RSS

High Noon – 1952


رغم إن لدي ملاحظتين رئيستيين على قائمة المعهد الأمريكي لأفضل 10 أفلام ويسترن على مرّ العصور وهي عدم وجود فيلم رقص من الذئاب ضمن أفضل 10 وخلوها من أي فيلم من أفلام سيرجيو ليوني، ولكني متفق تماماً مع ترتيبها لأفضل ثلاثة أفلام ووضعها لفيلم حرارة الظهيرة – High Noon  بالمرتبة الثانية.



الفيلم صنعه أحد معلمي الإخراج في أمريكا فريد زينمان (مخرج فيلم يوم أبن أوى والحائز على أوسكاري أفضل مخرج عن فيلمي From Here to Eternity  و A Man for All Seasons ) وانتجه المعلم الأخر ستانلي كريمر (العبقرية وراء فيلمي Guess Who's Coming to Dinner و Judgment at Nuremberg)، جاء في ذروة العهد الذهبي لسينما الويسترن في الخمسينات ليصنع عمل مخالف لكل ما نعرفه عن الويسترن، عمل يتحرر من إطار الصنف ليقدم دراسة تاريخية عظيمة عن الانتقال الدراماتيكي للغرب الأمريكي والحضارة الأمريكية بعد الحرب الأهلية من المرحلة القبلية العشائرية إلى مرحلة الحضارة المدنية وسيادة القانون، ويفعل ما أحبه وما تقوم به كل الأفلام العظيمة بالانتقال بين طبقتين من المواضيع عامة وخاصة وإعطاء كلاً منهما دراسة وافية مستفيضة، الطبقة الأولى الخاصة دراسة نفسية للتحدي المرهق الذي واجهه مارشال البلدة ويل كين ، والطبقة الثانية وهي عامة عن العلاقة المتشابكة والمعقدة بين الدولة والشعب وتعقيدات العقد الاجتماعي بينهما.
الفيلم الذي وضع نصه كارل فورمان (كاتب فيلمي جسر على نهر كاراوي و مدافع نافارو) يدور عن الساعة والنصف المرهقة التي قضاها المارشال ويل كين (غاري كوبر) في أخر أيامه كمارشال عشية زواجه من الوافدة عن البلدة إيمي (غريس كيللي) مع سماعه نبأ إطلاق سراح المجرم فرانك ميللر وعودته مع عصابته إلى البلدة على قطار الظهيرة للانتقام من سجانه ويل كين، ويل كين يعجز عن حشد الدعم اللازم من أهالي البلدة لمواجهة العصابة، الكل يتخلى عنه حتى أقرب الناس له وينصحوه بالهرب، ولكن ضميره وإحساسه بالواجب ورجولته يمنعاه من المغادرة، ويختار المواجهة منفرداً في أحد أشهر وأجمل المواجهات في سينما الغرب الأمريكية.
هو من الأفلام النادرة التي تدور أحداثه في نفس مدة عرضها، ساعة ونصف من العرض السينمائي تعرض الساعة والنصف من ظهيرة ذلك اليوم الحار، ولكنها ساعة ونصف مكثفة جداً ومشبعة، زينمان يدخلنا جو العمل منذ المشهد الأول الافتتاحي  حيث تجتمع العصابة على خلفية الأغنية الرائعة (Do not Forsake me, oh my Darling ) ثم دخولهم البلدة اتجاهاً الى محطة القطار، و يصور لنا زينمان ردود أفعال أهل البلدة بين خائفين ومستعجبين ليوحي لنا بمدى خطورة أولئك العصبة وبأن هذه البلدة أمنة منذ زمن طويل لم تعتد رؤية المجرمين وعودتهم الأن لا بد أنه لسبب جلل، وفي نفس الوقت يقدم لنا زينمان لمحات عن سلبية أهالي البلدة مع دخول المجرمين ، فبعضهم يقيده الخوف وأخرون شامتين بل ومتحمسين لنشوب معركة في البلدة والتخلص من المارشال،  ينتقل بعدها زينمان لتقديم شخصية المارشال ويل كين فنراه وهو يعقد قرانه على إيمي فتاة غريبة عن البلدة في يومه الأخير من شغل وظيفة المارشال قبل ان يتجه للعمل كمحاسب في أحد المعامل ، تصوير يوحي بأمريكا الحديثة التي نبذت التقاليد القبلية القديمة وتريد دخول الحضارة الحديثة بقيمها القائمة على الديمقراطية و سيادة القانون والمدنية والابتعاد عن القيم العشائرية القديمة.

