RSS

Pulp Fiction - 1994


فيلم بولب فيكشين أو لب الخيال هو ربما من أفضل الأفلام المستقلة في التاريخ وأحد أنجح 100 فيلم قدمتها أمريكا ، هو يحمل توقيع المخرج والممثل والكاتب والمنتج المجنون كوينتن تارانتينو الذي بدأ حياته كممثل في ادوار ثانوية ثم تحول إلى كتابة السيناريو بمشاركة روجر أفاري وبعد عدة محاولات قام أوليفر ستون بشراء نصهما قتلة بالفطرة في نهاية الثمانينات ولكن الفلم لم يرى النور إلا عام 1994 ولكنه مع ذلك لم يحظى بالاهتمام اللائق بسبب وجود كوينتن تارانتينو المخرج هذه المرة وبفلم لب الخيال الذي كلفه أنتاجه 8 مليون دولار وحقق نجاحات عظيمة جداً ابتداءً من جائزة أفضل فيلم في مهرجان كان ثم ست ترشيحات في الغولدن غلوب هي أفضل فيلم درامي ومخرج وسيناريو وأفضل ممثل درامي (جون ترافولتا) وأفضل ممثل ثانوي وممثلة ثانوية (جاكسون وثورمان) ولكن الفلم لم ينل سوى جائزة واحدة أفضل سيناريو وتكررت الأحداث نفسها في الأوسكار حيث أخذ نفس الترشيحات وخسرها لصالح نفس الفائزين، ورغم خسارة لب الخيال كل تلك الجوائز ولكنه تصدر قوائم أغلب النقاد لذلك العام وحقق أكبر نجاح تجاري كبير جداً نظراً لميزانيته إذ تجاوزت أرباحه الـ100 مليون دولار .

فيلم لب الخيال لم يكن عمل تارانتينو الإخراجي الأول إذ أن أول أعماله الإخراجية هو كلاب الخزان عام 1992 الذي نال ثناء واسع من النقاد، تارانتينو الذي حقق كل هذا النجاح لم يدرس الإخراج على الإطلاق كل معلوماته عن الإخراج هي من الأفلام العديدة جداً التي تابعها ومعظمها خلال عمله في مخزن للفيديو، بعد نجاح لب الخيال تابع تارانتينو عمله كمخرج وكاتب ومنتج فأخرج وكتب ثلاثة أفلام جاكي براون و جزئي أقتل بيل ، أما كمنتج فقد أنتج غير أفلامه هذه ديسبيرادو للمخرج روبيرت رودرجيز وفيلم الرعب من الغسق حتى الفجر الذي قام ببطولته مع جورج كلوني وكتب نصه السينمائي ، ثم فلم وثائقي حول كيفية صنع الفلم المذكور وأنتج بعدها فيلم الرعب منشار تكساس، ومع الألفية الجديدة راح تارانتينو يعمل بتسويق أفلام الرعب اليابانية في الولايات المتحدة فعرض الخاتم وغيرها وقام بإنتاج النسخة الأمريكية منه وقام بتوزيع الفلم الصيني (بطل) وأنتج فيلم مدينة الخطيئة و فلم الرعب Hostel .وأخرج فيلمي دليل الموت والأوغاد المغمورين
والآن أحب أن أسأل ما الذي يجعل من لب الخيال يحظى بهذا الاهتمام ويجعله من أهم أعمال القرن الماضي ، هل هو الإبداع الإخراجي المذهل الذي يحويه لا فهذا الشرف يعود لأقتل بيل ، إذا هل هو التشابك القصصي المذهل والمثير جداً أعود لأقول مرةً أخرى لا فهذه ميزة جاكي براون إذا فما هو السر، السر هو بقدرة تارانتينو على تقديم أكبر قدر ممكن من الدراما والفلسفة العميقة من خلال قصة شديدة البساطة تدور عن ثلاثة أشخاص الأول يريد ترك العمل الإجرامي في حين يصر الأخر على المتابعة أما الثالث فيدخل بمعترك تلك الحياة الإجرامية، وخلق أكبر قدر ممكن من الواقعية تندر مشاهدتها، وتقديم هذا كله في إطار حوارات رائعة جداً يندر سماع مثلها حوارات تجعلك تعتقد بأنك تقرأ رواية رائعة وماتراه هو ليس سوى تخيلات تقفذ إلى مخيلتك وأنت تتابع قراءتك، حوارات تنوعت بين نوع مليء بالمعاني والحكم وأخر فارغ لا علاقة له بالقصة ولكنك مع ذلك لن تستطيع سوى أن تضحك من أعماقك على الكوميديا السوداء التي تتناولها، أجمل ما في تلك الحوارات هي اللغة الشعبية التي تتحدث بها الشخصيات لغة شعبية صرفة بكل ما فيها من تعابير سوقية وألفاظ بذيئة بعيدة كل البعد عن الحوارات الفلسفية التي سمعناها بأفلام شهيرة أخرى، وجعل هذه الحوارات تصاغ باللهجة متحاذقة خبيثة ساخرة مرحة، أكثر ما يمتع بهذه الحوارات هي أنها تجعل الشخصيات تقع بموقف قد يقع فيه العديد منا فتخطر على بالنا عبارات أو تعليقات ولكننا لا نقولها من باب الكياسة واللياقة والأدب بالحديث هذه العناصر كانت منعدمة عند الشخصيات فكل ما يخطر ببالهم يقولونه مهما كان سيئاً أو قليل الأدب، حوارات فلم لب الخيال هي بلا أي شك من أهم حوارات الأفلام على الإطلاق هي مليئة بعشرات الجمل الرائعة والمضحكة والعميقة بنفس الوقت وقد دخل العديد منها في قاموس المصطلحات الأمريكية.

