RSS

Ghost in the shell -1995



بعد سلسلة طويلة من متواليات الأكشن التي قطعتها مشاهد تأملية تتحدث بها الشخصية الرئيسية موتوكو عن هواجسها حول ذاتها، يعطينا (مامورو أوشي) مشهد استراحة طويل بعض الشيء على خلفية موسيقية عظيمة وتصميم رسومي مذهل لنتأمل بشكل أوسع العالم المستقبلي الذي صنعه والذي تدور ضمنه الأحداث ، يبدو التصميم الذي يقدمه أوشي أشبه لعالم من الأموات ، جموع عديدة تسير وتعيش كأشباح، شعلة روحها تخبو وانطفأت بداخل الكثيرين، العالم من حولها يبدو بارداً أصماً كئيباً ، عالم قوي الأركان بالظاهر وراسخ ولكنه يتداعى بخفاء وصمت ، هو على ما يبدو عالم ينتظر موته الأخير ليحظى بقيامة جديدة وبداية جديدة ، هو ليس مشهد تحذري لمستقبل البشرية بقدر ما هو تنبؤي لمرحلة ما بعد نهاية البشرية ، في فيلم أوشي البشرية انتهت وما نراه هو المرحلة الانتقالية نحو الحقبة الجديدة ، مخاض عهد جديد ليس للبشرية به وجود سوى بشكل ظاهر ، نقلة تطورية أخرى ستتيح لعرق أكثر تطوراً الهيمنة على العالم.


توقيت عرض هذا الفيلم يبدو إنه صدى لروائع ثمانينية ناقشت فكرة هيمنة الآلة بشكل السايبورغ على الحياة البشرية، سكوت قدم رائعته Blade runner  عام 1982 عن تساؤل إدراك الآلة لذاتها ونمو الروح بداخلها، كاميرون قدم The Terminator  عام 1984 عن مصير أسود ينتظر البشرية بعد اكتمال ذاك الوعي لدى الآلات، وهذين العملين مع أفلام مثل  E.T لسبلبيرغ و Aliens   لكاميرون أيضاً وثلاثية Back to the Future   لزيميكس و The Thing و Starman  لكاربينتر و The Predator لماكتيرنان وغيرها جعلوا من الثمانينات عقد خيال علمي ذهبي، فيلم أوشي تأخر عنهم عقداً كاملاً ليظهر  إلى النور بمنتصف التسعينات (عقد آخر شهد عدة أعمال خيال علمي ممتازة أيضاً) عرضه كان في نفس عام Toy Story فيلم بيكسار الثوري وبعد عام على كلاسيكية ديزني Lion King وربما لذلك لم ينل في تلك الفترة الاحتفاء الضخم المستحق كرائعة أنيميشن معاصرة بالأخص مع مضمون الفيلم الجاد جداً غير المناسب للعائلة في حقبة كان بها استديو غيملي الياباني العائلي هو المهيمن على الساحة، ومع ذلك الفيلم استطاع مع تتالي السنوات أن ينال نصيبه المستحق ككلاسيكية أنيمي وخيال علمي حقيقية، وربما هو فعلاً من أفضل الأعمال التي انتجت ضمن الصنفين .
أوشي صنع ضمن فيلمه بذكاء وقوة حبكة ممتازة ومشوقة جداً يبحث من وراءها ليس فقط عن فكرة نمو الإدراك الذاتي لدى الآلات والذكاء الصنعي بل يهتم بمناقشة فكرة الروح بعموميتها ، مفهومها الحقيقي، يطرح سؤال صعب عن ماهية الوجود الحقيقية وعن معنى الروح، عن ما يجعلنا بشر وما يميزنا، ينظر بشكل متشاؤم ومستغرب إلى سعي الإنسان الجنوني للكمال واكتساب أكبر قدر ممكن من القوى والمعارف ويبحث عن أثار هذا الهوس الجنوني ليس فقط على منظومة هيكلية البشرية وعلاقات الدول بين بعضها، هذا كله يتجاهله، بل يبحث عن تأثيره على الروح البشرية، ينظر إلى حالة الاغتراب والفراغ التي يعيشها البشر بسبب تلك القوى وكم المعارف الهائلة التي اكتسبها ويتساءل هل كينونة الإنسان قامت على كونه محدود القدرات والقوى؟، هل ما يجعلنا بشراً هو أحساسنا بضعفنا وخوفنا الدائم على موقعنا وشعورنا بعدم الأمان ضمن عالم أكبر منا وطموحنا وسعينا المستمر للتطور – من دون أن نصل للتطور الكامل – ؟ وهل المشاعر الإنسانية والذكريات هي القوقعة التي تحمينا والتي تحدد ذاتنا ؟، وينتقل إلى سؤال أخر هل تمام الكمال البشري واكتساب قوى ومعارف لا محدودة حيث يصبح الإنسان كائناً خارقاً بلا نقطة ضعف هو بحد ذاته نقطة ضعفه الجديدة القاتلة؟ .