أجمل مافي هذا العمل هو تصويره للبطولة بأبعاد إنسانية وبشرية، المارشال ويل كين وبقرار منطقي يختار الهرب في البداية والمضي بحياته، ثم يقرر العودة أيضاً لأسباب منطقية، ليست فقط نوازع البطولة والإحساس بالواجب بل إدراكه إن هربه بلا سلاح هو مخاطرة، كما أن هربه لن ينهي مشكلته، ففرانك ميللر وعصابته سيستمرون بملاحقته والحل الوحيد هو بالمواجهة، هو تجسيد حقيقي لمعنى البطولة التي لا تواجه فقط الخطر الخارجي بل تتحدى شياطين الإنسان الداخلية، غرائز الخوف والنجاة والبقاء والحياة كلها تقف بوجه ويل كين وعليه أن يقيد مخاوفه قبل أن تقيده، هو تصوير رائع لشخص لا يدرك أنه بطل بل يكتشف البطولة الحقيقة بداخله عبر درب بغاية الصعوبة، فيلم عظيم بإعطائه كلمة الواجب أبعادها الحقيقة بأنه ليس شيء نختار القيام به بل شيء يجب علينا القيام به، شيء مجبرين عليه ومفروض علينا، وأداء كوبر عظيم بتقديم هذه الحالة البطولة الإنسانية، تشعر فيه رغم ثقته وصرامته ولكنه خائف دون أن يكون جبان أو ضعيف، خوف إنساني داخلي يكافحه قبل أن يلتهمه، يعطي الشخصية حجمها البطولي الملهم دون أن يفقدها إنسانيتها، يمنعنا من الإشفاق معها ويجبرنا طوال الوقت على احترامها حتى بأضعف حالاتها.
زينمان يهتم بتصوير أخلاقيات ويل كين ويركز عليها أكثر من أي شيء آخر بالعمل، نراه متمسك بالقانون بصرامة لدرجة أنه يرفض القبض على عصابة فرانك لأنه لا يوجد قانون يمنع تجولهم في البلدة على عكس ما كان يجري في الأيام الخوالي حين كانت كلمة المارشال وحكمه هو القانون، ورغم حاجته للمساعدة وطلبه لها ولكنه يرفض أن يتذلل لأحد لأجل ذلك، مليء بالكرامة والعنفوان حتى وهو ينادي على الناس، لا يريد عونهم بل يريد إيقاظ الشجاعة والمروءة بنفوسهم حتى يساعدوا أنفسهم فالخطر يهدد الجميع، فيرفض عرض هارفي بترشيحه كمارشال بديل عنه مقابل مساعدته لأنه لن يشتري المساعدة من أحد، وشخصية هارفي (لويلد بريدجز) مبنية بشكل جيد وتعطي مثال جميل عن الشكل الجديد للحضارة الأمريكية الشاب القوي الوسيم المفتول العضلات الطامح لأخذ مكان ويل كمارشال البلدة والذي يريد ان يكون مثله ويحظى باحترام ومحبة الجميع رغم إنه يفتقد لأدنى صفات ويل، هو جبان وصولي ثرثار انتهازي كل شيء عنده خاضع للبيع والشراء والمفاوضة، قوته فارغة فقط للإرهاب ولكنه أجوف ومهزوز و غير قادر على الصمود أمام أدنى التحديات ويفتقد لمعنى الشرف والواجب الحقيقي.
على ناحية أخرى في الفيلم تصوير عظيم للمجتمعات الأمنة التي أدمنت السلم حتى أصبح أمراً مسلماً به ونسيت التضحيات التي بذلتها من أجله ونسيت معنى الأحساس بالخطر الحقيقي، وأصبح الخطر والتهديد بالنسبة لها مجرد طقس لكسر الروتين دون إدراك أبعاده ونتائجه، نرى الفاسدين متحمسين لعودة فرانك وينتظرون تنفيذ وعده بقتله ويل وإسقاط النظام وإدخال الفوضى بالبلدة مجدداً ليتوفر لهم غطاء للعيش المرفه على حساب إرهاب الناس، بينما الأهالي متقاعسين عن المواجهة جبناً أو يأساً من جدوى القتال.

