RSS

The last tango in Paris – 1972


في هذا العمل يستأجر الإيطالي برناندو بورتوليتشي شقة في باريس ويحولها إلى كون منعزل موازي، يرمي فيها عجوز محطم وشابة ضائعة ويجبرهما على ممارسة الحب بأسلوب رقصة التانغو، يدخلهما بعلاقة غريبة ظاهرها الجنس فقط بكل أشكاله القائمة على السيطرة والهيمنة وأحياناً السادية، وخلف هذا الظاهر هناك علاقة أعقد من ذلك بكثير، علاقة أشبه بالسريالية والحلم، أشبه بالهلوسة لدى الشخصيات، تبدأ فجأة بشكل صادم دون مقدمات وتمشي بنسق غريب مليء باللحظات الحالمة وأحياناً الكابوسية، بول الأمريكي (مارلون براندو) يصر على أن تبقى العلاقة جنس فقط دون أسماء دون ماضي دون أحاديث جانبية، يريد أن يتجرد من أي شكل إنساني أو حضاري، أن يتحرر حتى من نفسه ، أن لا يكتفي فقط بالتواصل مع الحيوان بداخله بل أن يتوحد معه بهذه اللحظات القليلة مع جيني الفرنسية (ماريا شنايدر)   المبهورة ببول وغموضه وقسوته وكآبته وشهوانيته الحيوانية وانعدام مشاعره الإنسانية ، ترى فيه كتحدي تريد اختراقه، تريد تحطيم هذا الشكل واكتشاف الإنسان الحقيقي خلف التمثال الجنسي، ولكن حين تعريه من حيوانيته وتراه إنساناً مهلهلاً مهترئاً ضعيفاً مكسوراً بعيداً عن هذه المثالية التي يتقنع بها ينقلب كل حبها له إلى بغض ونفور، تعامله كشخص لا تعرفه ثم تقتله ، لا لتحمي نفسها منه، بل لتنقذه مما هو فيه، لتحافظ على بقايا الصورة القوية بذهنها ولتنقذ بنفس الوقت الإنسان الذي بداخل بول من الحيوان الذي يلتهمه.


أحببت هذا الفيلم جداً بسبب حبي لروايات ميلان كونديرا، أدرك إن العمل نص أصلي وليس مقتبس من أحد أعمال الكاتب العظيم ولكن لم استطع منع نفسي من الربط بين المذهب أو النفس الإبداعي بالصناعة، ربما الأسلوب المتبع لدى كل من بورتوليتشي وكونديرا متشابه، تحري التناقضات الإنسانية ودراسة الطبيعة الإنسانية الحقيقية من خلال الجنس، وربما كان هذا هو المذهب السائد لدى أغلب صناع السينما والروائيين الأوروبيين في السبعينات والستينات، ولكن عند كل من كونديرا و بورتوليتشي شعرت إنه بالقمة، وهذا الفيلم يمكن وصفه كرواية سينمائية، كل مشهد وكل تفصيل دقيق مكتوب وموضوع بعناية، دراسة الشخصيات ومراقبة تناقضاتها وتفاعلها مبهر جداً، كيف تنجذب لبعضها وكيف تنفر وكيف تدور حول بعضها وكأنها رقصة تانغو حقيقية، القسوة والوحشية والبربرية والشهوانية واللذة والانبهار وفضول الاكتشاف، برناندو أبدع بإدارة هذه الرقصة وصنع هذا العالم الغريب ضمن تلك الغرفة وصنع نقيضه الواقعي، إعطاء شكل معين للشخصيتين ضمن الغرفة، ثم شكل معين مختلف تماماً خارجها، وكأن براندو و شنايدر كانا كلاهما يمثلان دورين مختلفين أحده بالغرفة والثاني خارجها.