أسئلة عديدة عميقة طرحها العمل عن معنى الإنسان والروح والاستمرارية، يوجه صفعة قوية للإنسان حين يطرح السايبورغ أسئلة ونظريات معقدة على البشر ويقارن بينهم وبينه، يتساءل إنه طالمة كسب الوعي الذاتي فما الذي يجعله أدنى من البشر ويجبر على خدمتهم ولا يستحق أن يعامل على سوية بهم؟، هل هي الذكريات والخبرات ؟ كيف ذلك ممكن وآلية عمل الذاكرة الآلكترونية لم تعتد تختلف عن آلية عمل الذاكرة البشرية وفي زمن متطور كالذي يدور بضمنه زمن الفيلم لم يعد من الصعب استخراج الذكريات البشرية كاستخراجها من الآلات، هل هي المشاعر الإنسانية؟ كيف من الممكن أن تميز المشاعر البشرية في زمن أصبح فيه من الممكن زرع المشاعر والذكريات وعواطف حقيقية لدى الآلات؟، هل هي الحياة؟ الروح؟ كيف يمكن أن تميز الروح البشر عن آلات مكتسبة وعيها الذاتي وتدرك وجودها بمفردها طالما إن مفهوم الروح البشرية ليس واضح علمياً بعد؟ الآلة تملك الجواب، ما يميز البشر عن الآلات هي (النواقص) نقاط الضعف البشرية، وعلى رأسها الموت، عدم خلود البشر وتحديد وجودهم بمرحلة زمنية معينة، تلك المحدودية هي ما تمييز الإنسان (الضعيف) عن الآلة (الكاملة) والآلة أدركت إن الكمال هو نقطة الضعف الحقيقية الذي يجعلها مقيدة ومحددة وغير قادرة على اكتشاف ذاتها بالكامل ومعرفة حدودها القصوى – حيث حدودها مرسومة وواضحة – أما وجود الضعف والجهل يجعل من حدود الإنسان هلامية ، موجودة ولكن غير معروفة ، (على عكس الآلية التي تدرك حدودها مسبقاً) وسعي الإنسان إلى اكتشاف هذه الحدود ، السعي إلى أعلى درجة ممكنة من النجاح والتطور والقوى والمعرفة، هو ما يجعله حياً، الطموح والجهل وتوازيه مع رغبة كسر الجهل هو ما يميزه عن الآلة التي لم تعد تعرف غاية لوجودها بعد أن أدركت حدودها وكسبت القوى الكاملة والمعارف الكاملة سوى أن تكون خادم للإنسان الأضعف منها، لذلك فهي تريد كسر هذا الكمال، العودة لدرجة النقصان، حتى يصبح لوجودها غاية يحددها هي ويخدمها هي لا يخدم وجود كائن أخر.
الآلة أدركت إن مجرد الموت لا يكفي، الموت يقترن دوماً بالإنبعاث، التوالد البشري وسيلة حقيقية للخلود ولصنع كائنات أكثر تميزاً وفريدة ومتطورة، تتابع رحلة الإنسان الأول للاكتشاف والتطور، الآلة تدرك إن الوجود البشري ليس منعزلاً عن مسيرة الإنسانية كاملة، وجود الإنسان هو لإكمال رحلة والديه وسابقيه باكتشاف حدود وغاية الوجود، هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق بالاستنساخ الذي تخضع له الآلة، حيث التجربة بأكملها محدودة وتعاد منذ البداية، ليصبح للآلة وجود حقيقي ينازع الوجود البشري يجب أن تحظى بتجربة الولادة، أن تظهر آلات جديدة من خلايا آلتين تحمل ميزات ونقاط ضعف سابقيها وخبرتها ومخاوفها وطموحاتها وتستمر بمسيرة من سبقهم، آلة جديدة لها وجودها المميز حتى عن القديم، ولذلك فإن وجود شخصية موتوكو والعقدة التي تعاني منها في العمل ليست مجرد حبكة درامية ونظرة للآلة التي أدركت وجودها ولم يعد الكمال الآلي يكفيها وأصبحت تسعى لتكون أكثر بشرية (أو بالأحرى أن تعود أكثر بشرية) والمصير الذي اختارته، أن تموت وأن تتحد بكائن أخر لتظهر كائن جديد هو انتصار لفكرة العمل، إن الموت وما يحمله من معانى النقصان والولادة وما تحمله من معانى التجدد هو جوهر الحياة البشرية هو كينونة الوجود الحقيقي الذي يجهله الإنسان ويسعى لاكتشافه.

