RSS

Superman- 1978


فيلم ريتشارد دونيير هذا ليس كأي فيلم كوميكس أو سوبر هيروز اعتيادي، هو عمل كلاسيكي و حدث سينمائي تاريخي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أول فيلم كوميكس على الشاشة الفضية وأحد أضخم وانجح الانجازات السينمائية بالتاريخ، مدرسة بصنع أفلام الأبطال الخارقين وأفلام الحركة والتجارة وعموماً ، إنجاز دونيير هذا هو بالنسبة للكوميكس مثل سكارفيس هاورد هوكس لأفلام العصابات ، عمل وضع المنهج بصنع فيلم البطل الخارق ، القواعد التي وضعها دونيير بسوبرمان هي الأساس التي سار عليها نولان وريمي وفافرو بروائعهم باتمان يبدأ و سبايدر مان و أيرون مان ، أفكار عديدة عظيمة قدمها كانت تحتاج لنضج أكثر ولكنها ثورية جداً بزمنها ومشبعة بشكل جيد والفيلم عموماً ما زال مبهراً وممتعاً ومشوقاً حتى بعد مرور حوالي ست وثلاثين سنة على صنعه .


هذا العمل هو الحلم الذي راود إيليا سالكايند منذ عام 1973 وبالمشاركة مع بيري سبينغلر بدأ العمل على انتاجه عام 1977 على فكرة سلسلة منذ البداية، مستغلين طبعاً ثورة أفلام الفضاء مع نجاح حرب النجوم، المنتجان كان لديهما طموح بألا يصنعا فيلم اعتيادي أن ينسفوا كل ما يعرفه الجمهور عن سوبرمان في المسلسلات القديمة والقصص ويصنعا شيء يتناسب مع حجم الشاشة الكبيرة وقيمتها، الشريكان لم يريدا أن يعرضا فقط رجل مفتول العضلات يحلق ببذلة ضيقة ويطيح بمن حوله ، طبعاً سيعرضا المغامرة وستكون مغامرة مبهرة جداً في الجزء الأول وعظيمة في الجزء الثاني ولكنهما يريدان قبل كل شيء تقديم الرجل وراء المغامرة، تقديمه كإنسان حقيقي بطل من الجمهور وقريب له، يريدان أن ينقلاه من روح الورق إلى عظمة الشاشة حيث لا نشاهد المغامرة بل نعيشها ونكون جزء منها ونعثر في البطل على شيء منا. منتجا العمل لم يجلبا كتاب سيناريو اعتياديين اسندا النص إلى كاتب العراب ماريو بوزو ومعه ثلاث كتاب مرموقين أحدهم روبيرت بينتون الذي نال بعد سوبرمان بعام واحد أوسكارين كمخرج وكاتب عن كريمر بمواجهة كريمر، وكذلك بالإخراج بحثا عن مخرج يعطي القصة روح وليس فقط فرجة بصرية ممتعة فرشحا اسماء مثل كوبولا وفرادكلين وسبلبيرغ ولوكاس ثم انتهى العمل تحت يدي ريتشارد دونيير مخرج تحفة الرعب (The Omen ) 1976 وكان اختيارهم أكثر من موقف.
 وفي التمثيل رضخا لكل شروط براندو لدور جار – ايل فمنحاه 3,5 مليون دولار – وهو الرقم الأعلى بزمانه – مع 11% من أرباح الفيلم ، واختاروا جين هيكمان لدور ليكس لوثر، ورغم إن دور كلارك كينت – سوبرمان دار بين داستين هوفمان و أل باتشينو وكريستوفر واكن وريدفورد ونيومان وإيستوود وكان ولكنه انتهى لاسم مغمور هو كريستوفر ريف كحركة جريئة ولكنها ثورية وكانت أفضل ما قاموا به واضعين به القاعدة الأساسية بصنع فيلم البطل الخارق وهو بمنحه لممثل لا ماضي جماهيري له ليلتصق بالشخصية ويكون رمزاً لها وإيقونة .
