاز للغداء ولكنها مضطربة ولا تعرف كيف تتعامل معه، ليست مستعدة بعد لمواجهة أخطائها بحقه والتصالح معه والغفران لنفسها على ما ارتكبته، تبدو القضية مرهقة جداً لها وهي التي اجتهدت حتى تحقق هذا الاستقرار المعيشي، لذلك فلا تستطيع تحمل مسؤوليته بعد وفاة والده، بل لا تستطيع حتى مواجهة باتريك ويتولى المهمة خطيبها، مما يزيد من آلام باتريك تخلي والدته عنه مجدداً ويكبت ذاك بنفسه والشاب لوكاس هيغز يقدم أداء صادم جداً لشخصية شاب مراهق تمر بكل تلك الآلام باكراً وتكبتها وتتعامل معها بصمت مؤلم جداً.
الفيلم يفتتح بمشهد لجو ولي و باتريك على قارب العائلة في رحلة صيد، مشهد مليء بالنقاء والسعادة الصافية، حيث إن كل الأمور تمشي بخير، ويتكرر المشهد مجدداً في المنتصف، في نهاية العمل هناك مشهد آخر على القارب، ولكن بدون جو هناك جورج صديق جو القديم والذي يتولى جزء كبير من الاهتمام بباتريك وله دور ممتاز بحياته، هذا هو المشهد الوحيد الذي يبتسم به لي، يبدو إنه استعاد شيء من الإحساس القديم بالصفاء والراحة، مشهد عثر به على حل لمأزقه بتحمل مسؤولية باتريك لذلك كان خياره القادم بالاعتماد على جورج للتحرر من المسؤولية وليستطيع هو أن يتابع حياته بعيداً عن الجحيم في هذه البلدة، يبدو إن خيار لي ليس للهرب وإنما ضرورة فهذه البلدة لم تنسى غلطته القديمة ولن تستطيع مسامحته، ومشهد مصادفته لزوجته بالطريق والآلم الحارق الذي فجره حوارهما العابر في الشارع يجعلنا ندرك إنه لا مكان للي هنا، لن يستطيع الاستمرار بهذه البلدة والعيش بها مجدداً، لذلك فالخيار اللاحق الذي يتخذه هو الأفضل له ولكل الشخصيات.

مشهد لقاء لي مع زوجته راندي عظيم، هو ربما المشهد الوحيد الانفجاري الواضح، ميشيل ويليامز تعطي الكثير في هذا المشهد و لا يجعلنا نستغرب كم الجوائز والترشيحات الذي نالته، - رغم إنه مشهدها الوحيد الطويل بالعمل الذي لم يتعدى ظهورها فيه كاملاً أكثر من ربع ساعة تقريباً - في هذا المشهد تفجر راندي آلام سنين طويلة احتوتها، القلب المكسور الذي لا يمكن له أن يجبر مهما حاولت الظهور إن الأيام عافتها وعوضتها، شعورها بالذنب اتجاه لي إنها حمّلته وحده مسؤولية الكارثة التي حدثت، أحاسيس الحب التي ما زالت تكنها له، هي لم تتركه لأنها تكرهه، وهو لم يكرهها أيضاً، ولكن ما جرى جعل من استمرارهما معاً مستحيل، راندي حبست هذه المشاعر لسنين، ثم رمتهم دفعة واحدة بوجه لي، الحوار بهذا المشهد عظيم، جمل مجتزأة كلمات مخربطة وغير واضحة، الكثير من الدموع الحقيقية، حوار يدور بفوضى حقيقية واقعية، راندي والتي تبدو وكأنها كانت تستعد للقائها لي وتتمرن بينها وبين نفسها على ما يجب أن تقوله أضاعت كل شيء بتلك اللحظة، اللحظة كانت أكبر من قدرتها على الاحتمال، أكبر من قدرتها على التقنع بمظهر القوة، انهارت لأنه يجب عليها أن تنهار، لأنها احتاجت لهذا الانهيار حتى تصل لمصالحتها الخاصة مع ذاتها، لي بالمقابل كان يتلقى سكين جديدة في قلبه، مواجهته المباشرة مع انعكاس الذنب الذي يحمله من خلال راندي دمرته، أصبح لذنبه شكل حي يلاحقه، يعتصره، يواجهه وينبش جروح ماضيه بعمق، والأسوأ إنه يسامحه ليزيد ذنبه مرارةً، يذكره بكل شيء كان يملكه وخسره بلحظة إهمال، وجه كيسي أفليك بهذا المشهد مرعب، الشخصية تحتقن، تعتصر، تتبعثر وتتشتت لآلاف القطع ولكن بصمت، إنجاز عظيم وغير مفهوم كيف تمكن كيسي أفليك من احتواء ثقل هذا المشهد وصعوبته بهذا الصمت والتزمت القاسي، إنجاز يجعل الحديث عن كل الجوائز والمديح الذي ناله أمراً سخيفاً جداً حين ننظر إلى عظمة الأداء بهذه اللحظة.
قي العمل لا يوجد ما يمكن عده حل للعقدة أو مصالحة في النهاية، الشخصيات تمضي وتستمر بحياتها مع أحزانها، تحاول فقط أن تتقبلها أكثر، أو أن تجد طريقة لتمضي حياتها مع آلم أقل، الشخصيات ستنجو ، ستتغير، هذا شيء أكيد، ولكنه لن يحصل ضمن العمل، قيمة الأعمال العظيمة إنها تشعرك أن للشخصيات حياة تستمر حتى بعد انتهاء العمل، إنك كنت ضيفاً مؤقتاً عليها لفترة معينة ثم أنت رحلت عند نقطة معينة ولكن الشخصيات مستمرة بعد زيارتك لها بالحياة، وأنت كمشاهد تدرك إنها ستستمر برحلتها وربما ستنجو مما هي فيه ولكن عملية الشفاء ستأخذ وقتاً أطول لن تكون أنت فيه موجود ولكن ستدرك إنه في النهاية سيحدث، فأنت وضعت الشخصيات على مقدمة طرق طويل ثم تركتها لتتابع حياتك ولتتابع حياتها هي أيضاً لتتابع رحلتها بعيداً عن مراقبتك لها.



0 التعليقات:

إرسال تعليق