RSS

The wolf of wallstreet – 2013


مارتن سكورسيزي .... مجرد لفظ اسمه أو سماعه يدعو إلى البهجة في أوساط السينما، ليس لأن اسمه مقرون بلقب أفضل مخرج أمريكي حي وبالأسطورة الحية، بل لأن هذه الاسطورة حريصة على جماهيريها وإرضائها حرص جماهيرها على متابعتها، الشخص الذي تنبأ منذ سنوات عديدة بمشاكل فروق الثروة وتركيبة المجتمع الأمريكي المادية المعتمدة على الاستهلاك والغرائز والإعلام التي تدفع أفراده لامتهان الجريمة إرضاءً لطموح الثروة أو القيام بأمور مجنونة غير معقولة إرضاءً لغريزة العظمة والتفوق، يأتي اليوم بعد أن عصفت بأمريكا بسنوات قليلة أكثر من أزمة مالية ومشاكل في البورصة وسوق العقار وشركات التأمين ليقول كلمته بما يجري، ليصنع عمل لا يتحدث عن هذه الأزمة بشكل مباشر بل ليتحدث عن العقول المتحكمة بأسواق المال التي تصنع تلك الأزمات.


هو قصة حقيقية – ككل كلاسيكيات سكورسيزي العظيمة – عن جوردان بيلفورت – ليوناردو دي كابريو بتعاونه الخامس مع سكورسيزي – سمسار البورصة الشاب الموهوب والطموح كأي شاب عادي للثروة، يدخل عالم وول ستريت ويتعلم أسراره من قبل أحد حيتانه مارك هانا – ماثيو ماكونهي - قبل أن تطيح به أزمة مالية عام 1987 ليخرج وينشأ شركة سمسرة اسهم صغيرة برفقة جاره البليد وغريب الأطوار دوني – جونا هيل –يناطح بها كبار شركات الاسهم ويصبح معه – ذئب وول ستريت – وأحد أقوى شخصيات عالم الاقتصاد الأمريكي بواسطة بعض الخطط الاقتصادية المجنونة المعتمدة على المغامرة والمقامرة بمقدرات العملاء وخداعهم، هم يجنون الملايين لدرجة أكثر من قدرتهم على أنفاقها ينحدرون في عالم المجون وإرضاء اللذات والمخدرات والخمور، يجذبون الانظار إلى نشاطاتهم المشبوهة، يلعبون بخطورة من المباحث الفدرالية قبل أن تطاير رؤوسهم ويخسرون كل شيء.
كما كان الطيار قبل عشر سنين عودة لسكورسيزي ليقدم تحية لسينما الشخصيات الحقيقية المعقدة التي أبدع فيها في الثور الهائج، هاهو اليوم يعود ليقدم محاكاة جديدة لرائعته الأخرى صحبة جيدة بتقديم قصة حقيقية عن شاب فقير يريد أن يعيش الحلم الأمريكي بأكثر الطرق بعداً عن النزاهة والأخلاق بالأخص بعد أن أدرك إن الحلم هو مجرد وهم لا يمكن الوصول إليه بالطرق الشرعية الأخلاقية، في السابق كانت العصابات والمافيا هي العالم السري غير المشروع الذي يوصل للثروة ولكن اليوم أصبحت البورصة هي ذلك العالم، هي العصابات الجديدة، شيء يركز عليه سكورسيزي بصنعه لعمله هذا بنفس الصيغة البصرية والحلول الفنية التي صنع بها الصحبة وكازينو، ليس فقط ليعيد أحياء أمجاد سابقة – وهو ليس مضطر لذلك بعد أن أبهرنا بأعماله الثلاث السابقة بقدرته على التجريب وخوض غمار صنوف جديدة عليه وصنعها بصورة عظيمة سواء كانت إثارة أو نوار أو حتى ثلاثية الأبعاد – هو يعتمد شكل صحبة جيدة ليدفع المشاهد للمقارنة لا بين العملين بل بين العالمين والواقعين ليقول لنا إن العصابات لم تعد في الشوارع الخلفية القذرة بل في مكاتب الشركات الفخمة.
إعتماد سكورسيزي هذه الأسلوبية أعطى المشاهد فرصة ليعود ويعيش سينماه الكلاسيكية المحببة البدأ من مشهد في المنتصف التركيز على صوت الراوي وأحياناً تحويل الشخصية الرئيسية إلى راوي بصري يخاطب الجمهور ، يخرج عن حيز الفيلم الروائي ليصبح أشبه بوثائقي ودعائي تلاحق الكاميرا البطل وهو يجول في عالمه ويتحدث عنه ويعيشه، مع جرعة الواقعية الزائدة الانتقال الديناميكي الحيوي السلس بين الأحداث المفتقرة للحبكة والقائمة على يوميات تستمر لسنين طوال دون إشعارنا بذرة ملل أو ضجر بل تشويقنا المستمر لمعرفة المزيد عن أولئك الأشخاص، سكورسيزي الذي تجاوز السبعين يبدو وكأنه بأكثر حالاته شباباً تشعر بشغفه واستمتاعه وهو يصنع أفلامه وينقل هذه الحالة لمشاهديه ونجومه وهنا سر عظمة أفلامه، في هذا العمل لا يعود فقط سكورسيزي لدفاتره القديمة وإنما يخوض مجدداً بأساليب جديدة ، هنا هو أكثر كوميدية وطرفاً بعيداً عن سوداويته القديمة وهذا أمر يبدو منسجماً جداً