RSS

Zootopia – 2016


العام الماضي افتتحت مراجعات العام عن فيلم الأنيميشين Inside out  لبيكسار وديزني ، وهذا العام كذلك أبدأ مع أنيميشين من انتاجات ديزني منفردةً دون ربيبتها المدللة بيكسار، Zootopia لـبايرون هاورد (مخرج تانغليد و بولت) و ريك مور (مخرج Wreck it Ralph) فيلم يبدو باكراً قد حجز مكانةً متقدمةً بين أفضل أفلام 2016 كحال سلفه العام الماضي، وكلاهما يبدوان أكبر من مجرد فيلم أنيميشين ، Inside out  أعاد الألق لسينما بيكسار بعد شيء من البهوت وقدم فتحاً جديداً لبيكسار بغزوها عالم العقل وتقديم معالجة مبهرة لمشكلة النضوج وبناء الشخصية عند اليافعين، و زوتوبيا إعلان لمنهجية جديدة لعالم ديزني وذروة انتاجاتها خلال السنوات الأخيرة، ديزني التي سلمت الشعلة طويلاً لبيكسار واستفادت منها بضخ دماء جديدة لعالمها لم يعد يكفيها فقط أن تلعب من خلف الستار، هي منذ سنوات وتحديداً منذ فيلم The Princess & The Frog 2009 (الأعلى ميزانية وقتها بين سينما الأنيميشين على الإطلاق والأول الذي ضم أميرة سمراء البشرة وأول عودة لديزني لقصص الجنيات منذ مولان 1998) أعلنت إنها تريد أن تعود للهيمنة باسمها الأصلي على عالم الأنيميشين وأن تتفوق حتى على بيكسار دون أن تهمل الاستيديو الخلاق، أعمالها اللاحقة كانت فعلاً قفزات ممتازة في مستواها ومنهجيتها Tangled 2010 و Wreck it Ralph 2012 وFrozen   2013 و Big Hero 6  2014 وأخيراً ها هو زوتوبيا كلاسيكية حقيقية معاصرة وأحد أفضل أعمالها وأكثرها نضجاً وجدّية وإمتاعاً ليس فقط منذ السنوات الأخيرة بل لا أبالغ إن قلت منذ Lion King  1994 .



أميرة ديزني الجديدة هذه المرة هي أرنبة، جودي هوبز (بأداء صوتي مذهل من جينفر غودوين) أرنبة من عائلة أرانب ريفية تزرع الجزر تريد أن تدخل سلك الشرطة في مدينة زوتوبيا كأول أرنبة تفعل ذلك على الإطلاق في ظل عصر جديد اختلفت فيه كل المعايير اندثرت فيه العلاقة التقليدية بين الحيوانات حين كانت المفترسات تأكل الطرائد وتعايشت الأنواع جميعها بسلام وصنعت حضارة حقيقية ورفعت شعار (الكل يستطيع تحقيق ما يريده)، هوبز تريد تغيير العالم وجعله مكاناً أفضل من خلال كونها شرطية، أن تكسر المفاهيم النمطية عن الأرانب وتكون التجسيد الحقيقي لمعنى شعار بلادها (الكل يستطيع أن يكون ما يريده) ولكن الأمر لن يمر بسلام وهدوء، ستواجه تحديات خطيرة وستدخل بدوامة تكتشف فيها مدى هشاشة التعايش في زوتوبيا، هشاشة مصدرها الحقيقي هي الأفكار النمطية في داخل الأشخاص قبل أن تكون في الأنظمة السائدة، وهذه الهشاشة الداخلية وعدم الإيمان الحقيقي بالتعايش هو ما يوشك أن يدمر كل السلام والحلم بالانسجام ويعود بالحضارة التي يفتخر بها أهل زوتوبيا عصوراً إلى الخلف ، قبل أن تدرك هوبز إن التغيير الحقيقي يجب أن يبدأ من الداخل من التغلب على الأفكار النمطية والمعايير المسبقة لتحقق الانسجام والتعايش الحقيقي، وتقوم بذلك برفقة ما يمكن عدّه العدو الأزلي للأرانب الثعلب نيك وايلد (أداء صوتي ممتاز من جيسون بيتمان) بمغامرة ممتازة جداً.



