RSS

Mulholland Dr – 2001 - أختبار رورشاخ السينمائي


قبل أسبوعين تقريباً أصدرت الـBBC قائمتها لأفضل 100 فيلم للقرن الجديد، وتصدرتها رائعة ديفيد لينش هذه متجاوزةً أفلام عديدة لا تقل عنها شهرةً ومديحاً بين الجمهور والنقاد مثل There will be blood أو The Dark Knight  أو The Tree of life أو Boyhood ورغم ذلك فهذه هي المرة الأولى أو من المرات القلائل التي يتقبل بها الجمهور الخيار الأول بلا أن يثير ضجة أو اعتراض، قبول وترحيب تام بل وشبه إجماع على هذا الاختيار، حتى بالنسبة لي ورغم إني لا أعتبر العمل الأول بالنسبة للقرن أو حتى بسنته (أفضل عليه عقل رائع وأميلي بولان) فلم أشعر أبداً بغضاضة لاختياره كأول، فهو واحد من الأعمال الإبداعية الحقيقية التي تجسد مفهوم السينما كمصنع للأحلام، كفن يقودنا إلى مجاهل وخبايا في نفوسنا وعقولنا لا يمكن اختبارها، فيلم يجسد السينما الحقيقية التي تسعى أن تبقى مع الجمهور حتى بعد انتهاء عرض العمل، أن تحفزه وتثير أفكاره وخواطره وتجبره على التفكير والتحليل والنقاش وتحصل على خلودها من أصالة وذكاء أسئلتها ، ديفيد لينش الفنان صاحب العقلية المختلة ، مبدع بفن إثارة جنون المشاهد وزرع الفرقة والخلاف بين متابعيه حول تفسير أفلامه وصل بفنه هذا للذروة وصنع نتيجة فوق الإبداعية.



الفيلم ككل الأفلام العظيمة له قصة نجاح جميلة ، صعوبات بالصناعة انتقال من مسلسل تلفزيوني قصير إلى فيلم محدود التكلفة ، ضجة وجدل حين عرضه في كان انتهت بتتويجه بجائزة أفضل مخرج وانقسام حاد بين النقاد حوله لم يمنعه من نيل ترشيح أوسكار للإخراج، وشهرة وعظمة تراكمية مع تتالي محاولات تفسيره وتحليله من النقاد والمتابعين صنعت له قيمة خاصة واحترام حقيقي من الجمهور جعلته يرتقي ويتقدم في قوائمهم حتى أصبح الرقم واحد بحقبته، وقدرته على إثارته الأسئلة والفوضى النقاشية التي أحدثها تجعله يقع في خانة كلاسيكيات مثل أوديسا الفضاء وبلايد رينر (وهي أيضاً أفلام تعتبر الأفضل في زمنها للستينات والثمانينات) ، فكما أسال لوح كوبريك الأسود الأصم حبراً كثيراً حول ما حقيقته وما مغزاه وما يكتنف ورائه من أسئلة وجودية كذلك فعل صندوق لينش الأزرق ومفتاحه وعفاريته وناديه الصامت، ولينش مثل أستاذه – وأستاذ كل من جاء بعده – كوبريك لم يعطي تفسيراً لشيء، أحترف صنعة الإبداع بالصمت أو الغموض، وأبدع بهذه الصنعة، وأصبح فيلمه كلاسيكياً حقيقياً ليس من حجم الأسئلة والغموض الذي أثاره بل من كمية الإجابات والتفسيرات التي أحاطت به، محققاً غايته التي صنع من أجلها، أن يجعل الجمهور يفكر ويعتصر خلايا دماغه، ولا يصل للجواب بل يتعرف من خلال التفكير على نفسه أكثر ويرتقي بعقله أكثر، فهو باعتقادي تجسيد سينمائي لاختبار رورشاخ، لطخة حبر على صفحة بيضاء كل إنسان يرى فيها تفسير خاص يعكس أفكاره ووعيه وفي النهاية بقعة الحبر العشوائية تبقى بقعة حبر عشوائية ومعناها يتحدد فقط من وجهة نظر المحدق فيها، وهكذا هو الفيلم مجموعة من اللقطات المتقنة غير المنطقية وأحياناً العشوائية المصفوفة بشكل منطقي خادع مع العديد من الثغرات المتعمدة والأمور غير المفهومة والخيوط المقطوعة لتثير تناقضات المشاهد وحيرته ، وحتى لا يستسلم الإنسان لتوتر الجهل بما لا يعرفه يخترع من عقله تفسيرات منطقية يطمئن إليها قد لا تعبر عن العمل – بالأصل لا يوجد تفسير كاف وصحيح للعمل – وهنا الفيلم يحقق غرضه كما قلت أن يجبر الجمهور على التفكير ويقوده نحو نقاش تعكس خبايا تفكيره ووعيه وأرائه.