مع قصة أناس عاشوا حياة جامحة جداً ومستهترة جداً فلم يكن من الغريب أن يساير هذه الحياة بتصوير يعتمد على عدم الجدية دون أن يكون مبتذلاً أبداً وإنما ممتع وفي نفس الوقت هام وصادم بالمستوى الهابط الذي وصلت إليه الشخصيات، وفي نفس الوقت هو خادع يجبر المشاهد -الذي يرفض ويشمئز كثيراً من هذه الشخصيات- أن يتمنى هذه الأموال وهذه الحياة ليقول له ساخراً إنه هذه الشخصيات هي من صلب الحياة الطبيعية ويمكن أن يكون أي واحد منا فالمشكلة بالطبيعة البشرية وبطبيعة مجتمع استهلاكية تصنع هذه الشخصيات والمشهد الأخير العظيم أثناء المحاضرة يؤكد على هذه الفكرة.
الفيلم مبهر بتركيزه على فكرة صراع الفقر والثراء، جوردان ومن معه أشخاص فقراء جداً يريدون التمرد على هذا الواقع ففتحوا على نفسهم مغارة من الكنوز لم يعرفوا كيف ينفقوها، بدأوا بحرب مع الأثرياء للحصول على القليل ثم أصبحوا يتاجرون حتى بالفقراء، يبتدعون أزمات ومشاكل اقتصادية حتى يزدادوا ثراءً وفي نفس الوقت هم يتضامنون مع بعضهم ومع من يأتيهم للعثور على فرصة ولكن غير الساعيين والشرفاء لا مكان لهم في أخلاقياتهم المتناقضة، سكورسيزي يصور لنا من يلاحق جوردان على أنهم هم الفقراء الذين كان يسخر منهم ومن إحباطهم وإن هناك حالة حرب بين أولئك الاثرياء العابثين وبين الفقراء الضحايا – الحسوديين في نفس الوقت – هو يبدع بصنع عالم أشبه بغابة يصدم بتصوير الانحطاط البشري وضياع الأخلاق والكرامة في سبيل جني الدولارات ثم بكيفية أنفاقها ليعرض ضياع الروح الإنسانية في عالم تهيمن عليه المادة.
رغم إن العمل هام جداً ومحبوك ومبني بطريقة ممتازة ولكنه يعاني من مشكلة المبالغة ، هو فاقع أكثر من اللازم وأحياناً مبتذل – رغم إنه ممتع جداً بهذا الجانب – سكورسيزي استغرق وقت طويل جداً وبطريقة مبالغ فيها أحياناً بتصوير الانجطاط البشري في عالم المال سببت شيء من الحشو غير المطلوب أو الاضطراري جاء أحياناً كثيرة على حساب الفكرة الرئيسية الصراع بين الثراء والفقر وانعكاس سياسات جوردان على بنية المجتمع كاملة ، ولكن مع ذلك فإن مارتي ينجح بإخفاء عيوبه بالصناعة الرائعة للحبكة بأسلوبيته الكوميدية المبهجة بفنياته البصرية الاعتيادية الممتازة من تصوير ومونتاج وألوان، والأهم هو الأداءات التمثيلية فيه، ليوناردو دي كابريو في الدور الذي نال عنه أخيراً غولدن غلوب الثاني له بعد ترشيحه السادس منذ الطيار والثالث خلال ثلاث أعوام ونتمنى أن يعيده للدور للأوسكار وهو يستحق ذلك جداً، أداءه يصل لدرجة عالية من النضج الذي يبهرك بها مع كل فيلم جديد له، فيه التمثيل العظيم الجذاب للمشاهد من جموح وانفعال وصخب وخطابات وحركة مستمرة وجرأة ، دي كابريو بعيداً عن أدواره القاتمة العميقة هنا هو مبهج خطيب مفوه ساخر مملوء بالشباب والطاقة، طاقته تنعكس على الفيلم كله يجذب بكاريزما عالية ليجعل من الدور وكأنه مصنوع له تماماً هو ليس دي نيرو الجديد بل شيء وصل به أقرب لنيكلسون ولكن عليه أن يبتعد بعد اليوم عن أدوار شاب بالعشرينات فمع وصوله للأربعين لم يعد يستطيع إخفاء ملامحه أكثر، جونا هيل يحاول أن يكون كجوي باتشي لهذا العمل ولكنه لا يستطيع إلا إنه أيضاً معتوه ومجنون بطريقته الخاصة الجذابة والفريدة ترينا مدة الموهبة الكبيرة التي لدى هذا الشاب العشريني، ماثيو ماكونهي بحضور بسيط جداً كنت اتمنى لو طال ولكنه جيد مع إنه لم يستطع تجاوز نحله بعد من فيلمه الناجح الأخير ، جان ديجاردين في أول ظهور له في هوليوود منذ دوره العظيم في الفنان يبدو مناسباً جداً لهذا الدور بإضافته الساخرة وكذلك جون فافرو، الشابة مارغوت روبي بدور زوجة جوردان أكثر من ممتازة وهي مشروع موهبة جديدة تستحق المتابعة، الفيلم رائع جداً لا اعتقد إنه من كلاسيكيات سكورسيزي المعاصرة، الشكل الفاقع الذي ظهر به غطى على قيمته وأفكاره كثيراً في بعض الأحيان ولكنه مع ذلك يبقى فيلم لسكورسيزي يستحق المشاهدة بالأخص مع الأداء الخلّاب من دي كابريو.

8.5 / 10  

0 التعليقات:

إرسال تعليق