أهم مشهد باعتقادي هو مشهد هو مشهد الكنيسة، حيث يجتمع ويل مع أعضاء المجتمع ليناقشوا الخطر بشكل ديمقراطي، يبدو العقد الاجتماعي بين الدولة (ويل كين) والشعب (أهالي البلدة) أكثر تعقيداً مما يتخيله الجميع، هل الشعب مجبر على الدفاع عن الدولة التي يدفع لها الضرائب لتحميه؟، هل يجب على الشعب تحمل تقصير النظام وضعفه حين تحل الكارثة؟، ولكن أليس النظام هو حامي الدولة التي يتكون منها الشعب وانهياره سيدفع ثمنه الشعب؟ هل الاستسلام (المتمثل هنا بخروج ويل كين والسماح لفرانك بدخول البلدة) هو الحل الأنجع بالأخص إنه سيكفل للبلدة ولو ظاهرياً استمرار الأمن و الاستقرار الاقتصادي وسيحافظ على تدفق الاستثمارات الخارجية التي قد تهددها مواجهة دموية كالتي يريد ويل خوضها ضد فرانك وقد يهزم بها ويعرض البلدة لخطر انتقام فرانك؟، رغم إنهم يدركون أن هذا السلام كاذب وفرانك سينهي المدنية ويعيد البلدة إلى حكم القطيع، ولكنها لعنة السلام التي أصابت الاسلحة بالصدئ، هي لعنة المدنية التي اصابت السكان بالجبن والكسل وقضت على ما بداخلهم من نخوة وجعلتهم قابلين للاستسلام لأي خطر ولو على حساب الديمقراطية والنظام والعدل، وهو بنفس الوقت الحنين البدائي للقبلية والفوضى ورفض قيود النظام والمدنية الحديثة والرغبة باستغلال الموقف لكسرها
فريد زينمان يعطي المجتمع فرصة للدفاع عن نفسه وتبرير استسلامه من خلال شخصية زوجة ويل إيمي (غريس كيلي) التي شهدت قتل والدها وشقيقيها بمعارك مشابهة من أجل الحق وذهب موتهم هباءً ولم يتحقق العدل وبقي الشر يعود وينجح بالتسلل، يجعلها تتساءل عن صوابية ومعنى وفائدة خوض هذه المعارك التي يدفع الأفراد ثمنها ويخسرون حياتهم بصورة عبثية، هي تمثل صوت المجتمع الذي قدم الكثير من التضحيات لإحلال السلم والأمن ولكن تعقيدات السياسة وألاعيبها (المتمثل بالعفو عن فرانك وإطلاق سراحه) يجعل كل تضحياتهم تذهب أدراج الرياح وتعيدهم إلى نقطة الصفر فيفقدون الدافع لمتابعة القتال والنضال ويؤثرون الاستسلام الذي يمكن أن يوفر لهم الحفاظ على أدنى مكتسبات السلم، لذلك فلا أحد يريد خوض هذه المواجهة، لا يريدون عودة أيام الحرب والمواجهات الدموية إلى شوارع البلدة، يريدون السلم ولو جاء بالاستسلام ، ويل كين كذلك لا يريد الحرب ، يريد المضي قدماً بحياته وتعليق السلاح، ولكنه يدرك أن التخلص من تراث الحرب والمعارك لا يتم بالاستسلام لقطاع الطرق الذين سيحيون تراث الدم، بل بخوض معركة واحدة أخيرة، معركة حاسمة، يجتمع بها جميع أهالي البلدة ليصنعوا جميعاً وجه الحضارة الجديدة، ومهما كانت الخسائر فهي هذه المرة لن تذهب هباءً (يبدو هنا غير مستغرب السمعة والاتهامات التي طالت العمل بأنه يسوق لفكرة المكارثية والمعركة الأخيرة ضد الشيوعية المكلفة للحفاظ على شكل الحضارة الحديث التي ظهرت على انقاض الحرب العالمية الثانية والتخلص من النازية والفاشية)
حين يقرر الجميع الاستسلام يقرر ويل أن يبقى ويحمل لوحده عبء المواجهة، ليس فقط لأنه واجبه كرجل قانون بل لأنها معركة بقاء بالنسبة له، هو (وما يمثله من حضارة جديدة ومدنية ونظام) بوجه فرانك (وما يمثله من حضارة قديمة وفوضوية وعنف وقبلية) حرب عقليتين، حرب القديم والجديد.