بالنسبة لي أحب تفسير الفيلم على أنه حلم، ربما لأنني أحب الأحلام، أحب أن أبحث وراءها على تفسيرات نفسية وسلوكية من الماضي والحاضر وأحب حتى التفسيرات ما وراء الطبيعة، بل أنني حين شاهدت الفيلم لأول مرة كنت بصدد محاولة كتابة رواية عن الأحلام تعثرت طويلاً حتى أصبحت حلماً أنوي العودة له يوماً، وغيري يحب تفسيره على إنه ليس حلماً واحداً بل عدة أحلام وكوابيس متداخلة لعدة شخصيات وأخر يفسره على إنه عن حالة فقدان الذاكرة أو انفصام الشخصية، و هناك من يذهب إلى تفسيرات الخيال العلمي والأكوان الموازية أو حياة بعد الموت والبرزخ، بل إن هناك من لم يهتم لتفسير العمل ونظر له من زاوية أخرى، حين أعدت مشاهدة العمل مع شقيقي قال هذا فيلم عظيم عن تصوير الجنون الذي تخلفه الحياة الهوليوودية والسعي إلى الشهرة، وكل هذه التفسيرات لها أدلتها التي لا يمكن دحضها، بل إن العديد من المشاهد الجوهرية تحتمل قراءات متعددة.
افتتاحية العمل لعرض ثنائي راقص مستنسخ عدة مرات تداخل أشكالهما وحركاتهما مع ظلالهما وتظهر صورة بيتي / دايان (نعومي واتس) تملئ الشاشة وهي تنال تتويج ما برفقة عجوزين سيظهران لاحقاً على أنهما صديقين تعرفت عليهما أثناء سفرها من كندا إلى أمريكا، ثم سنراهما يضحكان بريبة ويختفيان طوال العمل ليظهرا في النهاية كعفريتين يقوداها للجنون والانتحار .
في القسم الأول من العمل كل شيء يجري بشكل غير منطقي ومختلق ولكنك لا تهتم لهذه الغرابة بل لا تلاحظها مع المشاهدة الأولى وتتقبلها تماماً وتمشي معها وتتابع فيها كما هي وكما يجري مع الإنسان وهو يحلم، ففي الحلم لا يلاحظ الإنسان غرابة الأحداث ولا يفكر فيها بل يتقبلها ويمشي معها للنهاية وبعد أن يعي إنها حلم يبدأ بتفسيرها وتحليلها واكتشاف عدم منطقيتها.

