RSS

The Master-2012


لدي علاقة غريبة مع هذا الفيلم، أذكر حين شاهدته للمرة الأولى عام 2012 كيف صدمني بقوته وقلتها إنه فيلم عامه، ثم أعدت مشاهدته بعد أيام وشعرت إن السحر خف، كان لدي مشاكل مع خفايا ونوازع شخصية لانكستر دود وتساؤلات حول سر علاقته بفريدي كول، ثم جاءت النهاية التي كانت كفيلم أندرسون السابق (There will be blood) ليست صادمة ولكن حضورها صادم، تأتي بوقت صادم تشعر فيه إنه كان هناك المزيد ليقال لم يقله أندرسون ، بعد المشاهدة ثانية خف تقيمي للعمل ولكن لم أكرهه، وخلال تلك السنين شعرت برغبة لأشاهده مجدداً، كان هناك أمور كثيرة تغريني لأعيده، الاداءات الجبارة من ثلاثي العمل بالدرجة الأولى والرغبة بإعادة اكتشاف المستور فيه مجدداً ومحاولة المصالحة معه وفهمه أكثر، أعدته مجدداً في أحد العروض التلفزيونية بطريقة محايدة وركزت فيه أكثر وحاولت أن ألتقط إشارات ودلالات أندرسون الصعبة لأمشي على الطريق الوعر الذي شقه بفيلمه ، وشعرت أني وصلت وتأكدت من وصولي بعد المشاهدة الرابعة وتصالحت مع كل الأمور التي أرقتني بالمشاهدة الثانية، اكتشفت عدم صوابية انطباعي حولها وإنني فعلاً كنت أمام أحد أهم منجزات السينما للقرن الحالي إن لم يكن أفضلها.



الأمريكي بول توماس بفيلمه هذا الحائز على ثلاث جوائز من مهرجان فينيسيا السينمائي (الأسد الفضي لأفضل فيلم، والأسد الذهبي للإخراج، والأسد الذهبي للتمثيل مناصفة بين فونيكس وهوفمان) يتحدث عن الأشهر التي قضاها الجندي الأمريكي المضطرب نفسياً فريدي كويل (واكين فونيكس) من عام 1950 كتابع وتلميذ وفأر تجارب للفيلسوف البروفيسور لانكستر دود (فيليب سيمور هوفمان) الذي يعمل على نشر معتقد ديني روحاني جديد من ابتكاره يقوم على التقمص وتناسخ الأرواح والعودة الروحية بالزمن إلى الماضي إلى حيواتنا السابقة وعلاج الألم فيها لتصل روحنا إلى جسدنا الحالي هذا معافاة من الآلام الماضية ونحظى بحياة سعيدة بل ونشفي أجسادنا من الأمراض التي تنشأ على الأغلب لأسباب نفسية، بول توماس أندرسون لا يهتم كثيراً لشرح دعوة لانكستر ولا يجعل من مقام نزاعه ونضاله وانتشاره غايته الأولى ولا يجعلنا نتعرف على لانكستر سوى بإطار الضروري للعمل، رغم إن هذه العناصر مغرية جداً لتقديمها بالأخص إنه يقتبس شخصية الماستر ومذهبيه من مؤسس مذهب السنتلوجية أل رون هبيرد – الأمر الذي سبب لأندرسون مشاكل في هوليوود مع أتباع المذهب من المشاهير وخصيصاً صديقه وشريك نجاحه في مغنوليا توم كروز الذي كان من الممكن أن يشارك بالعمل –
بول توماس أندرسون يهتم أكثر بشخصية التابع فريدي كويل ويجعلها بوابة لندخل عالم السيد، ينسج بينهم علاقة استغلالية مليئة بالنفاق والتلاعب والكذب كعلاقة دانيل بلانتفيو وبول سانداي في سيكون هناك دم، ولكن هنا العلاقة أكثر صعوبة وغموضاً بالنسبة للمشاهد، تحتاج للكثير من التركيز ولكن لا تحوي خلل، ربما الغموض الذي يغلفها يوحي بذلك ولكن حين تتأملها تكتشف إنها كانت متكاملة وبلا ثغرة حتى النهاية جاءت بمكانه الصحيح وبطريقة ممتازة و متناسبة مع الخط الذي يسير عليه العمل والعلاقة المريبة بين بطليه، شخصية فريدي تحوز على اهتمام واعتناء كبير من قبل أندرسون ، يفتتح العمل بطريقة مبهرة ، افتتاحية تصلح لوحدها أن تكون فيلماً قصيراً، نرى فريدي كشخصية غريزية جاهلة عنيفة مهووسة بالجنس مدمنة على الخمور متأقلمة مع جو الجندية بل إن ما تفرضه الحرب وضرورة تفجير الإنسان لكامل غرائزه الوحشية تجعل من الجيش بيئة حاضنة وراعية للجانب الوحشي في الشخصية وتجعل فريدي أكثر تصالحاً مع جانبه الحيواني، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وتسريح القوات المقاتلة نرى الجنود يحضرون جلسات علاج وتأهيل نفسي كمحاولة يائسة لإعادة دمجهم بالمجتمع، فريدي يحضر تلك الجلسات الشكلية وكل أجوبته تعبر عن هوسه بالجنس ويبدو كشخصية لا فائدة منه ولا أمل من علاجه، نراه بعد سنوات الحرب يعمل في التصوير يعيش على هامش المجتمع يتصرف بغرائزية ولا يستطيع أن يضبط نفسه، يتنقل زارعاً الفوضى حتى يصل إلى حفلة يقيمها لانكستر على أحد المراكب البحرية، يقتحم المركب وهنا تبدأ العلاقة.

