RSS

Two Days One Night- 2014




كاد هذا العمل أن يدخل التاريخ بأن يجعل من الأخوين دالدري أول من ينال السعفة الذهبية ثلاث مرات، ورغم إنه خرج من مهرجان كان الماضي خالي الوفاض ولم تنل حتى بطلته ماريون كوتيلارد الممثلة الفرنسية الأفضل حالياً الجائزة الأعلى في فرنسا إلا إن ذلك لم يؤثر أبداً على حجم النقد الإيجابي الذي حاز عليه عالمياً كأحد أفضل الأعمال التي تناولت قضية الأزمة الاقتصادية وأزمة منطقة اليورو من جوانبها الإنسانية وتأثيرها على العلاقات الاجتماعية.


لقائي الأول مع الدالدريز كان قبل تسع سنوات بفيلم (الطفل) الحائز على كان 2005 وبهذين العملين بإمكانك أن تفهم معنى كلمة إن ما يقدمه الأخوين البلجيكيين يسمى سينما صافية، هما تجسيد للنهج السينمائي الأوروبي الحديث – كسينما العظيم هانكة – حيث الصورة البسيطة السيناريو البسيط والاهتمام بالتفاصيل الإنسانية والحياتية والمعيشية للشخصيات بشكل يبدو شديد الوثائقية مع الابتعاد عن عوامل التشويق أو الإثارة العاطفية التقليدية الهوليودية والتركيز على بناء الشخصيات والعلاقات بينها وتفاصيل حياتها والحالة الإنسانية والواقعية التي تنتجها القصة بشكل تخاطب العقل وبنفس الوقت تؤثر في القلب وتصنع دراما شديدة الامتياز، وهذا العمل هو تجسيد حقيقي لهذه المعاني، القصة قابلة ومغرية جداً لتكون عاطفية ومثيرة ولكن مع ذلك فإن الدالدريز لم يقدما إثارة أو عاطفة بالمعنى السينمائي الكلاسيكي بل اهتما بالحالة الإنسانية الخالصة وبتشريح الشخصية وتقديمها للمشاهد بطريقة يجعلها قريبة جداً لنا ومؤثرة علينا كأننا نعرفها وأحد أصدقائها، ويجعلا القصة واقعية جداً لدرجة يمكن لأي شخص أن يتخيل نفسه في المآزق الذي علقت به البطلة وزملائها .
الفيلم يتحدث عن ساندرا (ماريون كوتيلارد) عاملة فرنسية متزوجة وأم لطفلين تواجه حياتها عدة أزمات بالأخص حالة الاكتئاب التي داهمتها وجعلتها تبتعد لمدة عن العمل في فترة قرر بها مديرها منح علاوة تشجيعية للعمال ولكن هذه العلاوة ستأتي على حساب وجودها بعد فصلها، ولكن وحفاظاً على حقوق العمال و حالتهم النفسية ويظهر معه كمدير ديمقراطي وحريص على شراكة عماله لقرارات الإدارة فهو لن يفصلها إلا بعد تصويت يضع به العمال بين خيارين بقاء ساندرا أم العلاوة، التصويت يجري ضدها ولكن جولييت صديقة ساندرا التي صوتت لصالحها تعلمها إن المشرف على العمال مارس ضغوط على بعضهم ليصوتوا ضدها وبناءً على هذه الحقيقة يوافق المدير على إعادة التصويت ويمنح ساندرا فرصة يومين وليلة لتؤثر على زملائها وتجعلهم يصوتون لصالحها مضحين بعلاوة تبدو معيناً جيداً لهم في وقت تمر به أوروبا بأزمة مالية خانقة.