بعد محاولة قتلها الفاشلة تلجأ الشخصية المجهولة الاسم (ريتا كما تسمي نفسها لاحقاً و كاميلا في القسم الثاني تؤدي دورها لورا هارينغ) إلى منزل عمة بيتي في جادة سانسيت (اسم الفيلم الشهير عن ممثلة هوليوودية معتزلة منفصلة عن الواقع لدرجة تقودها للجنون في النهاية ولا أظن إن الاسم اختاره لينش اعتباطاً)، العمة تنقل أغراضها استعداداً للسفر، يلاحظ المشاهد إنها انتبهت لدخول ريتا للمنزل ولكن فيما بعد يكتشف إنها لم تراها (هل هذا يعني إن ريتا شبح ؟ أم إن لينش عمداً صنع قصة مختلقة بتفاصيل ركيكة) تلتقي ببيتي القادمة من كندا متفائلة بحياة جديدة تملؤها النجومية والتي يبدو كل شيء يسير بحياتها مثالياً، وتنشأ العلاقة بين الشخصيتين سريعاً وضمن انسجام يبدو غير منطقي بشكل متعمد تتقبل فيه بيتي غرابة وضع ريتا بل وتساعدها بمحنتها لاكتشاف حقيقتها، ولينش منذ مشاهد لقاء بيتي الأول لريتا العارية يملئ فيلمه بإشارات متعمدة إلى أين ستنتهي علاقتهما ، بيتي تعثر على كل شيء فوراً المسكن الفاره الصديقة التي تتحول لعشيقة تحتاجها وتشعرها بتفوقها، المغامرة المشوقة، كل شيء يسير وكأنه حلم يتحقق، يكمل لينش ذلك بالنجاح السريع جداً لمسيرتها التمثيلية – والغريب إن لينش ينتقل من محور التحقيق الغريب وغير المنطقي حتى بتفاصيل حل ألغازه إلى محور النجاح الصاروخي لمهنتها والأغرب إن المشاهد منسجم مع كل هذا ولا يشعر بالغرابة –
مشهد تجربة الأداء لبيتي هو من أكثر المشاهد غرابة ، في البداية تتدرب بيتي على الدور مع ريتا وتبدو سيئة جداً بنص سيء ومنعدمة من أي موهبة ولكن حين تؤدي التجربة مع فريق العمل تقدم أداء مذهل جداً وكأن شخصية أخرى أدت التجربة وتنال المديح والترحاب والتقدير وتحصل فوراً على الدور (أمر مثل الحلم تقضي يومين في هوليوود فتحصل على دور بطولة رئيسية)

وحين يعرض لنا لينش بيتي وهي تعيش الحلم يقدم لنا شخصية المخرج آدم (جستن ثيروكس) وهي تعيش كابوس حقيقي، وحياته تنهار – خلال يوم واحد – من سيء لأسوء وكأن كل شيء لعنة حلت عليه، يجتمع مع المنتجين (وبشكل غير منطقي أحضر معه مضرب غولف) ممثلي شركة الإنتاج غريبين ومريبين ككل شخصيات لينش المحببة بأفلامه ، ومدير الشركة معهما مباشرةً على الهاتف ويزيدهما غرابة وريبة،  والاجتماع يأخذ منحاً مافياوياً غرائيبياً مختلاً، وتسير الأمور بشكل غير منطقي ولكن المشاهد منسجم مع الحدث و لينش يصنع تلك المشاهد بطريقة مثيرة للاهتمام ومحببة للمشاهد رغم عدم انتمائها للمنطق، يريدان فرض عليه ممثلة تدعي كاميلا ولكنه يرفض ويحطم سيارتهما، ثم يعود إلى منزله ليكتشف أن زوجته تخونه مع شخص رياضي يبرحهه ضرباً ويطرده من منزله، ويلاحقه قاتل مأجور من الشركة، ثم يقابل العقل المدبر، الكاوبوي الغامض المريب، بلقاء مافياوي أخر ليجبره على قبول الممثلة في فيلمه.
غرابة أحداث العمل ليست فقط متعلقة بالشخصيات الرئيسية، هناك العديد من المشاهد الغريبة غير المترابطة والمتناثرة والتي تشكل خيوط دراميا حرص لينش على بترها ليثير جنون المشاهد، وكأنه حين كان يكتب العمل كان يغرق منهكاً في النوم ثم يستيقظ ليدون أحلامه ويعود في الصباح ليصيغها على شكل صفحات نص سينمائي، فنرى في بداية العمل مشهد لشخصيتين في مقهى لا نعرف عنهما أي شيء ولكن شكلهما يوحي بأن أحدهما مريض نفسي والأخر معالجه، يخبر المريض المفترض معالجه المفترض أنه يعاني من كابوس رؤية شخص بوجه مرعب خلف المقهى ويتمنى ألا يقابله في الواقع ، يبحثان خلف المقهى فيظهر الوجه المرعب، المريض يراه و يخر صريعاً ولكن المعالج لا يراه ، هل يعني لينش بهذا إن فيلمه عن عالم الأحلام والكوابيس وكيف إن سيطرتها على عقل الإنسان تدمره؟ أم إنه عن سلطان الوهم وكيف يقتل صاحبه؟ أم كلاهما معاً ؟ فالأحلام حقيقةً ليست سوى أوهام وآمال ومخاوف مكبوتة ومختبئة داخل عقل الإنسان ، وتختفي الشخصيتان بعد هذا المشهد حتى نهاية العمل ولا نتابع قصتهما.