بول توماس أندرسون يصنع من شخصية فريدي نموذجاً دراميا غريباً جداً، أغلب الشخصيات التي نشاهدها عادةً في السينما هي إما شخصيات فاشلة تسعى للتمرد على واقعها وإصلاح ذاتها أو شخصيات تنهار وتهوي نحو القاع ، في فريدي كويل لا  يوجد شيء من هذا ، هذه شخصية وصلت إلى أقصى درجات احتقار الذات ، إلى قاع الحضيض الإنساني ،  شخصية متصالحة مع جوانبها الغريزية والحيوانية ومستسلمة بالكامل لاحتقار ذاتها ، وفي نفس الوقت شخصية مشتاقة للآخر، لشخص يتقبله كما هو ويغيره، لا يرد أن يتغير ولا يحاول أن يتغير يريد أن يفرض عليه التغير فرضاً أو أن يبقى هكذا ، شخص يتعامل مع الحياة كمهنته، مصور، يقف على الهامش خلف الكاميرا ويلتقط الصور لأشخاص سعيدين نظيفين جيدين، ويكتفي هو بالمراقبة فقط وتقبل فكرة إن هذه السعادة وذلك الرقي لم يقدّر له، هو شخص يملكه الحسد والسخط على واقعه ولكن التعبير الوحيد عن هذا الرفض وذاك الحسد هو بالغضب ، ينفجر بعنف على شخص أنيق منعم يقوم بتصويره يمثل كل الصفات التي لا يملكها والتي يتمنى أن يحوز عليها ولكنه مقتنعاً إنه لن يصل لها.

عندما يدخل فريدي لمركب لانكستر يدخل بتجربة أخرى بحياته تتملكه وتستهلكه دون أن تفيده، تعطيه فقط تجربة جديدة ونظرة أخرى للعالم دون أن تغير فيه شيء واضح، ربما هي الأهم بحياته، ولكن لم أشعر إنها اختلفت بشيء عن تجربة الجيش، كلتا التجربتين استغلتاه ، استهلكتاه، أعطته لفترة مؤقته بيئة ومجتمع ينتمي له وقواعد يمشي عليها، ثم لفظته بعد أن أوهمته إنها أعطته شيء يفيده ، في الجيش فريدي كان بالبحرية يتنقل بالبحر حول العالم ويخوض تجارب صعبة ومرهقة، تجربته الثانية تبدأ بالبحر أيضاً، ومليئة بالتنقل وبها تجارب ومهام مرهقة ، جلسات العلاج النفسي في الجيش تبدو إلى حد ما متشابهة بشكلها وتصميمها مع جلسات علاج لانكستر لفريدي (بغض النظر عن اختلاف انعكاسها وتأثيرها المباشر ولكن مستوى فائدتها الحقيقي متساوي) ثم حين تخلى عنه لانكستر كما تخلى عنه الجيش يعطيه وداع منمق كلمات مواسية كاذبة أيضاً، فكلى المجتمعين رما فريدي (الإنسان البسيط) بعد أن أخذا منه حاجته، دمراه أكثر، ولم يعطياه شيء بالمقابل.
فريدي لا يدخل عالم لانكستر باحثاً عن العلاج، وهو لا يريد علاج، الانبهار هو ما يقوده، هذا عالم نظيف زاهي ملون راقي، مختلف عن أي بيئة أخرى عرفها، عالم مبهر جداً يجذب فريدي لاكتشافه بالأخص بوجود لانكستر وجاذبيته الطاغية وأسلوبه الساحر بأسر الناس، عالم مغري بكل شيء والمفارقة إن هذا العالم يرحب به ويتقبله فيبقى ويتبنى قوانينه، ولكن لا يهتم للفكرة أبداً أو للدعوة التي ينادي بها لانكستر ولا للعلاج ولا يفهم شيء من هذا، يخضعه لانكستر لجلسة استماع مسجلة لأحد محاضراته لا يهتم لهذه المحاضرة وما فيها ولا ينصت لها حتى بل يحاول جذب أي فتاة موجودة أمامه وإغوائها لإقامة علاقة معها.