أوشي صنع حبكة شخصية متماهية تماماً مع الحبكة والفكرة العامة، بناء شخصية موتوكو ممتاز جداً، عن الآلة التي تتسائل حول حقيقة إدراكها لذاتها، وحول حقيقة هذه الذات، موتوكو تدرك إنها بالأصل جسد بشري تطوعت بالقسم التاسع ليعطوها ميزات آلية عقلية وبدنية تجعلها أقوى وأكثر كمالاً مع احتفاظها بوعيها الذاتي وذاكرتها وتسخيره للمهمة الموضوعة من أجلها – كحال جميع البشر في ذلك الزمان الذي وصل حد هوسهم بالكمال بالتضحية بذواتهم باستثناء أصحاب المراتب العلية والقادة الذين يدركون إن بشريتهم على ضعفها هي مفتاح هيمنتهم وسيطرتهم على آلات السايبورغ الكاملة -  هذه الشخصية تعيش شكل متطور من أزمة الإنسان المعاصر،  الشعور بتضاؤل الكينونة البشرية مع طغيان الحضارة الصناعية والتطور التقني المعرفي، الشوق للبساطة الإنسانية ولكن عدم القدرة على الاستغناء عن الكمال التقني وهذه القوى العظمة التي تجعل الإنسان يدمن عليها ولا يعد يستطيع تخيل حياته بدونها، كحال الإنسان اليوم الذي يحن ويتغنى بأيام كانت العلاقات أبسط والحضارة أبسط والحياة أكثر لذة بمحدوديتها ولكنه في نفس الوقت لا يستطيع ولا يتخيل حياته بدون ميزات الحضارة الحديثة، ومن هنا يبدو توقيت عرض العمل بمنتصف التسعينات مع غزو الكمبيوتر لكل بيت وإرهاصات هيمنة الشبكة المعلوماتية والهواتف المحمولة على الحياة الحديثة ممتازاً جداً، يبدو هنا تنبؤياً جداً بأزمة وجودية حديثة يعاني منها إنسان اليوم.

شخصية موتوكو تعاني من أزمة أخرى وهي شكوكها حول إدراكها الذاتي، فلم تعد تثق بالذكريات القديمة التي تميز وجودها البشري وتحدد أدراكها ، هل هي فعلاً عاشت تلك الحياة وهل تلك الذكريات حقيقية أم إنها مجرد بيانات زرعت بنظامها لتعمل بكفاءة أكثر؟، هذه الشكوك وذلك الشوق لتكون أكثر بشرية يحددان الشخصية ويقودانها، تندفع بعملها بعنف أكثر، وتتحين كل الفرص وتخاطر بذاتها (كالسباحة بعمق المحيط) لتطرد عن نفسها شعور الثقة بكمالها وتشعر بشيء من الخوف وعدم الأمان والأمل بالنجاة، شخصية موتوكو أدركت دون أن تدري حقيقة الكينونة البشرية إنها ترتكز على النواقص والخوف والعجز والحاجة للأمان والأمل بتجاوز هذا العجز لتحطيم كل قيد وإكتشاف حدودها، وهذا الأدراك يصبح كاملاً حين تطارد سيد الدمى، تكسر كل الحدود الموضوعة لها وتضحي بكمال وقوة جسمها الآلي لتصل لغايتها لأنها أدركت إن الإجابة بالكامل حول ماهية وجودها وغايته وحقيقته هو عند سيد الدمى لتتحد معه بالنهاية، تعثر على ذاتها حين تبيد وجودها (الموت) وتندمج معه ليصنعا الكائن الجديد (الولادة والاستمرارية) فتصبح كائن جديد مستقل الوجود ولديه الكثير الذي يجهله وعليه معرفته واكتشافه، و أوشي يبدع أن لا يجعل الأمر حالة فردية، هذه الهواجس موجودة لدى كل أجهزة السايبورغ، لذلك فحين يغطي شريك موتوكو على حقيقة مصيرها ويختار لها جسد طفلة صغيرة فهذا ليس مجرد مصادفة، هواجسه ومخاوفه ورغبته كسايبورغ بتحقيق الكمال البشري الحقيقي دفعه ليناصر صديقته ويجعل لسعيها قيمة ويساهم بنجاحه.

