مع نهاية كل فيلم
من أفلام مايكل هانك يكون السؤال الوحيد المطروح أمامي كيف يستطيع هذا الشخص أن
يخرج مواضيع أفلامه الغاية بالتعقيد بهذه البساطة العجيبة وكيف يتحدى كل قواعد
التأثير السينمائي باستعماله أكثر أساليب السرد السينمائي تقليدية، لا يغير شيء
بقواعد السرد ولكنه يجعلها بغاية الجفاف بعيداً عن اي مؤثرات خارجية بالضوء
والمكياج والموسيقى ويرمي عبئه كله على ملامح الممثل وتعابيره ولقطاته الدلالية
الذكية والرائعة. هذا الفيلم أول
فتوحات هانك في مهرجان كان ، ظفر بجائزة لجنة التحكيم الكبرى عام 2001 واستمرت
فتوحاته بأن نال جائزة الإخراج عام 2005 عن إختفاء و السعفة مرتين عن فيلميه المتتالين
الشريط الأبيض 2009 وآمور 2012 وكلاهما فاز بالغولدن غلوب والثاني فاز بالبافتا والأوسكار
ليكون هانك من القلة الذين جمعوا الثناء الأوروبي والمديح الأمريكي، ورغم إن معملة
البيانو بداية الاعتراف الرسمي العالمي بأهمية هانك الفنية ولكنه بالنسبة لي ربما
الأقل عظمة بين رباعيته الكاناوية.
الفيلم يتحدث عن
آريكا (إيزابيل هابيرت) معلمة البيانو العانس في أحد المعاهد الفنية الراقية في
باريس والمتوحدة المتفرغة تماماً لحياتها الفنية ولوالدتها الاستحواذية الصارمة
المتسلطة (آني جيراردوت) ، تلتقي في أحد الحفلات بوالتر كليمر (بينويت ماجيمال) شاب
يصغرها بالسن مهندس كهربائي يفتن بولعها بالبيانو وعزفها ويقع بهواها ويحاول
التقرب لها واقتحام عالمها محدثاً زلزالاً بكيانها وعائلتها.
الفيلم يبدأ بمشهد
بغاية التعبير والقوة كان كافياً لوحده ليعبر عن مشاكل وصراعات آريكا وآساس عقدها،
حين تعود للمنزل متآخرة وتتشاجر مع والدتها بسبب تآخيرها ورغبتها بالخروج للسهر،
تكون تريد ارتداء فستان مكشوف تمزقه والدته وينتهي الشجار بتبادل الضرب ثم
المصالحة ومكوثها معها وعدم مغادرتها لمكان، يبدو دور هيمنة وصرامة الأم عنيفان
عليها تبدو هذه الأم المتسلطة التي قادت ابنتها لتصبح معلمة البيانو ما زالت تهيمن
عليها وتتابع حفلاتها وعروضها وكأنها ما زالت تتدرب وتحرص عليها وعلى تأيدها
ومشاركتها في كل مكان وتحيط بها وتأسرها حتى لا تبتعد عنها وتغادرها إلى اي مكان
وتنقل الاستحواذ والسيطرة منها إليها.
هذا العمل ربما هو
الإعادة الواقعية لتحفة براين دي بالما (كاري) الصراع بين الكبت والشهوة يجسد هنا
بشكل شديد الصرامة والقسوة لم ترى مثله السينما كثيراً، من اعتبر فيلم البجعة
السوداء وحشياً وعنيفاً بتصويره لحالة الكبت التي تعيشها الأنثى وإنعكاسات الإنغماس
المهووس بعالم الفن على حياة الفتاة وعلاقتها بوالدتها فهو بالتأكيد لم يشاهد هذا
العمل، في هذا الفيلم يوازن هانك بعبقرية بين حالة الشهوة والشبق التي تسيطر على
إيريكا ويجعلها تعبيراً عن رغبتها الشديدة بالتحرر والخروج عن سيطرة والدتها
والانطلاق للعالم، ثورة إيريكا لم تبدأ بدخول والتر حياتها هي تشتعل طويلاً
بداخلها ولكن دخولها وجهها نحوه جعله مصب كل عقد وآلام وكبت السنين الماضية.