المشهد الأهم بالعمل بلا أي شك هو مشهد الجلسة العلاجية التي يخضعها له لانكستر ، هي كافتتاحية العمل تصلح لأن تكون فيلماً قصيراً بحد ذاته، مشهد يختزل كل شيء ويقدم كل شيء، إذا كان مشهد البداية المبهر هو تعريف وتقديم للشخصية، فهذا المشهد هو تمهيد متأخر سابق يقدمها لنا بشكل أعمق، نرى سلوكيات فريدي الغرائزية الحيوانية ، البيئة التي جاء منها، والده السكير، والدته المجنونة، علاقة السفاح التي مارسها مع عمته، بيئة منحطة مريضة تحوي كل الأمراض الاجتماعية فلا نستغرب شعور فريدي باحتقار الذات واستسلامه لوضاعته فهناك شعور داخلي إن هذا الانحطاط بداخله فطري موروث وإنه قدره لا يمكن له الفكاك منه، حين يتحدث فريدي عن علاقة السفاح التي مارسها تنتقل الكاميرا لوجه لانكستر ونرى على وجهه نظرة فقدان الأمل بهذا الشخص وقناعة إن فريدي غير قابل للعلاج، أعلى من المستوى الذي يستطيع أن يؤثر به وينقذه، يتحدث فريدي عن العلاقة الصحية الوحيدة التي عاشها، مع حبيبته دوريس في قريته، المرحلة الوحيدة الصافية التي حاول بها أن يكون إنساناً راقياً ومهماً ويخرج من انحطاطه ، وعدها أن يذهب ليصبح أفضل ثم أن يعود ولكنه لم يعد، وأندرسون لا يعطينا مبرر لسبب عدم عودته سوى بكلمة فريدي (لأني أحمق) كلمة قد لا تفسر بظاهرها الكثير ولكنها بالحقيقية تشرح كل شيء، بعد أن تعرفنا على هذه الشخصية وانحطاطها وقبولها وقناعتها بدونيتها فلا نستغرب أن يكون شعوره باحتقار ذاته هو ما منعه من العودة لأن مخلوقة قدمها لنا أندرسون بتلك البراءة والصفاء لا تليق بفريدي.

مشهد العلاج لا يستغله أندرسون للتعريف بفريدي فقط، بل يخصص له مساحة واسعة لنتعرف على لانكستر، لنرى هيبته ، قوته ، جاذبيته ، تأثيره، ذكاءه ، تلاعبه، نفاقه، مشهد يلخص لنا بشكل كافي كيف يستطيع لانكستر التأثير على الجموع حوله ويحملهم على القبول بأفكاره ، لانكستر يستطيع بالجلسة أن يستخرج مكنونات فريدي الداخلية التي لم يستطع أحد قبلاً الوصول لها، أعطاه لحظات من الصفاء والتطهير الروحي، نقله من الانبهار بالشخص إلى الإيمان به وقبول كل ما يأتي به فيبقى ملازماً وخاضعاً له وطامح للمزيد من التطهير، ويرى بلانكستر شخص يتقبله يحتويه لا ينتقده ولا يحكم عليه ولا يقيمه.



