RSS

Boyhood – 2014




عام 1993 قدم ريتشارد لينكلتير فيلم Before Sunrise     فيلم رومانسي بسيط مميز وفريد بأسلوبه وعفويته تحول سريعاً إلى أحد الكلاسيكيات الرومانسية الحديثة، عام 2004 عاد لينكلتير وجمعنا مع بطليه بعد مضي عشر سنين على الرحلة الرومانسية العفوية التي خاضاها وهما في العشرينات بفيلم Before sunset  لندرس التغيرات التي طرأت على حياتهما وشخصيتهما وهما في الثلاثينات، والمشروع لم يكن غرضه تجاري أبداً فكرة أحب لينكلتير تقديمها كاستعداد لفيلمه الحلم الأكثر انتظاراً Boyhood، فيلم يعتمد بشكل رئيسي على عامل الزمن وتأثيراته وتغيراته على حيوات الشخصيات بل حتى إنه أساس صناعته كونه كما هو معروف صنع وصور على شكل مجزأ طوال 12 سنة، وبعد عام على زيارتنا لعالم سيلين وجاك بعد عشر سنين على الارتباط في أحد أفضل أعمال 2013 وأفضل جزء في السلسلة Before Midnight  لم ينتظر لينكلتير سوى أشهر ليقطف ثمار صبره وعبقريته Boyhood  في مهرجان برلين الذي انطلق منه قبل أكثر من عشرين سنة ويحصد جائزته الكبرى ويتحول مبكراً جداً جداً إلى أحد علامات 2014 الأهم .