هانك يصور لنا
حالة المهووسة بالفن والإنجاز ليس آثناء سعيها له بل في مرحلة ما بعد نهاية العمل،
بعد أن أنهت أيريكا كل الأختبارات والدروس والجهد وحصلت على النتيجة التي تبغيها،
لم تصبح عازفة بيانو عظيمة كما آرادت رغم اتقانها كل المقطوعات وفهمها عن ظهر قلب
أصبحت معلمة بيانو في هذا المعهد البارد شيء يبدو صادماً ويبدو معه كل الجهد الذي
بذلته ضاع هباءً، تصور هذا كسجن يأسرها نراها أثناء تعليمها للتلاميذ تتجه نحو
النافذة تراقب العالم الذي تريد اقتحامه وخوضه ولكنها لا تستطيع ليس فقط من والدتها
بل شيء في داخلها يأسرها شيء من الاعتياد على النمطية والتقليدية والآسر حين يصبح
السجن هو الحياة الحقيقية لقاطنيه ولا يستطيعون التأقلم أو تخيل كيف الحياة خارج
القضبان، يصبح السجن داخل الإنسان ليس هو بداخله.
العمل يسير على
ثلاثة محاور يصور بها هانك الصراعات الداخلية العنيفة داخل إيريكا، حالة الشبق
الجنسي المتآزمة لديها التي تجعلها تذهب بالسر إلى محلات بيع أفلام الدعارة وتمارس
فيها شيء من طقوسها الجنسية الخاصة الغريبة، تتابع لوحدها فيلم بالهواء الطلق
وتبحث عن قصد أو غير قصد عن عاشقين يمارسان الجنس في سيارة وتستمني عليهما، تجرح
نفسها بشفرة داخل حمام بيتها لتصور الأمر وكأن الطمث راودها رغم انقطاعه عنها تعبير
عن رفضها لتقدمها بالزمن وإصرارها على إنها ما زالت صغير صالحة للزواج والمعاشرة
والإنجاب شيء من التعبير عن إنتظارها لشيء يغيرها وينقلها، وفي هذه المشاهد الثلاث
تتعامل ايريكا مع نفسها معاملة المجرمة، معالمة من ارتكب جناية يحاول إخفائها
التستير عليها حتى لا يفضح، اثناء جرحها لنفسها تغسل الدم وتمسح جرها وتضع الفوطة
ثم تسرح شعرها وتخفي الشفرة وكأنها تخفي معالم جريمة، الحالة الثانية أثناء
تعليمها للبيانو لتلاميذها لا يبدو لديها أي عاطفة أو شغف أو تشجيع للتعليم يبدو
الأمر بأكمله حالة من الصرامة والمقت والقسوة تريدها أريكا كتعبير غير صريح عن
نداء للأطفال للهرب والانطلاق في العالم، تعاملها مع آنا الفتاة المتفوقة في صفها
يبدو فيه شيء من القسوة الزائدة، الفتاة الأكثر تفوقاً في صفها الأكثر براعة ترفض
حضورها لحفل العزف، والدتها تصر وتتحدث عن حالة الهووس التي تتملك أبنتها حولها
وحول البيانو وآثناء الحفل وحين يبدأ والتر بالتقرب لها وتشجيعها تقوم بجرح يدها،
مشهد عظيم فيه تصوير لحالة الغيرة التي ملئتها من تلك المراهقة لجذبها للشباب الذي
تحب وشيء من النداء لتلك الفتاة التي تملك فرصة للنجاح والعيش في حياة طبيعية حتى
تنسحب وتترك البيانو ثم تأتي هي لتحل محلها، شيء من التناقض والتنافر في تصرفها ولكن
ما يحويه من شفقة على تلك الفتاة يبدو واضحاً حين تأتي أمها وتحدثها عن هوسها بتعلم
البيانو وتقول (ضحينا بكل شيء) هي ترد عليها : (هي ضحت بكل شيء) جملة يبدو فيها
شيء من الدفاع عن نفسها وعن جهدها وتعبها هي حين كانت في عمرها، حين بذلت هي كل
التعب وضحت بكل شيء لتحقق النجاح الذي ترغبه والذي تستحقه ثم تأتي أمها الصارمة
لتسرق هذا النجاح وتنسبه لها، شيء يبدو بجرحها ليدها عقوبة لوالدتها وإنقاذ لها من
مصير مقيت ينتظرها.