بول توماس أندرسون يلقي في عمله الضوء على مسألة العلاج الروحي وتأثيره بغض النظر عن حقيقته من زيفه، يصوره إن حالة الإيمان المطلق بالروحيات والغيبيات عند أتباع أي معتقد تجعل أولئك الأتباع يعثرون على مبررات لها ويتقبلوها ويعتنقوها فتعطي العلاج الروحي قوة نفسية تجعل المريض يتحسن ، بالأخص إنه ثبت علمياً إن الحالة النفسية هي سبب أغلب الأمراض وهي مفتاح دوائها، وهذه المساحة هي ما يلعب عليها لانكستر لنشر دعواه وسحره، ويساهم بتعزيز هذه الحالة النفسية وتمرير معتقده من خلالها بالاستعانة بجاذبيته العالية وكلامه المعسول وخطبه المفوهة التي تفعل مفعول السحر بالعقول،  لذلك فنرى الأناس العاطفيون – النساء بصورة رئيسية ونراهن بالعمل هم جلّ أتباع لانكستر بما فيهن زوجته – والمستغلين – كفريدي - هم أتباع لانكستر ورواده، ولكن المنطقيين لا يمرّ عليهم هراء لانكستر وألاعيبه لذلك حين يحاصره أحدهم بالأسئلة والاستفسارات العميقة يضيع ذاك ويضطرب ولا يعرف كيف يجيب أو يبرر نفسه، فيهرب مجدداً بالتلاعب بالكلام ثم بالصراخ والانفجار غاضباً، هو يقدم نظرة قوية وجريئة للعالم السري للدعوات الدينية وشخوصه، يعريهم من المثالية التي يظهر عليها الدعات ليظهر شكلهم الأسود المقيت، لانكستر المنافق المتلاعب السكير والضعيف جنسياً أمام زوجته المتسلطة بخبث، أبنته الشهوانية الفاجرة وأبنه الاستغلالي الموقن بدجل والده وخداعه والذي يعود له بعد انتصاره .
لانكستر هو بكل بساطة شخص منافق ويعلم إنه منافق وكاذب دخل بقضية كبيرة ولم يعد يستطيع أن يخرج منها ولا يريد الخروج مع كل القيمة والقوة التي تعطيها له، ولكن دعواه تمر بمرحلة حساسة جداً، هو محارب من كل مكان، المنتقدين والساخرين يحيطون به، ورعاته ينقلبون عليه والشرطة تلاحقه، وأبنه يتخلى عنه، هو رغم كل القوة التي يظهرها ولكنه بمرحلة صعبة جداً بدعواه ويحتاج لفريدي، بالنسبة له كان فريدي مجرد حالة مرضية أو تحدي أو فأر تجارب لنظرياته المجنونة، ولكنه أدرك سريعاً إن هذا شخص غير قابل للعلاج، بل هو ضرر على الدعوة بسلوكه وجنونه – كما قالت زوجته – ولكنه لم يتخلى عنه ولا يستجيب لكل تحريضات زوجته وعائلته، هو بحاجة لشخص يحمل هذا الولاء له لدرجة أن يقتل من أجله ويضحي بنفسه من أجله، هو بحاجة لشخص مؤمن به لدرجة متناهية حتى يمده بالطاقة والثقة والقوة.
أما فريدي فعلاقته مع لانكستر هي انبهار وإيمان بالشخص لا بالفكرة ، لا ينصت للفكرة ولا يهتم بالدعوة والتفكير بها وتفسيرها وقبولها، هو بالأصل لا يهتم بالمواضيع الإيمانية، ولكن انبهاره وإيمانه بلانكستر يقوده لتقبل الدعوة،   هو عثر بلانكستر على شخص يتقبله ولا يرفضه ويمثل أمامه مثال أعلى إلى حد ما، مجتمع يحتويه ويقدره ويحميه من الضياع، بوجوده معه أصبح لحياته نظام وقانون، أصبح منضبطاً جنسياً إلى حد ما وأصبح له حدود هي لانكستر وعائلته التي بجلها إلى درجة الآلوهية فلا يستجيب لإغواءات أبنته وحين تنتابه نوبة جنسية يتخيل بها كل النساء في أحد حفلات لانكستر عاريات بالكامل حتى العجائز منهن، نرى إن زوجة ذاك وابنته هما الأكثر احتشاماً بخيالاته ولم تبان مفاتنهما بصراحة كالأخريات، وعنفه أصبح منضبطاً أيضاً وجهه لقضية مؤمن بها، للدفاع عن لانكستر ومواجهة خصومه، فريدي لا تعني له أفكار لانكستر أي شيء وبداخله يدرك إنها فاشلة، ولكنه يتظاهر إنه مؤمن ، يتظاهر إنه يتعالج ويتحسن ليحصل على المزيد من القبول ولا يرميه ذاك بعيداً ويعيده لضياعه، ولكن في مشهد السجن يبان كل شيء ، في السجن يختفي كل الإبهار وكل البريق الذي عمى أبصار فريدي وخرج من الوهم وصارح نفسه إن كل ما يقوله هراء ووهم ودجل فرماه مرةً واحدةً بوجه لانكستر وحمله مسؤولية ما وصل إليه ولكن لانكستر ردّ عليه بكلمة واحدة : (لا أحد سيتقبلك غيري) وهنا يعود فريدي للخضوع مجدداً.