الحوارات الفارغة التي سمعناها بالعمل والتي لم يكن لها أي تأثير على أحداث القصة لم تكن عبئاً عن العمل بل كانت سبيلاً في أن تعطيه منحاً أخ من الروحة وهي روح الواقعية، ومن بي كل المقاطع الحوارية الرائعة التي بالعمل كان أروع مقطع بنظري هو الذي يدور بين فينسيت فيغا ومايا والاس في المطعم ، الحوار بينهما لا يدخل في صلب القصة لكن وقاعيتها تجعله أجمل المقاطع الحوارية بالعمل حيث يتحدثان عن السينما عن الموسيقى عن المطاعم وعن أسعار المأكولات وطعمها عن شائعة يتداولها الناس وعن الماضي، عن أي شيء يمكن أن يتحدث به شخصان يتعرفان لأول مرة.عمل كلب الخيال ما كان ليكون بهذه الروعة لولا إدارة تارانتينو له، فتارانتينو الذي خط نص العمل هو أمهر من يمكن أن يتعامل معه، شاهدنا جميعنا فيلم قتلة بالفطرة كيف أخرجه أوليفر ستون فرغم الإخراج الرائع له ولكننا لم نشعر بهذه النكهة اللذيذة من المشاهدة كالتي تذوقناها في لب الخيال رغم أن الحوار لا يقل في قتلة بالفطرة روعة عن حوارات لب الخيال ولكن ستون لم يعرف كيف يتعامل بالشكل الصحيح 100% مع العمل فجاء بمستوى ليس مرضياً إلى حد ما ولو أخرجه تارانتينو لكان تحول إلى واحد من أعظم أعمال السينما، وذلك لأن من يكتب نصاً كنصي فيلم قتلة بالفطرة ولب الخيال هو الأقدر على فهمها والتعامل معها وهاهو أقتل بيل لو أن أحداً غير تارانتينو أخرجه لكان أصبح فيلم أكشن عادي وربما فارغ حاله حال المعاقب ولكن إخراج تارانتينو له جعله تحفة سينمائية متكاملة، هذا لا يعني بأن أوليفر ستون قدم عملاً سيءً في قتلة بالفطرة بل هو قدم عمل ممتاز جداً ولكن العمل كان ليكون أفضل لو أن تارانتينو هو الذي أخرجه .