العمل شديد الغنى درامياً على الصعيد الشخصي فيما يخص ساندرا وعلى الصعيد العام حول انعكاسات الأزمة الاقتصادية الأوروبية، تبدو حالة ساندرا تثير الحسرة وهي تضطر للتوسل لزملائها وتتذلل لهم ليتخلوا عن علاوة هي تدرك جيداً حاجتهم لها في سبيل بقائها بعملها، وتأتيها هذه الأزمة كتهديد خطير لصحتها وهي بحالة تعافي من اكتئابها ومعها تتدهور حالتها لدرجة توصلها لمحاولة انتحار، وخلال هذه الرحلة تعيش ساندرا مختلف الحالات والأزمات النفسية والعاطفية، شعورها وهي تمر بمرحلة تهديد خطير لحياتها العملية بخسارة دخل تحتاجه جداً لتسديد أقساط منزلها والفواتير وتلويح شبح العودة للمساكن الجماعية، اضطرارها لمنازعة زملائها على حق وامتياز انتظروه وأرادوه ويحتاجوه و إحساسها بالذنب لذلك وخشيتها من كيفية تعاملها معهم إن فازت بالتصويت بعد أن حرمتهم العلاوة ، وشعورها بضئالة قيمتها وعدم أهميتها لزملائها التي عاشت معهم طويلاً وتقاسمت معاناتهم وأفراحهم وأمالهم حين صوتوا بالأغلبية على فصلها وكأنها كائن مجهول بالنسبة لهم ولا تعني لهم شيئاً، واضطرارها خلال هذه الرحلة لاكتشاف طبائعهم ومواجهة الصدمة بحقيقة الكثير منهم، من ناحية أخرى تبدو تلك التجربة هامة جداً لساندرا لإصلاح علاقتها بزوجها المتدهورة بفعل اكتئابها وضغوط عملها وهذا المحور يبدو شديد الجمال والانسجام مع القصة العامة ويعطي خصوصية للشخصية ويجعلها أكثر إنسانية وقرباً للمشاهد ويزيد في دراما العمل والتأثير العاطفي العفوي للمشاهد.
الدراما العامة في العمل شديدة الأهمية والذكاء، حالة المآزق الذي يقع به العمال وهم يضطرون للاختيار بين زميلتهم والعلاوة، تبدو شخصيات العمال أيضاً مؤثرة وإنسانية ، لا تبدو أبداً سلبية حتى حين رفضهم لطلب ساندرا، الدالدريز يشرحون مواقف العمال ومدى حاجتهم لهذه العلاوة التي تمثل منجداً لهم وفرجاً في هذه الضائقة الاقتصادية التي عانت منها القارة العجوز بشكل يجعلنا نراهم ضحايا أيضاً يمكن لنا أن نفهم موقفهم ونتفهم قرارهم ولا نلومهم على خيارهم، وكل شخصية من شخصية العمال مصنوعة بخصوصية يجعلها فريدة ومميزة عن البقية وللجميع لهم موقف مبرر من هذا الخيار، ويبدو الدالدريز أذكياء بتعرية العلاقات الإنسانية ووضعها بتحدي أمام الحاجة الاقتصادية التي فرضتها الأزمة.
قمة الذكاء بالعمل هو بتصويره الرمزي لحقيقة أسباب الأزمة الاقتصادية ، فالمشكلة التي تقع بها الشخصيات هي بكل بساطة بسبب قرار من الإدارة التي حاولت أن تتهرب من مسؤولية فصل ساندرا برميه على العمال، كان من الممكن للإدارة أن تفصل ساندرا دون الرجوع للموظفين وهي تملك المبررات لذلك، وكان من الممكن أن تزيد ساعات العمل مقابل منحهم العلاوة، بل حتى حين قرروا إرجاع ساندرا كان من الممكن أن يقرروا ذلك دون أن يعودوا لها ويخبروها إن عودتها ستكون مقابل عدم تجديد عقد أحد العمال الجدد، قرار الإدارة رمى العمال بتلك الدوامة وهذا الصراع وشغلهم عن حقوقهم الأصلية وعن التفكير بطريقة لحل يرضي الجميع، وتبدو هذه الحالة تصوير لأسلوب القيادات الرأسمالية وللديمقراطية الغربية المزيفة التي تضيّع الشعوب بتفاصيل