RSS

The last Metro – 1980


الهدايا المفاجئة شديدة الامتاع، بالأخص إذا كنت تقدمها لنفسك، أحببت أن أشاهد فيلماً فرنسياً فاخترت the last Metro  لا على التعيين ، دون أن أعرف عنه أي شيء سوى ان بطله جيرارد دي بارتيو وإنه أحد أشهر الأفلام الفرنسية، مع بداية العرض قرأت اسم فرانسوا تروفو أحد أشهر النقاد وصناع الأفلام في تاريخ فرنسا وأهمهم وكان لي معه تجربة مشاهدة ممتعة في (فتاتان انكليزيتان) والبطولة لكاثرين دونوف أحد أفضل الممثلات الفرنسيات على الاطلاق فتفائلت بوجبة ممتعة وهذا ما كان.


معلوماتي عن تروفو أكثر من مشاهداتي هذه تجربتي الثانية معه وهو فعلاً كما يتم وصفه سيد أفلام العلاقات العاطفية الثلاثية، وهنا يدخلنا بعلاقة ثلاثية بين ماريون (كاثرين دونوف) ممثلة مسرحية وسينمائية في باريس فيشي و زوجها لوك شتاينر (هانز بينينت) المخرج المسرحي اليهودي المختفي عن الانظار و ممثل مسرحي بيرنارد غرانغير صاعد (جيرارد ديبارتيو) مقاوم للاحتلال النازي، وكما في عمله السابق، فتروفو يحب أن يمرر أفكار هامة وراء بنائه الممتاز لعلاقاته، في (فتاتان انكليزيتان) هناك نظرة لتحرر المرأة وخروجها من نطاق العائلة الضيق نحو العالم الرحب لاكتشاف ذاتها، وهنا يوجد لنضال المجتمع الفرنسي ضد الاحتلال النازي وتصوير رائع لشغف الفنان بمسرحه.
أسلوب تروفو رائع جداً بإجباره المشاهد على الاستنتاج ورواية الأمور بضبابية ولكن بعيداً عن الغموض والعشوائية، ما يقدمه واضح جداً ولكن لا يصرح به بل يترك المشاهد يستنتجه، هو يحب لغة ما بين السطور ويبدع جداً بها ويبدو إنه يحب ممارستها، وبهذا العمل تبدو لغة ما بين السطور هي الوسيلة الأمثل لرواية القصة، فحين نتحدث عن إمرأة زوجها مطارد ومهدد بالموت في وضع البلاد تتعرض به لاحتلال وتقوم بتخبئته بقبو مسرح تمارس عليه مسرحية من إخراجه برفقة ممثل بدأت تحبه وهو غير عابئ لها فعندها لا بد إن أسلوب تقدم النزاعات الداخلية بطريقة غير مباشرة واستنتاجيه هي الوسيلة الأفضل في وضع عاطفي ثلاثي ذاتي يخص شخص واحد فقط دون شخصين في أجواء على هذا القدر من الحساسية.
هنا العلاقة العاطفية الثلاثية ليست نارية أو متوهجة أو هي التي تقود العمل، ماريون لا تبذل أي جهد حقيقي لإغواء بيرنارد والتقرب له و هو ايضاً ينفر منها ويتودد للجميع إلا هي و زوجها لوك مع قربه وبعده لا يبدو مهدداً أو يحاول أن يفعل شيء يوقف به هذا التقرب، النزاع الحقيقي الدرامي في العمل هو داخلي، يخص ماريون وحدها وتروفو يبدع ببناء شخصية ماريون ودونوف تقدم أداء عظيم وحقيقي جداً.
تروفو نسج عالم ماريون ببراعة تصوير حالة الحصار التي تفرضها على نفسها، لا يوجد أي مشاهد خارجية لها قليلة جداً، كل مشاهدها ضمن المسرح او مع صحبة المسرح وكل حواراتها عن المسرح، والصرامة والقسوة هي سياستها مع الجميع كحاجز تفرضه بينها وبين الآخرين حتى لا يدخلوا عالمها الخطر، تراقب منذ البداية بيرنارد بوسامته الطاغية وجاذبيته العالية وروحه المرحة وقوته وقدرته على جذب النساء وحياته المتحررة فتشعر بالإنجذاب لهذا العالم أكثر من انجذابه له ولكن لا تستطيع الاقتراب والخروج، تعيش مرتهنة لزوجها المحاصر المختبئ بقبو المسرح وتحمل عبئ نجاته وهم استمرار مسرحه وخارج هذه الهموم لا يوجد لها أي حياة، حتى لقاءاتها بزوجها – وهو حق مشروع لها – تسرقها بغفلة عن عيون الناس وحين تضبط مرة انها كانت بليلة عاطفية تصرخ بخادمتها سهرت في الخارج كتعبير عن رغبة بداخلها لتعيش حرة بعيدة عن أي أسر.
الجميل بعمل تروفو إنه يصر على إن علاقة ماريون بزوجها لوك متوهجة عاطفياً ومتقدة لا تعاني من أي برود عاطفي أو جنسي، وانجذابها لبيرنارد ليس بسبب حاجة عاطفية، هناك حاجة أخرى، هو الشوق للحرية من السجن الذي تعيشه ومن قناعها الداخلي، يبدو المسرح هو المنصة الوحيدة التي تستطيع فيه التعبير عن صراعاتها، وتروفو يستخدم المسرحية بذكاء ليعبر عن حالة ماريون، الضيق المستمر من حالة زوجها يجعلها تشعر إنها سجينة معه، هو هم أكبر من احتمالها ، لكن المشكلة إنها لا تستطيع أن تبوح لذلك حتى لنفسها وحتى على المسرح، تحاول جاهدةً عدم الانجذاب لبيرنارد والتقرب منه حتى بالبروفات ، رغم إنها خارج المسرح توجه له بعض الإشارات الخجولة، هي حالة التناقض بين الواجب والضيق والرغبة بالانعتاق، ليست التناقض بين الوفاء والزوج والرغبة بشخص أخر، الموضوع أكبر من ذلك، هي تبقى تحب زوجها وتؤيده حتى اللحظة الأخيرة وانجذابها لبيرنارد هو ساحة المتنفس لها الوحيدة من سجنها.