يحمله أيضاً إلى الضحايا أنفسهم فسمعنا أحد اللصوص يقولون : (لن يخاطر أحد بحياته لإنقاذ خزينة مطعم) هذا التسيب وعدم الاكتراث هو الذي يجعل من انتشار الجريمة أمر سهل في حين عندما نرى جويلس واينفلد المجرم يقف بوجه اللصوص ويمنعهم من السرقة نراهم يقسمون على عدم متابعة أعمالهم وتركها بمشهد شديد السخرية يدل على أنه في زمن انعدام الأمن الذي يجبر لإنسان البريء أن يصبح مجرماً ليدافع عن نفسه وعن كرامته كما شاهدنا تحول بوتش من ملاكم إلى مجرم يصبح فيه أيضاً المجرم بطلاً !!!!
ويتابع تارانتينو تحليله لأسباب انتشار الجريمة ويجعل من الإعلام سبباً من أسباب هذا الانتشار، هناك مشهد نرى فيه بوتش الصغير يراقب الرسوم المتحركة البريئة على التلفاز ثم نراه وهو كبير يستيقظ على صوت التلفاز فيرى صديقته تشاهد فيلم عنيف فيسألها (ماذا تشاهدين؟) فترد عليه (فلم حربي مليء بالمطاردات والإنفجارات !) فيعلق على ذلك قائلاً : (أليس الوقت باكراً على هذه الأفلام؟)، ثم نرى بوتش يخرج من بيته وأول ما يقوم به بنهاره هو أن يقتل احدهم بكل برودة أعصاب ، وكأن تارانتينو يقول بهذا المشهد إن من يفتح عينيه على القتل والجريمة منذ الصباح فإن القتل سيكون بالنسبة له أمراً سهلاً وعادياً جداً، على أية حال فإن تارانتينو لم يتبحر بحديثه عن الإعلام تاركاً ذلك لعمل أخر هو قتلة بالفطرة الذي تفنن بوصف أثار الإعلام السيئة جداً على المجتمع .

ومن بين كل فصول الإجرام يهتم تارانتينو بالمخدرات بالدرجة الأولى ففي بداية العمل يتحدث فيغا لواينفلد عن تجارة المخدرات في هولندا وكيف أنه من السهل جداً تعاطي المخدرات هناك والاتجار بها بسبب إنها مشروعة وقانونية فيسأله واينفلد : (هل هي مشروعة بالكامل؟!) فيرد : (لا... ليس بالكامل فأنت لا تستطيع دخول المطعم وأنت تدخن الماريغونا ... ولكنك تستطيع أن تشتريها بسهولة وأن تفتح متجر لبيع الماريغونا وإذا أوقفك شرطي وفتشك وعثر على مخدرات معك فهو لا يستطيع أن يحاسبك على ذلك ...) عندها يتأسف واينفلد على وضعهم حيث أن عملهم بالمخدرات مقيد ومهدد، وبعد هذا المشهد تمر مشاهد أخرى نرى فيها فيغا يشتري المخدرات بكل سهولة من أحد التجار ويتناقش هو وأياه عن مستقبل التجارة وعن العنصر القديم بالمخدرات الذي سيعود ليعيش مجدداً وهو الهيروين، ثم نرى مشاهد تعاطي ميا والاس للمخدرات ببيتها ، ثم نراها تتعاطى المخدرات بالمطعم بشكل عادي جداً وكأن ترانتينو يقول بهذا المشهد بأن انتشار وتعاطي المخدرات في أمريكا هو أسهل بكثير منه في هولندا التي تتعامل مع المخدرات كأنها سغائر عادية، ويستغل تارانتينو الفرصة ليرينا عواقب تعاطي المخدرات بمشهد بسيط جداً وهو مشهد تعاطي ميا والاس للمخدرات ثم مشهد الأزمة القلبية التي أصابتها على أثرها ، فرأيناها تتعاطى بشكل شره جداً وبشكل مثير ثم نرى مشهد إصابتها بالأزمة بشكل شديد القرف، وكأنه يقول بهذا المشهد إن المخدرات منعشة ولذيذة ولكن هذه هي الضريبة !! برأي إن هذا المشهد هو أكثر جدوى من العديد من الأفلام التي تحدثت عن مشكلة المخدرات..