أفلام ديزني وبيكسار لطالما ناقشت مواضيع هامة جداً من خلال الأنيمشين تهم الأطفال والراشدين ولكن لم يسبق ربما وأن ناقشت فكرة بهذه الأهمية والخصوصية والحساسية والتعقيد، قضية التعايش بين الأعراق وتقبل الاختلاف فكرة صعبة جداً لتقديمها كأنيميشين بهذا الشكل الناضج البعيد عن الابتذال أو التسطيح ، بالأخص في زمن تبدو فيه فكرة التعايش كقصر زجاجي يرجمها التعصب والأحكام المسبقة وعدم التقبل، وهذا القصر انهار في كثير من الأماكن حول العالم – بالأخص في بلادنا – وزجاجه جرح الكل وطعن الجميع، وهو يصاب بالشعر والتصدع في أكثر بلدان العالم تقدماً وحضارية، أمريكا التي افتخرت بتقديم أول رئيس اسود واحتفلت العام الماضي بإعلانها قبول زواج الشواذ دستورياً و تتباهى هذه الأيام بوصول أول امرأة إلى ترشيحات الرئاسة  النهائية، هي أكثر بلد يبدو فيه نظام التعايش هشاً وقابلاً للانهيار، فمقابل كلينتون هناك ترامب المرشح الأقوى صاحب الأفكار العنصرية الفاشية ، وفي زمن الرئيس الأسود سجلت العديد من الولايات أكبر رقم منذ سنين لحالات اعتداءات و انتهاكات وتجاوزات عنصرية أدت إلى احتجاجات وصفها العديد إنها الأضخم منذ حركة الحقوق المدنية في الستينات، عدى التسويق المستمر إعلامياً للإسلاموفوبيا والتصعيد ضد الصين والآسيويين وترسيخ صورتهم كحاملي المعول الذي سيؤدي إلى انهيار الإمبراطورية الأمريكية وضياع عرش هيمنتها على العالم، وخارج أمريكا هناك ارتفاع شعبية الأحزاب اليسارية في أوروبا وعداء اللاجئين الذي وصل لدرجة الفاشية وينذر بكارثة إنسانية حقيقية فيها وتصاعد حدّة خلافات بين شرق أوروبا وغربها قد تصل إلى حرب مدمرة ستكون الأعنف وبالتأكيد الأبشع إنسانياً وعنصرياً منذ الحرب العالمية الثانية.