بعد السجن يدخل لانكستر فريدي ببرنامج تدريبي جديد مرهق ، يخضع له فريدي بقبول ولكنه لا يعثر على أي نتيجة ويصيبه باليآس ، و أندرسون يتعمد تصوير هذه المشاهد بطريقة مرهقة ومتعبة ومملة، ثم ينشر لانكستر كتابه الذي تحدث عنه طوال العمل والذي يحفظه بحرص ككنز ويردد إنه يحوي علاج كل شيء، ولكن حين ينتشر العمل المنتظر ويواجه بانتقادات من الجميع من الأنصار والمعادين وينفضح فيه كل دجل لانكستر ونفاقه عندها يصل فريدي لمرحلة لم يعد يستطيع معها الاستمرار ، فيرحل، يقنع نفسه إنه وصل للعلاج وتجاوز أزماته وإنه قادر على مواجهة العالم بشكل جديد وتحقيق حلمه بأن يكون مع دوريس، ولكن تلك لم تنتظره، وغيابها يصدم فريدي بحقيقة إنه لا مكان له بالعالم الحقيقي، ولكنه لا يجرأ على العودة إلى لانكستر حتى يناديه ذاك مجدداً ليلحقه إلى لندن، وهناك يتخلى عنه.
لانكستر جعل فريدي السلاح الذي يضرب به بمعاركه والقوة التي يستمد منها صموده، ولكن وبعد أن انتصر لانكستر أصبح له مقر وأتباع وبدأت دعوته تلقى أصداء وتنتشر وعاد له أبنه، لم يعد بحاجة لفريدي، وأصبح يرى بجنونه وغضبه مصدر إحراج وإزعاج له، فتخلى عنه بطريقة مهذبة بأسلوبه الطنان زارعاً الأمل الوهمي ومرسلاً تحذيراً مبطناً في نفس الوقت،  بعد تخلي لانكستر عن فريدي يعود ذاك لضياعه مجدداً كما بعد الجيش، العالم الذي استهلكه واستغله رماه مجدداً ولم يقدم له شيء حقيقي ولكن بقيت ظلاله معه، مشهد النهاية الغريب يحوي العديد من التساؤلات والأفكار ، هل تحول فريدي إلى ماستر أخر؟، هل كان أندرسون بروايته لقصة فريدي يتحدث بنفس الوقت عن بداية لانكستر؟، هل خاض لانكستر رحلة ضياع كرحلة فريدي قبل أن يبتكر مذهبه؟، هل لانكستر كان يحتضن فريدي كل هذا الوقت لأنه وجد فيه نظيراً له ومشابهاً؟، هل هذا التشابه بين الشخصيتين هو ربما سبب ثورات غضب لانكستر وخنوعه الجنسي لزوجته؟
العمل الإخراجي لبول توماس أندرسون بغاية العظمة، أن تشتاق للعودة لمشاهدة العمل ليس فقط لتتأمله وتكتشفه أكثر، بل لتستمع أيضاً بإنجاز أندرسون المبهر على عدة صعيد، هناك حالة متكاملة في عمله، ربما عمله كان غامضاً وأكثر صعوبة من غيره من سابقاته ولكن بعد التأمل تكتشف إنه الأكثر تعقيداً وتمكناً درامياً، يستعرض علاقة غريبة واستثنائية ومحكمة جداً، علاقة ميكيافيلية استغلالية بشكل جديد، ربما تشعر بإن العلاقة غير واضحة وإن النهاية مستعجلة ولكن بعد الصبر والتأمل بالعمل تكتشف إن كل شيء وضع بمكانه الصحيح والنهاية منسجمة تماماً للأحداث وطبيعة العلاقة تقود إليها، ربما ينتقد البعض دور زوجة لانكستر (إيمي أدامز) وإنها كانت تحتاج مساحة أوسع، نعم هي لم تنل مساحة كبيرة رغم إن الشخصية تحتمل ذلك، ولكن مساحة الشخصية كانت كافية ولم تؤثر سلباً على العمل وإيمي أدامز بأداءها الاستثنائي حملت الشخصية بالكامل وأعطتها عمق وأهمية وقوة جعلتها من أهم شخصيات العمل، هي شخصية مهيمنة متحكمة من تحت الغطاء مسيطرة على زوجها بمنتهى الوسائل بما فيها الجنس، وهي أشد المؤمنات بالقضية وربما تكون هي وراء كل أفكار الماستر.
أندرسون كعادته يعطي العمل جمالية بصرية لا تخطئها العين، لا يترك أي تفصيل يفوته حتى لا يخرج العمل بأجمل صورة ممكنة تجعلك تشتاق لتشاهده مجدداً وتستمتع بما قدمه أندرسون بصرياً من تصوير ومونتاج وتفاصيل أماكن وملابس وطبعاً موسيقى من أروع ما سمعت يوماً.