فريد زينمان رغم العمق الفكري الذي يملئ به عمله والرسم الممتاز للشخصية الرئيسية ولكنه لا يهمل جانب الإثارة أبداً، هو يصنع مواجهة ويسترن كلاسيكية ممتازة، فأغلب العمل يحرص زينمان على ألا يعرض لنا فرانك ميللر ولكنه مع ذلك ينجح ببناء شخصيته وإعطاءه شكلاً وأبعاداً شريرة خطيرة تساعدنا على الإحساس بحجم التهديد والكارثة القادمة على البلدة من خلال الأحاديث التي تدور عنه والأساطير التي نسجت حوله، ثم يصنع مشهد وصوله بطريقة ممتازة من خلال قطع وموسيقى ممتازين ويبدء رجاله بممارسة الفوضى والتخريب في البلدة فور وصولهم.
مع وصول فرانك تهرب هيلين راميرز (كاتي جورادو) الغانية المكسيكية وعشيقة فرانك وويل السابقة وأحد أسباب خلافهمها (الماضي المشترك لكلاهما ) تعود زوجة ويل لتخوض معه معركته (المستقبل والحضارة الجديدة التي أختارها) كتعبير عن بادرة أمل بالمجتمع الذي بدء يدرك أهمية المدنية واهمية الاصطفاف لخوض هذه المعركة، تصميم المعركة ممتاز جداً ومشوق، أحد أفضل المواجهات في سينما الويسترن وبحجم التوقعات التي بناها الجمهور طوال وقت العمل، حين تقتل إيمي أحد المهاجمين تشعر بالآلم كتعبير عن قسوة الضريبة التي اضطر المجتمع لدفعها للحفاظ على المدنية، ثم يأخذ فرانك زوجة ويل رهينة لا يكون الأمر مجرد حركة إثارة في المواجهة، بل تعبير عن أن فرانك كان يأخذ البلدة كلها رهينة بمواجهته مع ويل، ولا يتمكن ويل من الانتصار وقتل فرانك إلا بعد أن تحرر هي نفسها، تعبير عن ضرورة مبادرة الشعب بتحرير نفسه حتى ينجح بالقضاء على الشر
النهاية فيها شيء من روح السخرية، البلدة التي تخلت عن ويل خرجت للشوارع لتحتفل به، والتابوت الذي صنعوه لدفن جثته به وضعوا به جثة فرانك، ويل يربت على كتف الفتى (الوحيد الذي تطوع ليشاركه القتال كتعبير عن أمله بجيل جديد ينشء بظل الحضارة المدنية ويقدرها ويدافع عنها) ينظر باستحقار إلى باقي الأهالي ( بقايا المجتمع والحضارة القديمة الذين خذلوه وتمردوا هليه) يرمي شارة المارشال على الأرض ويرحل.رشح الفيلم لسبع جوائز أوسكار منها أفضل فيلم ومخرج ونال أربعة منها أفضل ممثل لغاري كوبر (الجائزة الثانية في مسيرته) وأعاده إلى الأضواء بعد تراجع مسيرته، أطلق نجومية غريس كيلي ، هو فيلم عظيم عن صراع المدينة والنظام للسيطرة في وجه القبلية والفوضى، عن الرحلة الصعبة التي مرت بها أمريكا بعد الحرب الأهلية وإنتقالها من دولة عشائرية إلى دولة يحكمها النظام والقانون، عن البطولة الحقيقية ومعناها.

نور الدين النجار

10/10

0 التعليقات:

إرسال تعليق