في زمن كهذا يبدو إننا بحاجة حقيقية لأفلام مثل زوتوبيا، تعيد تذكير الراشدين بمدى أهمية فكرة التعايش والانسجام والتقبل وخطورة العنصرية وهيمنة الأفكار المسبقة والإقصائية ، والأهم أن تزرع هذه القيم بعقلية الجيل الجديد والأطفال لصنع عالم أفضل، في زوتوبيا هناك جهد حقيقي مبذول بالصناعة لتجسيد الفكرة على أكمل وجه، الرسومات والعالم المصنوع غرضه ليس فقط رحلة تشويقية للإبحار بعالم خيالي مذهل، بل تفاصيل هذا العالم لها دور حقيقي بتقديم تلك الفكرة، زوتوبيا طبعاً هي تجسيد لعالم الولايات المتحدة، الدولة المبنية على انسجام وتعايش الأعراق المختلفة، الدولة التي خاضت سنوات طويلة من حرب أهلية بين شمال وجنوب ومسيرة أطول لإلغاء العبودية لا كنظام حكومي بل كفكرة وممارسات بين الأفراد ودخلت بنزاعات وصدامات محلية  لمنح كل الأعراق والطوائف حقها بالمواطنة الكاملة وإلغاء الفوارق بين الذكر والأنثى، ورغم هذه الإنجازات فإن عدم التقبل وشبح الانقسام والفرقة والأحكام المسبقة ما زال معشعش في النفوس كالنار تحت الهشيم يحتاج فقط لطموحات سياسية مجنونة وأنانية حتى يصعد على السطح ويحرق الجميع، زوتوبيا هي هذا المجتمع الغربي خليط الأجناس، ولكن ما يبدو عظيماً في الفيلم إنه رغم إدراكنا التشابه أو بالأحرى الإسقاط المقصود من زوتوبيا ولكن صناع العمل لا ينجرون وراء الإسقاط المباشر،  في زوتوبيا الإسقاط فقط هو الفكرة العامة أما باقي ما تبقى فهو عالم مستقل بالكامل ، خيالي بالكامل، ، انغماس وجهد حقيقي بعالم الحيوانات لاستخراج منه صفات خاصة للشخصيات والجماعات العرقية الافتراضية التي تنتمي لها وإعطائها الصفات العنصرية والأفكار المسبقة حول شخصياته، كوصف الأرنب بالظرافة والثعالب بالمكر والفيلة بالضخامة والسخرية من عواء الذئاب والإعجاب بملمس فرو الخاروف الناعم، ومن خلالها صنع عالم زوتوبيا بقوانينه وتقاليده حتى بتاريخه وأزماته وألاعيب السياسة فيه بل حتى بروح سخريته ونكاته وأسلوب حياة مواطنيه، هو ربما كما ذكرت من أكثر أعمال الأنيميشين التي تلعب فيه الرسوم دوراً لروي القصة وشرح الفكرة لا لمجرد صنع عالم خيالي ، لا يمكن في العمل أن ترى أي شخصية حيوانية مقصود منها جماعة عرقية معينة، البعض قد يقول إن جودي هوبز الأرنبة يقصد منها تجسيد كفاح المرأة لتحقيق ذاتها، هذا صحيح إلى حد ما ولكن حتى في هذه الجزئية فإن العمل يركز إن سبب رفض المجتمع لفكرة أن تعمل في سلك الشرطة هي لكونها (من فصيلة الأرانب) لا لكونها (أنثى)، وحتى حين تنفجر عاطفياً بنهاية العمل فإن وايلد يقول : (انتم الأرانب عاطفيون) لا يقول أنتم الإناث ، وقد يناقش البعض إن شخصية وايلد الثعلب قد ترمز إلى اليهود – من حيث الدهاء والاحتيال – والبعض يقول لا هي ترمز إلى السود – العرق المتهم إنه مجرم وعنيف ولص ويعيش في ظروف صعبة من عدم التقبل دفعته إلى الجريمة في أغلب الأحيان – ولكن أي محاولة لإسقاط صفة عرقية على شخصية الثعلب هي فاشلة، كما قد يظن البعض إن المعني من شخصية زعيم المافيا Big  هم الإيطاليين – بالأخص إن صناع زوتوبيا استعاروا الكثير من شخصية دون فيتو كورليون ومشهد افتتاحية العرّاب بتقديم شخصيته – ولكن هنا كانوا يمارسون علينا حيلة لكشف حقيقة أفكارنا المسبقة عن الأعراق، عصابة الفئران لا يمكن أن تعني الإيطاليين، زوتوبيا ركز على فيلم العرّاب لا (لنربط الشخصية بالعرق) بل (لنربط الشخصية بالفيلم) ولكن العنصرية الخفية بالداخل دفعت المشاهد لتجاوز فكرة الربط بين شخصيتين خياليتين – بيغ وكوروليون – إلى ربط الشخصية المجرمة بالعرق الإيطالي، وإلا كيف تكون عصابة إيطاليين و رجالها هم دببة قطبية الذين حسب المفاهيم العنصرية يرمزون للروس.