ويتابع تارانتينو تصويره الكوميدي الممتع لمدى بخس سعر الإنسان في المجتمعات الحديثة، راقب كيف يتحدث فينست فيغا بألم عن مجموعة من الشباب الذي خدشوا غطاء سيارته ويصفه بالعمل الجبان الخسيس في حين هو يقتل الناس بالعشرات دون أن يهتز له جفن، أنظر كيف يتشاجر مع جويلس واينفلد بسبب قتله شخص عن طريق الخطأ بسيارته ، هما لم يكونا يتشاجران بسبب قتله للشخص بل بسبب تلويثه لسيارته بدماء ذلك الشخص، ويتابع المشهد لنرى شخصاً أخر خائف من موقف زوجته السوداء حين تجد جثة رجل أسود في بيته وغير مكترث للشخص المقتول كاملاً ولا يقول عنه كلمة، أنظر عندما تعاني ميا والاس من أزمة قلبية وهي مع فينست فيغا فيبدأ ذلك يتحسر على نفسه ويرجو أن لا تموت وهي معه حتى لا ينقم عليه زعيمه، وأهم المشاهد برأي التي تحدثت عن مدى سهولة القتل هو عندما يهرب بوتش بسيارة التكسي بعد أن يقتل منافسه فتسأله سائقة التكسي الكولومبية باللهجة مثيرة جداً ما شعورك وأنت قتلت شخصاً فيقول : (لا أشعر بأي ندم) ولكن بوتش ستتسرب إليه المشاعر بعد أن يقتل ضحيته القادمة حيث نرى شعور اللذة الذي يرتسم على وجهه عندما يقتله ثم عندما يقتل الشرطي زد وأعوانه .

وبمقابل ذلك نرى موضوع الصراع مع الذات وثورة الكرامة الإنسانية، وهذا الموضوع خصص له تارانتينو جانباً مستقلاً من فلمه وهو قصة بوتش الملاكم، تارانتينو يرسم لنا ملامح بوتش شبيهة بملامح شخصية مارلون براندو في على واجه الماء ملاكم كان يمكن أن يكون بطل ولكن حظه العاثر أوصله إلى أن يصبح ملاكم مهارات بيد زعماء العصابات ولكنه يقرر الثورة بالنهاية (هذا اقتباس كلاسيكي أخر)، أول مشهد يظهر به بوتش يكون مطرق الرأس وهناك صوت على خلفية المشهد يؤنب بوتش ويوبخه هذا الصوت هو صوت زعيم العصابة ولكن تارانتينو يرسم لنا المشهد بشكل يجعلك تشعر بأن بوتش هو من يوبخ نفسه على ما وصل إليه، وبنفس المشهد نرى فينست فيغا يدخل إلى البار ويجلس إلى جانب بوتش ثم يوبخه ويذهب بلا سبب عندها ينظر إليه بوتش نظرة ملأها الغضب وتشعر بأنه يتحدث بألم عن نفسه وعن مستوى الاحتقار الذي وصل له لدرجة تجعل الجميع يسخرون منه ولا يستطيع الرد عليهم لمجرد أنهم أعوان السيد، فيما بعد نرى مشهد فيه بوتش الفتى ويأتي ليزوره جندي كان زميل لوالده ويعلمه بنبأ وفاة والده بحرب فيتنام ويقدم له ساعة والده التي ورثها عن جده الذي توفي بالحرب العالمية الثانية وهو الأخر ورثها عن عن والده الذي كسب تلك الساعة خلال الحرب العالمية الأولى ، هنا يتضح مدى صراع الذات في نفس بوتش فهو أبن عائلة بطولية لها تاريخ مشرف ولكن هو الوحيد المحتقر بينها في حين أن أجداده كلهم أبطال ، لهذا فيقرر بوتش الثورة وأن يخوض حربه الخاصة ضد الذل والهوان الذي يعيشه ولكن حربه في سبيل الكرامة يجعله ينحدر إلى دروب تحوله إلى وحش أكثر من أعدائه، ولكن هنا تارانتينو يقدم لنا رسالة مبطنة وهي إن أمريكة دولة نشأت على الحروب وكل أجيالها لهم حربهم الخاصة والمستوى السيئ الذي وصلت إليه والذي يقوم بتصويره لنا تارانتينو هو ليس سوى تركة تلك الحروب وجريرتها.