بعد حالدثة الجرح
واكتشاف والتر لها وتفسيرها على حب إيريكا وغيرتها عليه يتجه إليها ليمارس الجنس
معها لأول مرة، مرحلة الدخول في تلك العلاقة الغريبة والعنيفة بين إيريكا ووالتر يبدو
فيه شيء من التحرير والانتقام من إيريكا، تطالب والتر بطقوس سادية غريبة وتعامله
بسادية غريبة، تضع له سلسلة من الطلبات المنفرة والغريبة الأطوار لشخص يريد علاقة
طبيعة، شيء تصر به على تحطيم احترامها وإذلال نفسها ووالدتها تمزيق شكل المعلمة
الصارمة الباردة، توجيه الصفعات لمعاقبتها ولإيقاذ الأنثى بداخلها وفي نفس الوقت
تعبير عن رفضها للاصياع التام واصرارها على السيطرة والتسلط وتسيير كل الأمور حسب
طريقتها، في نفس الوقت يبدو إنه غيّرها أصبحت أكثر اهتماماً بشكلها وترتدي ثياباً
أكثر حرارة وأنوثة، وحين يرفض تهرع هي إليه تقدم له جسدها تذل نفسها عقوبةً لها
على تنفيرها للشخص الوحيد الذي أحبها بصدق ولكنها تتقيئ وسابقاً آثناء الدرس
تنتابه معه نوبة من السعال شدة الكبت التي وصلت لها وهيمنة فكرة رفض الجنس والجنس
الآخر عليها جعلها تسيطر حتى على جسمها وتوجه أجهزتها الداخلية لترفض دخول أي
مخلوق آخر عليها والدفاع عن نفسها ونبذها للآخر، وحين تصل لمبيتغها أثناء اقتحامه
لمنزلها وأغتصابها وضربها وإذلالها كما تريد تبدو معه إيريكا ميتة لا تتفاعل لا
تقاوم ولا تجاوب وكأن الجسد ليس جسدها وكأن الشيء الإنساني بداخلها مات ولا يمكن
أحيائه لا بالعاطفة ولا بغيره، في المشهد الآخير العظيم وفي حفلة البيانو لا يبدو
ما قامت به إيريكا انتحاراً، هي لم تقتل نفسها هي طعنت لنفسها كنوع من الإيقاذ
والعقوبة، ثم خرجت من القاعة ناشدةً التحرر من هذا المكان ومن والدتها ومن البيانو
وجمهورها وزملائها وطلابها وطالبةً لعالم جديد عالم تبدأ فيه كما قال لها والتر من
جديد، هي لم تنتظره لتقتله السكين لم تكن له، هي انتظرته ليأتي إن أتى وتبدأ معه
صفحة جديدة فعندها كل شيء سيكون على ما يرام ولكن عدم قدومه – وهذا الأمر المنطقي
- يعني إن كل شيء انتهى نهائياً وأحرقت كل فرصها ولم يعد أمامها سبيل لإنقاذ نفسها
سوى تمزيق هذا المعطف الرمادي البارد، تمزيق هذا الجسم الميت علّه يخرج منه إنسان
حقيقي.
العمل العظيم الذي
يقدمه هانك هو بتكتيه لصنع الحدث لعرض تراكم الأحداث تراكم المشاعر وقيادتها
لأيريكا بإحاطته لتفاصيل عالمها، بتصويره المشوق والوحشي لدرجة السادية لحياتها
ومعاملة المشاهد بشكل فضولي المتلصص وهو يلاحقها، يبدو قادراً كعادته وبسلسلة من
المشاهد التعبيرية البسيطة والمتقنة وبسرده الممتاز وبناءه المنطقي المبهر عن
الإحاطة بكل التغييرات والصراعات التي تعيشها الشخصية وأن يوصلها لها بمنتهى
البساطة رغم إصراره على الابتعاد عن وسائل التأثير السينمائية، يبدو هنا يبيح
لنفسه استخدام الموسيقى في الحدود الدنية مستفيد من مقاطع العزف الرائعة في العمل
ولكن حتى الموسيقى لم يتم استخدامها للتعبير عن المشهد وإنما فقط كضرورة فنية كالديكور
ومع ذلك وفرت جو آسر في العمل ، عظمة العمل تحمل جزء كبير منها إليزابيل هبيرت
بدور أريكا، فرغم القوة التي قدمتها آني جيراردوت و بينويت ماجيمال ولكن لا شيء أمام هيبرت، أداء
بغاية الصعوبة والتعقيد والتمكن والقوة والألم، الحفاظ على الشكل البارد المتصدع
من الداخل، الشبق والشهوة المكبوتان بعنف، الموت الإنساني لأي عواطف وأحاسيس
بداخلها وهيمنة التسلط والقسوة عليها ثم ثورتها وانتقامها من ذاتها ومن والدتها بجرأة
وعنف شديدان ومتقنان، هو أحد أعظم الأداءات النسائية التي يمكن أن تشاهدها يوماً .
9 / 10
5 التعليقات:
تحليل حلو جدا للفيلم ، شكرا جدا 😍😍
|تحليل ممتاز وعظيم شكرا جدا
تحليل رائع لم أفهم النهاية الان فهمتها
مين العظيم اللي كتب التقرير؟ احتاج اعرف باقي اعماله بليز
اداء هوبير رائع إدانة للسيطرة والكبت والتسلط اخراج رائع
إرسال تعليق