العمل فيه الكثير من النضج والجدية بصنع البطل الخارق، صنعه بشخصية ثلاثية الأبعاد مليئة بالإنسانية، إنسان له ماضيه مخاوفه تناقضاته نقاط ضعفه، طرح السؤالين الهامين لماذا أنا خارق ؟ وما هو الدور الذي يجب علي أن أفعله ؟ الاستغناء عن كل مغامراته الشهيرة بقصص الكوميكس والتركيز لأكثر من نصف الفيلم على أشياء يعرفها كل متابعي سوبرمان بالكوميكس – وهي أجزاء ليست بالجذابة والمغرية لتصنع عملاً جذاباً بالنسبة للجمهور مع وجود كل المواد الترفيهية الأخرى والمغامرات المشوقة - نشأة هذا البطل وتكوين شخصيته ثم صنع مغامرات وحبكة إثارة متصاعدة بشكل تدريجي لنرى الذروة في النهاية، الطموح كان منذ البداية سلسلة والفيلم بدأ بإعداد جزئه الثاني عن التحدي الأخطر الذي يواجه سوبرمان متمثلاً بالجنرال زود وعصبته، وذاك الجزء هو الطموح الأصلي لمنتجيه، ولكن – كما ذكرت - حتى يكون الجزء مميزاً وعظيماً يليق بالسينما يجب أن يكون هناك اعتناء بصنع الشخصية ولأجل ذلك صنعا هذا العمل.
تبدأ القصة بكوكب كريبتون مع محاكمة الجنرال زود وعصبته بعد فشل انقلابهم ثم نفيهم، و تقديم كارثة كريبتون وفنائه وإرسال جار – ايل لابنه كار – ايل إلى الأرض لينشأ عليها ويعيش بين البشر ليس فقط لينجو من الفناء بل ليحمل رسالة كريبتون ويلهم أهل الأرض ويحميهم ويكون السبب بتطور حياتهم.
الطفل يعثر عليه زوجان عجوزان عقيمان من أهالي سمولفيل في تكساس جوناثان ومارثا كينت ويربياه باسم كلارك، يلاحظان مثل البداية فرادته وخصاله الخارقة فيحاولان حمايته من الظهور حتى لا يقع ضحية لأيدي المخابرات المركزية وأبحاثهم فنشأ بصورة الجبان والمنطوي ، كلارك يشب ويلاحظ قوته وتفوقه على الجميع ولكن انعزاله يجعله مضطهداً من زملائه إلا أنه وتحت إلحاح والده يبقى على انطواءه ويسأل لماذا أنا هكذا؟ والده يجيبه أنت لم تخلق عبثاً لا بد إن لكن دور ومهمة يجب أن تؤديها في موعدها؟ ويخبره السر إنه مقذوف من السماء، وفي نفس الوقت يهذب ميول الشر لديه وكره المعتدين عليه حتى لا ينحرف ويتحول إلى لعنة، فصحيح إنه يتعرض للاعتداء من شباب متنمرين ولكن هذا لا يعني إن الكل أشرار بل استعماله لقدراته الخارقة للانتقام سيحوله إلى شرير.
بعد وقاة جوناثان بأزمة قلبية يحافظ كلارك على عهده بعدم استعمال قدراته إلا لمساعدة المحتاجين، يبحث عن حقيقته ويصل إلى قاعدة قديمة لكريبتون مخفية في القطب الشمالي يعثر بها على السر ويتعلم فيها كل ما يلزمه عن حضارة كوكبه حتى يمارس دوره بتخليص البشرية وحمايتها، بعد أن يتقدم به السن وينهي تعليمه خلال 12 سنة يخرج للعالم، يتجه إلى ميتروبلس يعمل فيها كصحفي في الدايلي بلانت ويلتقي بحبه الأول لويس لين، يتأقلم مع البشر بشخصية الصحفي الخجول والساذج ويعمل في الخفاء على محاربة الجريمة ومواجهة الشر ومساعدة من يحتاج، يصبح ظاهرة وحديث الناس ويجذب الأنظار إليه بالأخص العبقرية الإجرامية ليكس لوثر الذي يرى فيه تهديد لمشروعه الجشع بتدمير نصف كاليفورنيا لبناء امبراطورية عقارية فيبحث ذاك عن نقاط ضعف محتملة ليستغلها للمعركة الكبرى ضده.
ريتشارد دونيير بعد أن صنع فيلماً عظيماً عن اصل الشر وابن الشيطان في  تحفته (the (omen، يحول عمله هذا إلى إنجاز عظيم عن نشأة الخير وما يمكن أن يعتبره المخلص، مرحلة التمهيد والنشأة بالعمل رائعة جداً وتعطينا بعد إنساني حقيقي لشخصية سوبرمان ونعرف الكثير عنها ونتعرف على عقدته المؤرقة وهي الرجل الخارق الذي يقف عاجزاً عن إنقاذ من يحب، ولأجل إكمال هذه العقدة هناك بناء رائع لعلاقة كلارك كينت بلويس لين، بسيط ولكن جميل جداً ، وفيه عقدة مبسطة ولكن محكمة نزاع الإنساني والخارق داخل سوبرمان ، فلويس تحب سوبرمان ولكنها لا تحترم كلارك مما جعله يعيش تناقض وغيرة من ذاته، ومع تطور العلاقة يصنع دونيير أحد أجمل المشاهد الرومانسية وأشهرها مع تحليق سوبرمان ولويس في أجواء ميتروبلس.