هذه ليست القصة الوحيدة، هناك مشهد أخر طويل للقاتل المأجور الأبله سيء الحظ المكلف بتنظيف محاولة اغتيال ريتا وكيف تتعقد أموره بطريقة غريبة وغير منطقية ثم يختفي هو الأخر حتى يظهر في القسم الأخر من العمل ولا نعرف تفسيراً لما يجري معه، ولكن أغرب أحداث العمل هي طبعاً التحقيق الطفولي الذي تقوم به بيتي وريتا لمعرفة حقيقة ما جرى معها، كيف تقودها الأمور بسلاسة إلى منزل مادلين ويعثران عليها كجثة متعفنة مرمية ومنسية منذ أيام ويقبلان بهذا الحل دون أن يتابعا بالتفاصيل، بل وبطريقة غير معقولة تضع ريتا شعر أشقر لتصبح شبهاً لبيني، يمارسان الحب، ثم يذهبان للسهر في مسرح الصمت الذي تتحدث عنه ريتا بنومها.
مسرح الصمت فيلم لوحده، أحد أعظم واغرب المشاهد السينمائية وأجملها رسماً وتصويراً وديكوراً وتمثيلاً وألواناً وغنائياً، (لا يوجد فرقة، كل شيء شريط مسجل) هذا ما يقوله مقدم الحفل ويثبته، وعلى المنصة فوق المسرح هناك عجوز غريبة صامتة بشعر أزرق تراقب كل شيء بجلال، وتصاب بيتي برعشة وكأنها تتعرض لصعقات كهربائية ، تظهر مغنية تغني بصوت مبهر بالإسبانية، الشخصيتان لا تفهمان ما تغني ولكنهما تبكيان قبل أن تسقط المغنية ميتة ويستمر الغناء (لا يوجد فرقة كل شيء شريط مسجل) و تعثر بيتي بحقيبتها على الصندوق الأزرق الصغير فجأة الذي سبق وأن كان مفتاحه مع ريتا وتعودان لتفتحها، تخرج ريتا المفتاح فتلاحظ اختفاء بيتي ثم تختفي هي الأخرى، تعود الأحداث للماضي إلى حين مغادرة عمة بيتي الشقة ولكن بدون أن تكون ريتا موجودة فيها ويبدأ القسم الثاني من العمل.
القسم الثاني من العمل هو سر عظمته، بدونه لكان العمل بقي لوحات سريالية ممتازة، القسم الثاني هو السر والحقيقية، اللغز والجواب، في هذا القسم تكتشف أنك تشاهد حلم طول الوقت، أو أنك كنت تعيش الحلم دون أن تدري وعندها تبدأ بملاحظة عدم منطقية ما كان يحدث أمامك وتبدأ بتفسير هذا الحلم وأنت ترى الحياة الحقيقية لبيتي أو ديان بحقيقتها، وتربط بين الواقع و الحلم لتدرس آلية تشكيل الأحلام باللاوعي من مواقف حياتية جوهرية أو عابرة يعيد الإنسان خلقها كما تقبلها عقله أو كما يتمنى أن تكون ، ويلتقي بأشخاص بعضهم جوهري وبعضهم عابر ويسقطهم على حلمه ويعيد توظيفه بالشكل الذي يناسبه ، وهذا المستوى الأخر من الفيلم عظيم جدا ويضرب بصميم المشاهد ليس فقط لذكاء ربطه المتين جدا مع القسم الأول بل بقدرته على إدهاش المشاهد وإجباره أن يكتشف انه فعلا كان يعيش بالقسم الأول تجربة غرائبية لم يشعر بغرابتها إلا حين انتهائها وظهور تفسيرها وإن اللغز الذي كان يلاحق حله طوال الفيلم غير موجود لأن الفيلم بحد ذاته هو لغز .