اللقاء الأول بين بول وجيني كان خارج المبنى في الطريق، جيني لم تكترث لبول أو تنظر له وهي يسير باكياً متخبطاً كمشرد، هي جذبته بشكلها المدعي، معطف الفرو الباهظ الذي ترتديه والذي يبدو إنه مشترى من محل بضائع مستعملة، يعطي انطباعاً عن فتاة تتظاهر بشكل لا تنتمي له، أثارته، أعطته فكرة التظاهر بشخصية متناقضة، داهمها بالغرفة، وهناك هي التقت به أول مرة، عصف بها بممارسة جنسية عنيفة، لذة الجماع الأول ربطها به، ثم شخصيته جعلتها تتعلق به وتغرم به، وحين تعرت في الغرفة من معطف الفرو تعرت من كل الإدعاء الذي ترتديه وبانت على حقيقتها، أما هو فقد اعتنق الإدعاء، أحبه كوسيلة للهرب من واقعه المؤلم، من الدمار الذي يعصف به، وهي أحبت أن تكون حقيقية بهذه الغرفة وتنجو من التمثيل والإدعاء الذي تعيشه حتى بتفاصيل حياتها الخاصة.
بول خارج حديثاً من زواج مدمر، زوجته انتحرت بشكل مفاجئ دون أسباب واضحة أو مبرر واكتشف بعد وفاتها إنها كانت تخونه، يعيش انكسار نفسي وعاطفي وحالة عدم اتزان عقلي وهشاشة داخلية مع شعور بالعجز ونقص في الرجولة، في الشقة يستطيع الإدعاء إنه مستقر مسيطر قوي متزن غامض جذاب، وممارسته الوحشية للجنس مع جيني وانفلاته الجنسي معها لتجريب كل ما يخطر بباله من رغبات وغرائز ونزوات يعطيه إحساس بالفحولة الفائضة يعوض عن ضعفه ونقصه الجنسي، أما جيني الممثلة المرتبطة بمخرج تجريبي ثوري يريد أن يجعل حياتها وعلاقتها معه موضوع أحد أفلامه فهي من أجل ذلك المشروع تضطر للتمثيل بحياته، تدعي كل شيء علاقاتها عواطفها مشاعرها، حتى أحلامها أصبحت إدعاء وتمثيل بل ذكرياتها وطفولتها أصبحت جزء من مشروع تمثيلي سينمائي، في الشقة تصبح أكثر تصالحاً مع نفسها، تتخلى عن الادعاء والتمثيل، تظهر صادقة وحقيقية جداً وترتاح من وطئة التظاهر، تتحدث كثيراً عن والدها الكولونيل الراحل، وترى ببول شكل جديد له، أشبه بعودة وتجسيد جديد، تتصالح مع جانبها الجنسي معه وتجرب أمور لا تخطر على بالها، ويبدو إنها تمس بهذه العلاقة جانبها الأوديبي الخفي.

أسطورة التمثيل مارلون براندو في دور بول يعطينا درس تمثيلي وجواب حول كونه الممثل الأفضل بالتاريخ، يعطيك انطباع إن ما يقوم به أمر سهل جداً وعفوي جداً وبسيط جداً، تبدو الشخصية مكتوبة من أجله ومستوحاة من حياته الشخصية بكل تناقضاتها، حين يجلس بول مع والدة زوجته وتتحدث عن ماضيه تذكر إنه كان ميكانيكي ثم ثائر بأمريكا الجنوبية وملاكم (عربة تدعى الرغبة، فيفا زاباتا، على الواجهة المائية) أداؤه عظيم، مبهر ومحير، مليء   النفسية والتناقضات مع انحداره التدريجي نحو الجنون يصعب الوصف وليس من الغريب أن يصفه البعض بأفضل أدواره على الإطلاق، ماريا شنايدر بدور جيني مبهرة، مثيرة بشكل طفولي وبنفسية طفولية، تأسر عين المشاهد وقلبه وممتازة جداً بمليء الشخصية بأداء محكم وقوي جداً رغم صغر سنها.

برناندو بورتوليتيشي الحائز عن الأوسكار عن الملحمة العظيمة الإمبراطور الأخير عام 1987، لديه لمسة مبهرة بالأفلام الذاتية مثل هذا، صنع عالم الشقة بشكل خاص وخارجها بشكل مختلف، التركيز على اللون الأحمر ووضعه بدرجة لونية خاصة بشكل مزيج بين الشهواني الشبق و المآساوي و تدرجات الأصفر للبني بشكل يعطي للمآساة والموت حضوراً خاص مع موسيقى ممتازة من غاتو باربراي.

0 التعليقات:

إرسال تعليق