رغم إن دونيير صنع قسم النشأة – وما سيعرف لاحقاً بعالم سينما الكوميكس الأصل – بشكل جذاب جداً ومشوق ولكنه بقي يدرك إن الجمهور يريد رؤية مغامرة استثنائية لا مجرد استعراضات بطولية من سوبرمان – صنعها دونيير أيضاً بشكل جيد – لذلك مهد للتحدي بشكل جيد مع تقدمه لشخصية ليكس لوثر، وقدم مأزق ومواجهة ممتعة جداً ومشوقة مع إنقاذ سوبرمان لكاليفورنيا من التدمير ويجعل الجمهور متشوقاً جداً لمتابعة المزيد في الجزء الثاني، ويدخل المغامرة بعمق الحبكة مع نوازع الإنسان والخارق داخل سوبرمان، ومواجهته لأقصى مخاوفه عدم قدرته على إنقاذ من يحب.
ريتشارد دونيير استفاد من وجود طاقم ممثلين احترافي ليعطي الروح المطلوبة لفيلمه، ويجعل شخصياته بغاية الجاذبية، مارلون براندو بدور جار – ايل جيد وصوته يضفي لمسة مميزة للدور، جين هيكمان يعطي لشخصية ليكس لوثر – رغم سطحية صنعها – شر اصيل وخطورة حقيقية وتصبح علامة مميزة بمسيرته، و ند باتي بدور معاون لوثر اوتيس يعطي روح كوميدية للعمل، مارغوت كيدر بدور لويس لين تجعل من الشخصية علامة تجارية وتصنع انسجام وكيمياء حقيقية مع كرستوفر ريف، والأخير ذاك ليس فقط أفضل سوبرمان عرفته الشاشة، بل أفضل من أدى دور بطل خارق على الاطلاق ، متفوق حتى على بيل و داوني جونير وماغواير، جاذبيته وبراءة ملامحه وتنقله السلس بين قوة سوبرمان وإنسانية كلارك وضعفه يجعل من سوبرمان كائن حقيقي جداً على الشاشة.
دونيير لم يكن فقط متحكم بميزان عمله وضابط ممتاز لإيقاعه بل أيضاً صانع فرجة مبهرة، المؤثرات ممتازة بزمنها ، التصوير والمونتاج محكم ومشاهد الإثارة متقنة جداً وموسيقى العظيم جون ويليامز تعطي للعمل بهجة حقيقية، دونيير حقق الهدف مما أراده سالكايند و سبينغلر تجاوز قصة البطل الخارق ليرينا قصة الإنسان الخارق، عمل إنساني وشديد العمق ، عمل سينمائي فني كلاسيكي وأصيل ورمز ثقافي شعبي عالمي وعلى درجة عالية من المتعة السينمائية الحقيقية ، فيلم صالح لكل زمان فيلم ألهم كل صناع السوبرهيروز بعده وكان له الفضل برفد السينما التجارية بنوعية جيدة بصرياً وسينمائياً، الفيلم الأنجح لعامه مع 300 مليون دولار أرباح وثلاث جوائز أوسكار ، وأطلق بعده سلسلة سوبرمان التي أصر المنتجان على أن يقوم دونيير بإخراج الجزء الثاني الممتاز منها عام 1980 كتتمة مبهرة للأول ثم ابتعد عن السلسلة التي ساءت أحوالها وأنتقل لإخراج سلسلة الحركة السلاح الفتاك لميل غيبسون وداني غلوفر بين أواخر الثمانينات والتسعينات ، ورغم كل أفلام الكوميكس التي قدمتها السينما بعده يبقى لسوبرمان هذا الصدارة كأفضل فيلم عن الشخصية وبقي أفضل فيلم سوبرهيروز حتى دمر نولان الصالات وعقول الجماهير بفارسه المظلم عام 2008 بعد ثلاثين سنة على التحليق الأول لسوبرمان وما زال باعتقادي أحد أفضل أفلام النوع والفيلم الأكثر إلهاماً وتأثيراً واتقاناً فيه.

10/10

0 التعليقات:

إرسال تعليق