لعبة القدر هي الفكرة الأهم التي أقام عليها تارانتيو بعمله هذا، حيث إن حكمة عمله تقول مهما كان الإنسان مخطئاً لا بد أن يأتي يوم يتوب فيه عن خطاياه وهناك إشارات تأتيه للتوبة ويتضح ذلك من خلال قصة فيغا وواينفلد حيث لا تسير أحد مهماتها على الوجه الصحيح فيقوم أحد أعدائهما بإطلاق النار عليهما مباشرةً وكان من الممكن له أن يقتلهما ولكن الرصاصات لم تصيبهما بشكل غريب جداً ، واينفلد يظن أن هذه إشارة إلهية ويقرر ترك العمل الإجرامي أما فيغا فيعتبره حظاً جيداً ويصر على المتابعة ورغم تكرار التنبيهات له ولكن يتابع عمله الإجرامي حتى يقتل بنفس الطريقة التي كاد أن يقتل بها بالمرة الأولى وكما فعل بالمرة الأولى حيث نظر إلى مكان الإصابة ولم يجد شيئاً ينظر هذه المرة إلى مكان الإصابة ولكنه يجد جرحاً غائراً يقتل على أثره وقبل أن يسلم الروح ينظر نظرة شعرت بأنه كان يقول فيه أنه ما صدق يقوله واينفلد وأنه سيترك العمل الإجرامي ولكن الفرصة فاتته هذه المرة، كم كنت أتمنى أن أرى ماذا جرى باللصوص المقهى بعد أن أوقفهم جاكسون وكاد يقضي عليهم وماذا جرى مايا والاس بعد أن نجت من الأزمة القلبية هل استجابة للنداء الآلهي أم لا .

مشاهدتي الأولى لفلم لب الخيال ليست قديمة جداً فقد جاءت بعد مشاهدتي لجزئي أقتل بيل فشعرت وكأن تارانتينو كان يحلم بصنع أقتل بيل منذ صنعه للب الخيال ، ففي أحد المشاهد تتحدث ميا والاس عن محاولتها دخول التمثيل من خلال مسلسل كانت تريد تقديمه مع صديقاتها حول مجموعة من المقاتلات وكانت هي متخصصة بالسيوف، ثم نرى بوتش يقاتل بسيف ياباني ، بل حتى أن تركيب القصة يذكرنا بأقتل بيل زوجة الزعيم الغيور والقوي ، والمجرمون الذين يريدون الانسحاب وترك الجريمة وآخرون غير سعيدين بواقعهم وثورة انتقامية دموية .
كوينتن تارانتينو وكما هو معروف مخرج يهتم بالتفاصيل، بل إنه يعشق التفاصيل ولا يكتفي فقد بالتركيز على التفاصيل من خلال الحوارات التي تحيط بالشخصيات والأحداث من جميع النواحي لدرجة تجعلك تشعر بأنك تعرفها وتعيشها ، بل هو يهتم بالتفاصيل من خلال الصورة أيضاً لقد رأينا إن كل شخصيات العمل مميزة ومختلفة عن الأخرى جون ترافولتا بشعر أسود طويل ، سامويل جاكسون شعره كثيف وله ذقن ، أوما ثورمان شعرها أسود قصير ، بروس ويليس أبيض وأصلع ، هناك اهتمام بتفاصيل المكان الذي تجري فيه الأحداث فكل بيت مختلف عن الأخر بشكل أو بأخر، تارانتينو يجعل من مكان عمله يرمز إلى أمريكا كاملةً فيرينا المزيج العنصري الأمريكي بشكل فريد من نوعه، فتعرفنا على فينسيت المجرم الأبيض القادم من هولندا وواينفلد المجرم الزنجي اللذان يعملان لدى مارسيلوس والاس الزعيم الأسود المتزوج من ميا البيضاء ذات الملامح اللاتينية ويتمرد عليه بوتش الملاكم الأشقر لذي يهرب مع سائقة تكسي كولومبية مع صديقته البيضاء ذات الأصول الأسيوية ، هو يعامل الكاميرة كأنها مجهر فيقوم بتضيق كادر الكاميرة قدر ما يستطيع ليلقط أصغير التفاصيل الممكنة التي قد لا تبدو مع الصورة المتسعة، وكل هذا يدخل بحرصه على تقديم أدق التفاصيل الممكنة ، ولكي يتابع عمله في تقديم التفاصيل الدقيقة نراه يجعل الأحداث تأخذ وقتها بالحدوث هناك تفاصيل كثيرة كان من الممكن لمخرج غيره أن يختصرها لكنه يبقي عليها كاملةً هناك ثلاث مشاهد تثبت ذلك وهي تعلق جميعها ميا والاس عندما تتعاطى المخدرات ثم عندما تصاب بالأزمة القلبية وأخيراً عندما يتم إنعاشها، هناك اهتمام واضح بتفاصيل تلك المشاهد لدرجة لا تصدق ، واهتمام تارانتينو بالتفاصيل يدخل ضمن اهتمامه بالواقعية المفرطة التي يريدها والتي أظهرها بالحوارات كما ذكرت سابقاً، واقعية تارانتينو هي ليست واقعية توثيقية كواقعية الأخوين كوهين في فارغو حيث قدما عملهما المذكور وكأنه أحد حلقات تلفزيون الواقع، وليست واقعية افتراضية كواقعية جورج لوكاس في حرب النجوم وبيتر جاكسون في سيد الخواتم حيث افترضا وجود عالم خيالي وصنعا كل عناصره وتفاصيله بصورة شديدة الكمال، واقعية تارانتينو هي خليط بين هاتين الواقعيتين ، فأنا لا أتصور وجود مثل هذا المجتمع الإجرامي الذي صنعه بفلمه هذا بهذا الشكل الذي شاهدناه ولكن بالمقابل فإن باقي الأحداث كلها واقعية وقد تحدث لكل منا، تارانتينو راح يدخل بواقعية شديدة بتفاصيل حياة الشخصيات حتى المحرجة منها، لقد شاهدنا مشاهد كانت لتعد مبتذلة لدى بعض المخرجين ولكنها بهذا الفلم هي دليل على مدى واقعية العمل، وطبعاً كانت الحوارات هي المساعدة لصنع هذه الواقعية ، هناك مشهدان أشعر بأنهما حوا على قمة الواقعية الأول هو مشهد اجتماع ميا والاس وفينست فيغا بالمطعم وكان الحوار هو الفضل بهذه الواقعية، المشهد الثاني هو مشهد مواجهة بوتش والزعيم مارسيليوس والاس بالشارع وكانت الصورة هي الفضل بتلك الواقعية حيث تصطدم سيارة بوتش بالزعيم ثم تتابع لتصطدم بسيارة أخرى وترتطم بأحد الجدران وبعد دقائق من الإغماء ينهض العدوان ليواجها بعضهما، لو كنا بأحد أفلام الأكشن لكان البطلان قفزا وركضا وإطلاق النار بلا رحمة ولكن بهذا المشهد شاهدنا ويليس يجري وهو يعرج بسبب الإصابة والزعيم يلاحقه وهو يعرج أيضاً وعندما يطلق النار لا يصيب ويقع من شدة ارتداد الرصاصة وذلك بسبب أنه مضعضع من هذا الحادث الذي أصابه .

