RSS

Rust & Bone - 2012



الغريزة والعاطفة الجسد والروح القدرة والإعاقة الحب والرغبة، مواضيع تكررت كثيراً في السينما ولكن جان أوديار يصنع لها مذاقاً مختلفاً، يقدمها بشكل مختلف، يمزج بينها بشكل رائع، دراما رائعة لا يتقن سوى الفرنسيين صنعها – كما قال أحد النقاد – جان أوديار بعد تحفته (النبي) عام 2009 الفائزة بجائزة لجنة النقاد في كان وبافتا وترشيح للأوسكار يعود هنا ليثبت نفسه إنه عن جدارة أحد كبار المخرجين الفرنسيين المعاصرين.


أوديار يخرج هذه المرة عن عالم السجون والعصابات ولكنه يبقى في محيط الناس المهمشين الضائعين في زحمة المجتمع، يبتعد عن الهم الاجتماعي وإفرازات الحضارة ليدخل أكثر في نفوس شخصياته وعقدها الداخلية وصراعاتها وعلاقاتها فيما بينها، يرسم شخصيتين فريدتين بطريقة شديدة الرقي والإحكام ويصنع بينها علاقة شديدة الغرابة ، يرمي ثقل عمله على ممثليه الرائعيين  ماثيوس شونارتس وماريون كوتيلارد ويستخرج منهما أدائيين شديدي الإبداع والإبهار، هو أشبه بعوالم ألمودوفار حيث الشخصيات الفريدة والعلاقات الغريبة في مجتمع غريب ولكن يصنعها بشكل أكثر قتامة وسودواية وأصالة ليصنع معها عوالم سينماه الخاصة حيث الشخصيات – كما كانت في نبي – تبحث عن انتمائها عن الآخر عن عالمها الخاص عن هويتها الخاصة في مجتمع غريب عنها وغريبة عنه .
الفيلم يتمحور عن علي (ماثيوس شونارتس) ومنها يصنع جان أوديار أحد أفضل شخصيات السينما بناءً، شخص مستسلم بالكامل لغريزته ، لا تهتم لماضيه أو اصل عالمه لأنه لطالما كان كذلك، شخص جاهل وحيد تربى على الفطرة والغريزة، يعيش يومه فقط لا يستقر بمكان لا يستقر بعمل، لا يوفر اي طريقة للعثور على طعامه إذا جاع حتى لو لجأ إلى القمامة، ولا يوفر اي فرصة لإشباع غريزته الجنسية وينغمس بعالم المصارعة كتفريز للطاقة العنيفة الحيوانية بداخله، لا يعرف أي لياقة اجتماعية أو عاطفة إنسانية اتجاه أي أحد حتى أبنه الذي كان نتاج علاقة عابرة ويعامله كحيوان رغم محبته له، علي ينتهي به المطاف مع اخته التي تعمل كمحاسبة في مركز تجاري ومتزوجة من سائق شاحنة يؤمنان له عمل كحارس في نادي ليلي – وهي واحدة من بين عدة وظائف يتنقل بينها خلال العمل – ويلتقي هناك بستيفاني – ماريون كوتيلارد – التي ينقذها من تحرش أحد الزبائن بها وشخصية ستيفاني يصنعها أوديار بشكل محكم جداً، مدربة دلافين الوحيدة – رغم إنه تظهر بالعمل على علاقة غير مستقرة ومنهارة بأحد الشبان - لا تشعر بإشباع كامل لأنوثتها أو بأي ثقة بشخصيتها وبنفسها، تعثر على ذاتها بارتياد النوادي الليلية وإغواء الزبائن وبعد حادث عنيف أثناء أحد العروض البحرية تخسر ساقيها وتخسر معهما كامل أنوثتها وجاذبيتها وتخوض رحلة خاصة لاكتشاف الذات.
في عالمها الجديد الوحيد تتصل ستيفاني بعلي، يبدو هو الشخص الوحيد الذي تعرفه بعالمها الوحيد وإنقاذه السابق له يحرك بداخلها شيء لا شعوري إنه الإنسان الوحيد الذي يمكن أن تعتمد عليه وينقذها في محنتها هذه، إعاقتها وشكلها المثير للإشفاق يحركان شيء من الإنسانية والعاطفة داخله ومن خلال صداقتهما التي تتطور إلى حب غريب حب روحي قبل أن يكون جسدي يخوض الاثنان رحلة خاصة للخلاص والتغير.
أوديار بإبداع يصنع ثلاثة قصص وثلاثة افلام ضمن فيلم واحد وجميعهم متشابكين معاً بشكل شديد الروعة، يبدو عملاً مبهراً من أعمال الإعاقة والتعالج منها، ويبدو فيلماً عظيماً عن شخصية متحررة من أي رباط إنساني أو عاطفي ويمزج بين هاتين الشخصيتين ليصنع علاقة متبادلة محكمة ومبهرة جداً وقصة رائعة عن التغيير والارتقاء، لا تشعر بأي ضعف بأي محور من المحاور الثلاثة ولا تشعر بأي انفصال بينها أو إن أي محور طغى على الآخر أو حجمه، تراقب مأساة ستيفاني وتعايشها معها وتخطيها لها، وتتابع بفضول حياة علي وتدخل بعالمه الخاص وتعيش يومياته، وتهتم تلك العلاقة الحذرة الغريبة بينهما وتستمع بمتابعة التغييرات التي يحدثانها عن غير قصد بعالم بعضهما، أوديار يصنع فيلم قاسي ولكن شديد الجاذبية والشاعرية وبنفس الوقت مشوق للمشاهد ومؤثر له جداً ويقدمه ضمن صورة بصرية شديدة الجمالية والإتقان، يدخل بأسئلة عميقة عن حياة الإنسان وعلاقته بغريزته وصراعها مع روحه، عن عاطفته وارتباطها بجسده، يبدو رائعاً وأنت تراقب شخصية بحاجة ماسة للآخر وتحاول العثور على ضالتها عند شخص يرفض الآخرين ويصر على الابتعاد والعيش بقوقعته الخاصة ولكنه يستجيب لها حين يسمح لعاطفته وروحه بأن تقودانه قليلاً، هو فيلم شديد الحميمية والعاطفية والأدائيين المبهرين من شونارتس و كوتيلارد – في أفضل أدوارها منذ الحياة الوردية – يعطيان الفيلم تلك العاطفة والشاعرية المطلوبة، ربما كنت تمنيت لو أن أوديار اهتم أكثر بعلاقة علي بأخته أو بصديقه بالعمل واهتم أكثر بهاتين الشخصيتين بالأخص لما ترمزانه عن فقير يعمل بخدمة الأغنياء ضد الفقراء مما يوحي إلى شخص منفصل تماماً عن مجتمعه ويعيش بعالمه الخاص بلا أي ضمير أو تفكير ، أو لو إنه أعطى مساحة أكبر لعلاقة علي بابنه – رغم إنه يعطيها مساحة ممتازة ومناسبة – ولكن ذلك لا يمنع أن أعتبر الفيلم أحد أفضل الأعمال الدرامية التي شاهدتها في المدة الأخيرة .
9 /  10 

0 التعليقات:

إرسال تعليق