أندرسون مخرج جمع كل الصفات التي تؤهله ليكون أحد أهم صناع السينما بالتاريخ وليس فقط بالوقت الحاضر من قوية وفرادة المواضيع المختارة وقوة بالمعالجة وصنع الشخصيات وعقدها وعلاقاتها وإبهار على الصعيد البصري ونجاح وقبول واحترام مبكر على الصعيد العالمي وليس فقط في أمريكا وميزة أخرى مهمة جداً وهي أنه أحد أفضل مدراء التمثيل الذين عرفتهم السينما يوماً، شاهدنا معه كيف قدم كل من مارك ولبيرغ و جوليان مور و بيرت رينولدز وتوم كروز ووليام اتش ميسي و جون اس رايلي وأدام ساندلار ودانيل دي لويس وبول دانو أداءات استثنائية لا تنسى وعمله هذا يبدو مع قوة الفكرة والمعالجة وجمالية الصورة بأنه احتفال بفن التمثيل وبالقدرات التمثيلية لنجومه، تحديداً لفيليب سيموري هوفمان صديقه القديم وشريكه بكل أعماله عدا سيكون هناك دم الذي قدم بدور لانكستر دود أعظم تحية وداعية لعشاقه، أداء صاعق جداً، يصعب الوصف، استغل به هوفمان كل مواهبه وقدراته الخطابية وصوته وجاذبيته وهيبته ليجعل من لانكستر شخصية حقيقية مؤثرة ومهيمنة على المشاهد، نجح بإعطائه العمق المطلوب كشخصية غامضة منافقة كاذبة متلاعبة متناقضة هشة ومضطربة، فيليب هوفمان كان يخوض مبارزة أدائية هي الأعظم ربما هذا القرن مع العائد بقوة للسينما بعد غياب واكين فونيكس الذي لقبه الجمهور بفضل أداءه لشخصية فريدي كويل ببراندو الجديد، أداء صعب جداً مليء بالتعقيد والجهد الجسدي والنفسي، حنية الظهر عرجة القدم تكشيرة الوجه والانغماس بالدور لإظهار مستوى احتقار الذات والبدائية التي وصلت لها الشخصية هو يعبر فعلاً عن وصف لانكستر له (الحيوان البليد) .
على أي حال ورغم الجمال التقني بالعمل ولكن مع الأيام التقنيات ستبلى وتفقد بريقها إلا ما رحم ربي، وما يخلد كل الأعمال العظيمة بعد مرور السنين هما أمران الفكرة والمعالجة والأداء، وأندرسون ضمن لفيلمه الخلود والبقاء حياً بفضل الأداءات التمثيلية بعمله التي ضخت روح قوية جبارة تتحدى الذبول وصنعت متعة حقيقية للمشاهدة، ولكن ليس هذا فقط مصدر عظمة الفيلم بنظري، الفيلم عظيم بالدراسة التي يقدمها للشخصية المنحطة، بدراسة الشخصية الدجالة المنافقة وعالم الدعوات الدينية السري، بالعلاقة الاستغلالية الخطيرة والغريبة بين الشخصيات ، هو فيلم عظيم سيعيش ، ربما هو صعب ويحتاج لجهد للوصول ، بإمكانك أن تتصالح مع هذه الجزئية لتصل لقناعة إنه ربما من أعظم إنجازات السينما القرن إن لم يكن أعظمها.

10/10

2 التعليقات:

Unknown يقول...

عندما شاهدت الفيلم لم أكن أتوقع أن يبهرني لهذه الدرجة لكن الحق يقال فيليب هوفمان آسر بدوره في هذا الفيلم

nourcinama يقول...

شكراً على المرور أخي

إرسال تعليق