في الحياة الحقيقية لبيتي أو دايان بالحقيقة (الجثة المتعفنة بالحلم) نراها ممثلة كومبارس مغمورة فقيرة ومضطربة كانت تعيش قصة حب مع كاميلا قبل أن تتخلى عنها لصالح المخرج أدم، وكاميلا هنا هي الممثلة المشهورة التي حققت نجوميتها بعد أن سرقت دور عمرها من دايان، كاميلا تتعمد إغاظتها وإثارة غيرتها مما يدفع دايان لقتلها بالاستعانة بالقاتل المأجور الأحمق الذي يعطيها علامة على نجاح مهمتها وهي المفتاح الأزرق، وبعد القتل تنهار دايان عقلياً أكثر تظهر لها العفاريت على شكل العجائز اللذين رأيناهما سابقاً واللذان يدفعانها للانتحار .
هذا القسم مليء لما يصلح تفاسير لما كان يجري، ويمكن تفسيره على أنه حلم، فالحلم مصنوع من أحلام وأمال وصدمات وشخصيات ثانوية وعابرة، فدايان ترى نفسها بالحلم إنها جثة متعفنة لأن هذه هي نظرتها عن نفسها في الحضيض الذي تعيشه، وترى إن كاميلا قد نجت من محاولة الاغتيال - وهي تتمنى ذلك بداخله -، وتعود لها وتلجأ إليها لتنقذها وتحبها مجدداً وتتعلق بها وحدها كما تأمل بالحقيقة، عمتها بدل أن تترك لها النقود التي دفعتهم للقاتل المأجور لقتل كاميلا تركت لها في الحلم شقة فارهة في هوليوود ضمن مجمع سكني صاحبته هي السيدة كوكو – قابلتها بالحقيقة مرة واحدة وهي والدة أدم – والأمر ليس غريب ففي حياتنا قد نقابل شخصيات متعددة لا تعني لنا شيئاً ولكن عقلنا يحتفظ بصورتها لسبب ما ويعيد عرضها علينا بالصورة التي نفضلها، فالعجوز المتحرش هو ممثل شركة الإنتاج المضطرب في الحلم، والكاوبوي غريب المنظر في الحفل هو العقل المدبر لمافيا المنتجين في الهوليوود، وتلك الفتاة العابرة التي غازلت كاميلا وأثارت غيرة دايان تحولت بالحلم إلى كاميلا الممثلة الشقراء التي حازت على دور البطولة بفيلم آدم عمداً بفضل المنتج العجوز المريب،  وانطباع دايان عن القاتل المأجور إنه أحمق - وربما تريده أن يكون أحمق ليكون لكاميلا فرصة للنجاة - ، وذاك المفتاح الذي لا يعني شيء سوى علامة تحول بالنسبة لعقلية دايان المضطربة إلى لغز لا حل له يحمل النهاية لها، وفي المقهى أثناء التفاوض تلمح دايان المريض الذي يقتله خوفه من الوجه المرعب الذي يراه بحلمه ويبقى في ذاكرتها لتنسج عنه حلمها الغريب الأخر، وكما سرق منها أدم في الحياة الحقيقية حبها كاميلا، ففي الحلم تنتقم منه وتسلبه كل شيء، مجده زوجته كرامته ويصبح ألعوبة بيد المنتجين.
وماذا عن مشهد النهاية، ماذا عن العفريتين؟ هل من الممكن أن يكونا هما والدا دايان اللذان دعماها للنجاح والذهاب إلى هوليوود ويريدان الآن إعادتها إليهما غصباً كاستسلام نهائي من دايان لفشلها وتخليها عن حلمها لذلك اضطربت وانهارت بعد أن تدهورت حالتها العقلية عقب قتلها لكاميلا وملاحقة الشرطة لها؟، وماذا عن مسرح الصمت والعجوز ذات الشعر الأزرق هل هو تعبير عن صدمة دايان بحقيقة هوليوود إنها زيف بزيف، كذب بكذب، لا شيء فيها أصيل وحقيقي، وكل من فيها يمكن استبداله والعرض سيستمر حتى لو سقط النجم على المسرح ميتاً والجميع يجب أن يعمل ضمن هذه الماكينة بـ(صمت) أو سيلقى نصيب المخرج آدم من انهيار.؟
كل هذا الكلام حول تفسير حلم دايان يمكن بتحويل لبعض الكلمات أن نفسره على إنه وهمها أو انفصام شخصيتها أو حالة انقسام عوالم بأحدها دايان وكاميلا هما بيتي وريتا العاشقتان وبيتي تحقق النجاح بالسينما وعالم آخر هما دايان وكاميلا بالحياة الجهنمية التي رأيناها، وفي العمل العديد من المشاهد العابرة التي توحي إنه وهم ، كمشهد ما بعد موت كاميلا ورؤية دايان لها ثم اختفائها وحلول دايان مكانها وارتداء ريتا للباروكة الصفراء لتصبح نسخة عن بيتي، مشاهد عديدة نثرها لينش ليثير الفوضى والحيرة حول فيلمه وماهيته ويحقق غايته كاختبار رورشاخ سينمائي حقيقي.