بسيطة ونزاعات مختلقة تعميهم عن أسباب المشكلة الحقيقية وعن أساليب الحل ومعها تبدو تلك السياسة التضليلية هي سبب كل انحراف ومشكلة اجتماعية بدءاً من الخلافات العائلة والأزمات النفسية الشخصية إلى تفجر بعض الشخصيات بعنف غير مكبوح، حتى حالة اكتئاب ساندرا وبرودة علاقتها مع زوجها رغم إن الدالدريز لم يشرحوا أسبابها بشكل مباشر ولكن تصوير شكل العلاقات الهش بمجتمع مضطرب كهذا وعلى وشك الانفجار يجعلنا لا نستغرب أن تعاني شخصياتها من اكتئاب قد يدفعها للانتحار، ورغم ذلك فإن الدالدريز لا يذهبون بالاكتئاب والسوداوية إلى أقساها فنتيجة التعادل بالتصويت هي مساحة أمل لوجود شيء من النخوة والإنسانية في العلاقات الاجتماعية الحديثة ولكنها مهددة وقد لا تصمد طويلاً.
صناعة الدالدريز للعمل مذهلة، السيناريو ممتع بتفاصيله وحواراته القريبة للأحاديث اليومية العادية البسيطة وبنفس الوقت شديد العمق والتعقيد والأهمية، والإخراج على مستوى السيناريو من حيث جمال التفاصيل البصرية والمكانية الواقعية وجمال التصوير الوثائقي القريب للصورة التلفزيونية ببساطتها وشديد الجمالية والحميمية، لديهم بهذا العمل جمالية خاصة باستعمال اللقطات القريبة والطويلة، يهتمون بالاستغراق بالشخصية بتصوير ملامحها انفعالاتها الداخلية ونزاعاتها الصامتة وردود أفعالها وهذا الأسلوب كان يحتاج لأداء من نوع فريد لشخصية ساندرا وقد عثروا عليه من خلال ماريون كوتيلارد القوة الحقيقية بالعمل، هي تحمل الفيلم كله على كاهلها وتقدم معه أحد أفضل أدائاتها على الإطلاق، أدائها لا يحمل ذرّة ضعف على طول العمل الذي تظهر في جميع مشاهده، تبدع بتقلبها مع كل الحالات النفسية التي تمر بها الشخصية والتي تصل لأقصى درجات الضعف والانهيار حتى الانتحار، هي رائعة جداً بمشاهد طلبها الاحتفاظ بعملها، تبدو تتوسل بطريقة لا تنغمس فيها نحو قعر الإذلال وبلهجتها تبدو فيها الكثير من الإحساس بالذنب نحو صحبها، وأعظم المشاهد تلك التي تتهرب فيه صديقتها المقربة من لقائها وتبتعد هي عن منزلها بعيداً ضمن لقطة طويلة صامتة تعطيها ماريون بنظرة عينيها الحزينة ابعاداً شديدة الدرامية والإنسانية .
الدالدريز قدموا عمل اعتقد إنه سيتم التعامل معه على إنه من كلاسيكيات السينما الفرانكوفونية، ربما هو أفضل الأفلام التي عرّت آثار أزمة منطقة اليورو على الصعيد الإنساني والاجتماعي وقدم معالجة درامية شديدة التمكن والجمالية، هو عمل يصور لنا إلى أي مستوى يمكن أن يذهب له الإنسان في سبيل الدفاع عن رزقه وتأمين حاجيات عائلته في مجتمع يذهب بطريق الانحدار والانهيار مع أزمة لا تبدو لها نهاية وتبدو معها العلاقات الإنسانية والأخوة البشرية أول ضحايا هذه الأزمة، هو عمل يجعل المشاهد يضع نفسه ويتخيل كيف سيتصرف مكان كلا الطرفين، هو عبارة عن محاكمة كلا الطرفين فيها ضحية وكلا الطرفين فيها جاني .
10 / 10

 

0 التعليقات:

إرسال تعليق