الفيلم فعلاً كما وصف أحد الحالات السينمائية الفريدة ، فيلم لا يشبه شيء صنع من قبل، عمل مميز بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، لا أظن إن الحالة يمكن أن تتكرر مجدداً بنفس الجمالية كحالة فيلم Artist  قبل سنين، هو جميل بفرادته و بالحالة الفنية التي صنع بها، فيلم استغرق 12 سنة ليصنع، هذه الحالة وهذا الظرف الذي صنع به وتعمد صنعه بهذه الطريقة  كمشروع سينمائي استثنائي أعطاه قيمته وفرادته كصناعة وفكرة، ولينكلتير كان متعمداً لذلك كان يهتم فعلاً بالتركيز على الفترة الزمنية التي تعرض بها كل جزء من القصة ليس فقط من خلال تطور واختلاف أشكال الممثلين أو أماكن التصوير بل حتى من خلال السيناريو الذي يبدو أيضاً كتب بشكل مجزأ ومتوالي على مدى 12 سنة، القصة العامة والفكرة موجودة ولكنها عدلت على شكل متوالي ل12 مرة على الأقل ومع ذلك بقيت متماسكة ومنسجمة ومحافظة على التطور والغنى الدرامي ، وعلى نفس المستوى هناك تركيز على جزئيات بطريقة لم تكن فقط دلائل زمنية بل أعطته امتياز كون تلك الجزئيات كانت مهمة أيضاً للقصة وتطور الشخصيات وجعلت من السيناريو حالة توثيقية لأمريكية في العقد الماضي ودراسة لتطور الحياة الأمريكية ونشأة الجيل الجديد، هناك مرور سريع ولطيف على أهم الحوادث الشعبية والسياسية بأمريكا بشكل يشبه إلى حد ما فورست غومب قبل عشرين سنة، شاهدنا حالة الحرب ضد الإرهاب غزو العراق صعود أوباما أزمة الدين العقاري وشاهدنا انتشار بريتني سبيرز والبوب حمى هاري بوتير فارس الظلام توايلايت جدلية الليدي غاغا والموسيقى الحديثة، تطور الوسائل التقنية من الحاسوب العادي إلى المحمول وتطورات الهاتف المحمول وتبدل نشاطات الجيل الجديد من الرياضة والفنون الغنائية إلى ألعاب الحاسوب و الفنون المعتمدة على التقنيات أكثر كالتصوير، وأهم ما تم التركيز عليه ثورة وسائل التواصل الاجتماعي من الرسائل البريدية إلى بداية انتشار الايميل وصعود الفيسبوك والسكايب ثم انحسار الفيسبوك لدى الجيل الجديد وتبدلات العلاقات الاجتماعية مع طغيان مواقع التواصل الاجتماعي على العالم.
جزئية الـ12 سنة هي صاحبة الفضل الأكبر بامتياز العمل وإكسابه هو ولينكلتير الاحترام بالنسبة لي ، هذه الجزئية وهذه الحالة رافقتني طول فترة الفيلم، طول الوقت وأنا أفكر بجرأة لينكلتير حين راهن على المجهول عامل الزمن، ما المصير الذي سينتهي إليه حلمه لو أن (إلير كولترين) تعرض لحادث وتوفي أو أصابه عارض ما منعه من متابعة التصوير أو كيف دفع أجور الممثلين والذين معه وتجاوز عوائق الإنتاج، وبعيداً عن هذه المراهنة وهذه التفاصيل أحببت انغماس لينكلتير التام بالعمل على طول 12 سنة، صحيح إنه صنع أثنين من أهم أفلامه بين عامي 2002 و 2014 ولكن كان يبدو إن هذا الفيلم كان يرافقه طوال تلك الفترة، شيء من الانغماس وملاحقة الحلم الفني جعل العمل كحالة تتجاوز السينمائية الكلاسيكية لتصبح حالة فنية خاصة عشنا لنراها كالحالات التي سمعنا عنها قديماً عن انغماس دي فينشي لسنين بالموناليزا وبتهوفن بالسمفونية التاسعة والأهم قدرته على نقل هذه الحالة ألينا ، وحالة الشغف هذه واضحة بكل نواحي العمل ليس فقط السيناريو بل من خلال التصوير والتمثيل، هناك محافظة على رتم واحد من التصوير على مستوى واحد من الصناعة، العمل لم يتأثر أبداً بما يصيب الفنانين على مدى السنين الطويلة من حالات تجلي و ضمور فنية، لا يوجد تفاوت لا صعوداً ولا هبوطاً – فحتى فورة الابداع تضر عمل بهذا النوع لأنها حين تنتهي لن يستطيع المخرج أن يتابع الفيلم على نفس الوتيرة – السوية الواحدة الممتازة موجودة وأعطت العمل تماسك عالي، والأهم من ذلك هو التمثيل ، وهو الحالة الأصعب ، الشخصيات كما كانت تتطور فنياً ودرامياً فهي أيضاً تتطور أدائياً بأغلبها – باستثناء لولير لينكلتير – أنا أتخيل الحالة كيف إن كادر الممثلين كان يجتمع كل سنة لأيام معدودة ليصور بضع مشاهد ثم ينقطعون ويلتقون مجدداً العام التالي ومع ذلك يحافظون على نفس الحالة الدرامية على نفس انعكاسات وتراكم حوادث العام والاهم على نفس الانسجام والكيمياء الأسرية وكأنهم لم ينقطعوا وصورت كل المشاهد دفعة واحدة.