مع الأفكار العظيمة التي يناقشها العمل فإن أوشي يكمله بأن يجعله متكاملاً من حيث البيئة والأحداث وبلا أي ثغرات – كحال كل كلاسيكيات الخيال العلمي عظيمة – هناك عالم مستقبلي كامل يصنعه بكل تفاصيله وقوانينه وآلاته وتقنياته حتى بفلسفته وأزماته الوجودية، عالم ينبض بالحياة يقوم على علم مستقبلي متكامل وفلسفة كاملة، خيار الأنيمي هنا مذهل لكسر الحواجز التقنية لصنع عمل مستقبلي بهذه الصعوبة والخيالية ووصول لمشاهد الحركة – المبهرة جداً – إلى أقساها، كما إن خيار الأنيمي يعطي العمل طابعاً أكثر مستقبلية وخيالية، ورغم هوية العمل كأنيمي ولكن الرسم المتقن بالأخص لملامح شخصيات تعاني من أزمات وجودية صعبة كان متكاملاً جداً وحياً رغم إن صناعة الأنيميشن ليست على مستوى تطور اليوم ولكن أوشي قدم نتيجة فوق الممتازة.

في الزمن الذي نعيش فيه حالياً عصر سينما خيال علمي ذهبي جديد عصر افتتحه بيتر جاكسون وجيمس كاميرون عام 2009 بإنتاج الأول لفيلم District 9 وإخراج الثاني لـAvatar  ثم تتالت السبحة فرأينا Inception – Looper-Her-Under the Skin-Ex Machina  وغيرها وهاهو حديثاً فيلم  Arrivals   يحصد الثناء العالي كأحد روائع الخيال العلمي المعاصرة، في هذا الزمن كان اعادة انتاج هذا العمل وكلاسيكية أنيمي خيال علمي أخرى شهيرة  ( أكيرا ) مجرد وقت، مشروع أكيرا مطروح من قبل كريستوفر نولان ولكنه يتعرض دوماً للتأجيل في حين The Ghost in the shell وجد طريقه للنور على يد ريبيرت ساندريس الذي سبق له وأخرج الفيلم الفنتازي Snow White and the Huntsman وبطولة سكارليت جوهانسون وسنراه عام 2017 ، رغم شوقي للمشروع ولكن اسم المخرج ليس مغر بالنسبة لي، هذا عمل يناسب ريدلي سكوت أو جيمس كاميرون أو ألفونسو كوران ولكن ذلك لن يمنعني من أرفع أمالي بأن ساندريس من الممكن أن يخفي أكثر مما يظهر ومن الممكن أن نحظى بريميك ممتاز على مستوى هذه الرائعة.
مشهد المعركة الأخيرة المبهر يدور بمتحف العلوم المهجور، الآلة التي تدافع عن سيد الدمى تحطم عظام  دينصور، والرصاص يخترق منحوتة تمثل شجرة التطور البشري، رسالة بصرية من أوشي حول أنقراض الجنس البشري وحلول كائنات أخرى أكثر تطوراً على سلم الهيمنة، الجسدان اللذان يتحدان هما جسدا أنثى والولادة تتم من خلال الموت، هنا أوشي يقول إن العالم الجديد لن يكون أبداً كأي شيء نعرفه ولن يكون لنا مكان فيه

10/10


0 التعليقات:

إرسال تعليق