الفيلم ممتع جداً وذكي جداً بمناقشة حساسية وتعقيد موضوع الأفكار المسبقة عن الأعراق، الانطباعات المسبقة التي يشكلها الإنسان بداخله عن جماعة عرقية أو طائفة غريبة عنه أمر لا يمكن التخلص منه مهما وصل التعايش إلى متانة، وهذه الأفكار في أغلب الأحيان ستدخل في صلب العلاقة مع (الآخر) وهنا تكمن المشكلة، بعض الأحيان ربما تعليق بسيط من باب حسن النية قد يوصف بالعنصرية عند شخصية حساسة، ربما هناك مبررات للأفكار المسبقة وربما أغلبها حقيقية فلا يوجد عرق مثالي، ربما من اللباقة عدم التحدث بهذه الأفكار وأحياناً من الضروري مناقشة هذه الأفكار لتجاوز الخلاف، ولكن المهم ألا تكون هذه الأفكار هي الأساس برسم العلاقات بين الآخرين، فأي تصرف فردي مبني على أفكار مسبقة سيؤدي إلى رد فعل مشابه ينتقل إلى شخصية ثالثة تتصرف برد فعل عنصري أيضاً للتفاقم القضية وتؤدي إلى انهيار المجتمع.



كحال كل الأعمال الكلاسيكية العظيمة فزوتوبيا يمزج بين إبهار الفكرة وتقديمها وإبهار الصناعة السينمائية، دع الفكرة جانباً تفاصيل العالم الخيالي المصنوع هنا بمعزل عن الفكرة مبهرة جداً ومنسجمة ومتكاملة بشكل جبار، تفاصيل القرية والمدينة والحلول المطروحة بالعمل لصنع مدينة تعيش بها شتى الأنواع الحيوانية المختلفة من الفيلة الضخمة إلى الفئران الصغيرة كتصميم محطات القطار والشوارع والأبنية و الأنفاق والجسور والأحياء، صناع زوتوبيا لم يتركوا أدنى تفصيل يفوت عنهم، حتى الهاتف الذي تحمله هوبز والذي يفترض إنه من نوعية أبل فشعاره ليس التفاحة المقضومة بل جزرة مقضومة، الرسوم والألوان ممتازة ومبهجة جداً وتحقق الغرض من الفيلم كرحلة إلى كون موازي خيالي طفولي منعش، والقصة كذلك ممتازة كسرد وبسيطة في نفس الوقت، تمهيد جيد لشخصية هوبز وطموحاتها والتحديات التي تتعرض لها مع تصميم نفسيتها الريفي البريء المتفائل ومخاوفها وعقدة طفولتها من الثعالب ، تفاصيل تجعل من هوبز شخصية حقيقية جداَ وقريبة للجمهور وكذلك إلى حد ما وايلد شخصيته مصنوعة بعمق إنساني جيد .


الفيلم يبدو أنه يهتم بأن يكون عن حرية المرأة وتحقيق ذاتها بعالم الرجل وهو يبدأ هكذا فعلاً في البداية ويستمر بذلك حتى أخر العمل وممتاز بهذا الإسقاط والرمز، ولكن بنفس الوقت فالقصة – كما ذكرت – تتوسع لتصبح عن فكرة التعايش وتقبل الأخر وهو عظيم بهذا المجال رغم بساطته ومباشرته المبالغ فيها أحياناً ولكنه مع ذلك يصل إلى بر الآمان وبنتيجة ممتازة جداً، العمل يسير على نهج سينما النوار ولكن بسوداوية أقل جداً ، ومع المغامرة الممتازة والمشوقة هناك العديد العديد من اللحظات الكوميدية التي تجعل المشاهد يضحك من أعماقه، مشاهد كلقاء هوبز الأول مع وايلد وإقناعه بالعمل معها ورحلة التحقيق التي يخوضونها من مركز اليوغا إلى قسم المرور ولقاء حيوانات الكسلان وعلاقة الصداقة التي تتشكل بينهما والانسجام الرائع بينهما الواضح حتى صوتياً.



ككل أفلام ديزني فلا بد أن يكون هناك أغنية للعمل تصلح أن تكون كـ(ثيم) له، وهذه المرة فإن صوت شاكيرا هو من يصدح بأغنية ممتازة جداً هي ربما من أفضل الأغاني التي قدمتها ديزني في أعمالها وفي فيلم يبدو باكراً من روائع    2016 وبداية ممتازة للموسم السينمائي.


10/10

0 التعليقات:

إرسال تعليق