ربما يتبادر سؤال للمشاهد وتبادر بالنسبة لي أيضاً، هل كان سيختلف تقديرنا للعمل لو إنه لم يصور ب12 سنة، أو لأننا شاهدناه دون أن نعرف إنه صور ب12 سنة؟؟، السؤال باعتقادي من باب العبث، أشبه بسؤال هل سيختلف تقديرنا لـArtist  لو لم يكن صامت مصور بالأبيض والأسود؟؟ أهمية العمل وقيمته من هذه الجزئية والنجاح باستغلالها وتوظيفها درامياً هي سبب نجاحه وهي لا أظنها أسلوبية سهلة بل فيها الكثير من الصعوبة فنياً، ولكن حتى لو تجاوزناها فنحن أمام عمل شديد الغنى والجمال درامياً ، القصة تلاحق عائلة أمريكية عادية جداً وتقليدية بكل تفاصيلها طلاق الأبوين جموح الأب و تحمل الأم كل الأعباء وتحمل أعباء صفة الأم العاملة وصعوبة تواصل الأب مع أبنائه ، زواج الأم الثاني ثم انفصالها وتطورات حياتها وحياة أولادها ، وتطور شخصية الأبناء ونضوجهم حتى انفصالهم عن أهلهم وسيرهم بمسيرة حياتهم الخاصة، دون أن نرى انفجارات درامية أو مفاجآت على صعيد القصة، فهنا لسنا أمام حالات شاذة بل أمام حالات عامة لا يفترض أن تكون كلها مصيرها العنف أو الإدمان أو الانتحار ومسيرة العائلة المتوازنة رغم تفكهها تعطي المبررات الدرامية لتكون مصائر الشخصيات متوازنة وعادية إلى حد ما، الفيلم هنا يتقاطع إلى حد ما مع (the tree of life ) ، كنت أتوقع أن أعقد مقارنات بين العملين ولكن هذا الشيء لم يحصل سوى بجزئيات بسيطة ولحظات قليلة فلينكلتير أنساني فيلم ميلك – لا أقول إنه أفضل منه – وصنع لنفسه هوية الخاصة التي تميز عمله هذا حتى عن سلسلة before  وهو عالج القصة من زاوية مختلفة عن فيلم ميلك، ميلك عالج علاقة الإنسان مع الرب وموقعه في العالم من خلال علاقة الفرد بأسرته وموقعه فيها وصراع الروحية والمادية داخله، لينكلتير كان يلاحق الزمن و 12 سنة تصوير ليست فقط للتميز والفرادة بل لها غرض درامي وهي أن نعيش الفترة الزمنية ونشعر إلى حد ما بها و نصل إلى سؤال (ما الفائدة من الحياة ؟!) وربما كان لينكلتير يتمنى لو استغرق أربعين سنة في تصوير العمل حتى يطرح هذا السؤال ولكن 12 سنة كانت كافية بالأخص إن الـ(Boyhood – سنوات الصبا) ليست فقط عن ماسون (إلير كولترين ) فكل الشخصيات ما زالت تعيش صباها.   
محور الفيلم الرئيسي هو عن ماسون وتطور شخصيته وحياته من سن السادسة حتى الثامنة عشر وتخرجه من الثانوية وانتقاله إلى الجامعة، لنرى شخصية عاشت طوال الوقت في نزاع ضمن عائلتها، الكل يحاول توجيهه وقيادة حياته وهو لا يملك حتى الاعتراض والمناقشة يكتفي بالتأمل بينما عائلته تختار له كل شيء ولا يفعل شيء يشعره هو ومن حوله بالرضى حتى إن الهواية التي يحترفها هي التصوير الاكتفاء بمراقبة الناس والتقاط لحظات حياتهم وهو مخفي بالكامل، ليصل إلى مرحلة النضج والانطلاق بالحياة ويسأل نفسه ما الفائدة من كل شيء ما المغزى من الحياة وهو يعيش حياته بتسلل رتيب معروف سلفاً يكرر به حياة من قبله ويبدو فيه كل النزاع بلا قيمة، فوالدته (باتريشا اركويت) التي ناضلت طوال الوقت من أجل تكوين عائلة وصلت إلى مرحلة راحت هي تدفع أولادها للاندفاع خارجاً نحو العالم والابتعاد عنها والمكوث وحيدة، الأب (إيثان هوك) الذي عاش حياة جامحة ومليئة بالمغامرات ابتعد بها عن عائلته عثر على الاستقرار وكون عائلة أقام معه بهدوء، شيء يبدو معه كل شيء وكل نزاع وصراع عبثي فلحياة ستمضي ولن يحقق أحد غايته وستنتهي بالموت، والمشهد الأخير العظيم حيث الرحلة يركز به على إنه من المؤسف أن تضيع الحياة بالصراع جمال الحياة باستغلال اللحظات الجميلة واستغلالها لأقصاها شيء كسبه ماسون من والده الذي يبدو رغم كل أخطائه بحياته الماضية أكثر تصالحاً مع نفسه من والدته كونه استغل الحياة وبحث عن جمالياتها ولم يضع حياته بالصراعات مثلها، ليكرر ماسون حياة والده كاملةً وتعاد مسيرة الزمن بأسلوبية عبثية لا مغزى لها.
إلير كولترين يقدم أداء عظيم على مستوى العمل، منذ ظهوره الأول بسن الست سنين حتى الثامنة عشر يواكب الفيلم ويتطور معه ليصل للذروة بسن الرشد ويقدم أداء بغاية الاحترافية والقوى يعبر فيه عن كل أوجاع وآلام السنين الماضية، للأسف لم تواكبه  لولير لينكلتير بدور سامانثا فرغم ظهورها الأولى بسنوات الطفولة بأحد أجمل الأداءات الطفولية التي شاهدتها وأكثرها عفوية ولكن أدائها يخفت ويضيع بريقه مع استمرار العمل وتقدمه حتى تضيع الشخصية وتفقد أهميتها رغم تأسيسها القوي، باتريشا اركويت تقدم بدور الأم أداء شديد الجمال والعفوية وإلى درجة مماثلة إلى حد ما إيثان هوك بشخصية الأب.
رغم إن الفيلم أبهرني كحالة فنية ولكن لم أشعر بهذا الإبهار كموضوع، الموضوع ممتاز ولكن ليس مبهر، ليس مثل Artist  المبهر على التوازي كحالة فنية وكموضوع، ومع ذلك فالعمل سيعيش وسيخلد وسأصفق له حين ينال الأوسكار وأتمنى ذلك، فحالة شغف فني كهذه تستحق التكريم وتستحق الخلود فتجربة كهذه بهذه الفرادة وهذه الجودة لا نراها سوى مرة واحدة بالعمر ولا يجب أن تمر مرور الكرام.
9/10 أسيسهاأ  

0 التعليقات:

إرسال تعليق