لينش مبهر بأدواته السينمائي فنان صورة حقيقي يصنع عوالم فيلمه بدرجة وسط بين الصورة الرخيصة لأفلام الستينات التجارية وبين الصورة الراقية لدرجة الملحمية أحياناً، أفلامه عالمه الخاص يصنعه برؤياه الخاصة وتصوره الخاص وينجح بجعل المشاهد ضيوفاً على عالمه يكتشفوه باستمتاع وتشويق، أعماله رحلة مجانية إلى عوالم اللاوعي والغرائز والرغبات والجنون والحيوانية البشرية، نجح بذلك برأس الممحاة والمخمل الأزرق و وحشية بالقلب و الطريق الضائع وهنا وصل بالقمة، التصوير والمونتاج والديكورات والموسيقى مبهران جداً بالأخص مشهد مسرح الصمت ، ورغم إن لينش هو النجم الأول بعمله ولكنه لا يتفرد بالبطولة، يعطي لنعومي واتس مساحة كافية ليكون الفيلم فيلمها وهي تنجح بأن تقود العمل تمثيلاً، فحتى لو إن المشاهد لم يستطع تقبل سريالية العمل ورمزيته فبالتأكيد لن يستطيع سوى أن يبهر بالأداء الصعب لواتس التي تؤدي عدة شخصيات متداخلة ومتناقضة وتتنقل بين عدة حالات شعورية ونفسية صعبة جداً ، تبهرنا بطيبتها وبراءتها في القسم الأول وتنتقل إلى مستوى تمثيلي أخر مبهر بصدمتها وضياعها وانهيارها وجنونها ، واتس التي كادت أن تعتزل بعد سنوات من التجاهل وتقدمها بالسن لولا دعم وتشجيع صديقتها وابن بلدها نيكول كيدمان ونالت فرصة البطولة بهذا العمل الذي كان بوابتها للنجومية واستغلت الفرصة، فبعد رائعة لينش هذه أصبحت نجمة شباك تذاكر بأفلام الخاتم وكينغ كونغ، ونالت ترشيحا أوسكار وعملت مع مخرجين من قيمة اناريتو و كرونبيرغ وأو راسل .
10/10

نور الدين النجار

0 التعليقات:

إرسال تعليق