تروفو يهتم بتصوير حالة الصعوبة التي تعانيها ماريون مع لوك، الخوف المستمر، التهديد الدائم، نزقه وضيقه وغضبه المبرر ، يصنع بإبداع عالم صغير متناقض صعب ومؤلم جداً ولكن لا يمكن تركه أو الاستغناء عنه ، هنا النزاع الأخلاقي صعب جداً ومبرر ولكن لا خروج منه ، وتشتد الأوضاع صعوبة مع حالة الضغوط الخارجية على المسرح في وقت تحتاج فيه ماريون للوك وهو عاجز، عدا افتضاح امر وجوده في فرنسا فيشي وأخبار اجتياح هتلر لفرنسا الحرة وصعوبة التنقل والهرب حيث كانوا يحلمون مما يعني فقدان أي أمل بالنجاة، تروفو يبدع بجعل الظرف التاريخي والحالة العامة في فرنسا الحرب العالمية الثانية بطلة للأحداث وعامل تأثير فيها، ويعطي الأحداث الداخلية الهادئة للشخصيات دورها المناسب لتتوهج، فلوك يعجب ببيرنارد كممثل ويمتدحه أمام زوجته ويشعر (وهو المخرج الفرنسي المخضرم) بتولد مشاعر الحب من زوجته لبيرنارد من خلال صوتها اثناء أدائها معه ولكن لا يستطيع أن يمنعها، يشعر هو الأخر بحالة من تأنيب الضمير اتجاهها فيترك الأمور تجري على ما هي عليه ويوجه بيرنارد ليتقرب لها، ولكن الأمر يزداد صعوبة لأن بيرنارد من المقاومة وسيتجه للشمال ليحارب النازية لتكون الحرب وقسوتها هي المنافس الرئيسي لدى تروفو للحب في عمله هذا وهي الشريك والدخيل الثالث في كل علاقة عاطفية.
من أكثر ما أعجبني بالعمل هو تصوير حالة الهوس بالمسرح لدى لوك المسرحي العتيق القاطن تحت المسرح ولا يستطيع متابعة عمله وحضور البروفات التي يخرجها مساعده كوتينس ( بأداء جيد جداً من جين بوريت) حسب توجيهاته ، يكتفي بسماع الخطوات فقط، ويبتدع طريقة ليستمع للمسرحية ويخرجها من خلال القبو ، يحاول سرقة اللحظات ليشم رائحة المسرح، ويبدع تروفو بتصوير حالة النزق والجنون الذي يعيشها السجين بهذه الحالة، بالإضافة إلى تصويره حالة فرنسا الداخلية تأمين المواد الرئيسية حظر التجوال الانفجارات المستمرة الوصولية لدى بعض الفرنسيين، العنصرية النازية ، العداء لليهود، تشكل إعلام يخدم مصالح النازية ، تشكل المقاومة، أمور تبدو ككليشات مكررة في كل أفلام الحرب العالمية الثانية ولكن أكثر ما يلفت النظر هو تصوير حالة الهوس الفرنسي بالمسرح والفن رغم الحرب لدرجة إن المسارح والسينماهات مكتظة مثل وسائل النقل، حالة إدمان شعبية فرنسية على الفنون واستغلال بعض الشرفاء لها لخدمة قضيتهم، ليكون عمل يمجد المسرح والفن ويجعله واجهة الحياة وسبب رئيسياً فيها
على الجانب الثالث من محور تناقضات ماريون صراعات لوك، هناك شخصية بيرنارد، المقاوم الجامح الذي يتصرف بعدم اكتراث وفوضوية ليخفي نشاطه الثوري، شخصية جيدة ولكن لم تحظى بمساحتها المستحقة والبناء الجيد على غرار محور ماريون ولوك، ولكن أداء جيرارد دي بارتيو رائع جداً بها ومناسب للشخصية وحيوي وممتاز بها، وكذلك هانز بينينت مبدع جداً بدور لوك وممتاز إلا إن الامتياز الحقيقي بالعمل من الأسرة كاثرين دونوف بتناقضاتها صراعاتها بأنوثتها المكبوتة الهائجة للحرية، بضيقها مما تعانيه وخوفها المستمر، من تصنعها القوة وارتداء القسوة، أحد الأداءات النسائية العظيمة جداً ، نهاية العمل قد تبدو غامضة حيث لا يصرح تروفو مع من انتهت ماريون، أبداً، هو عاد للمسرح الساحة التي يعبر فيها الناس ومن خلالها تمثيلاً ومتابعةً عن همومهم المكبوتة ليقول من خلال عرض مسرحي جديد بعد الحرب إن ماريون لم تبقى مع لوك الذي انتهى حبه من قلبها مع نهاية الحرب وانتهاءها من واجبها معه ولا مع بيرنارد الذي لا يمكن لهما ان يكونا سويةً فحبها له ليس سوى وليد موقف انتهى، هي بقيت بينهما لتعيش معهما الهوس بالمسرح ، لينتصر حب المسرح وحب الفن والحياة والحرية على كل قسوة الحرب والاحتلال وجنونهما وأسرهما وعنفهما.

9/10

0 التعليقات:

إرسال تعليق