لكي يتقرب تارانتينو من الواقعية انتهج نهج اثنان من المخرجان الكبار مارتن سكورسيزي وفرانسيس فورد كوبولا حيث راح يتجنب التقطيع بأفلامه ويستعمل أسلوب اللقطة الواحدة والكاميرا المحمولة ، وكان هذا تحدياً للممثلين حيث كان عليهم أن يبقوا محافظين على اندماجهم بالمشهد ومسايرتهم للحوار رغم أن هناك مشاهد كانت طويلة جداً ولم تقطع وكانت هذه الطريقة لها الفضل بخلق الحيوية بالمشهد وبجعل الحوار يستمر تدفقاً الحماس والقوة ، ولكن انتهاج تارانتينو لهذا الأسلوب لم يكن يعني انتسابه للمدرسة التي أظهرت هذا الأسلوب وهي المدرسة الواقعية الفرنسية بالإخراج ، بل أنه راح يتنقل بين هذه المدرسة والمدرسة الكلاسيكية القديمة فتارة ً يصور بالشوارع وبين الناس العاديين وتارةً يحصر أماكن تصويره في الإستديوهات بين الكومبارس والممثلين وهذا صنع مزيج رائع بالعمل زاد على جماله جمال، ولكن الذي كان السبب بروعة الفلم الكبرى – طبعاً بعد الحوارات – هي الموسيقى الرائعة التي قدمها والتي هي وكما ذكرت بالبداية مزيح من جميع أنواع الموسيقى الموجودة والتي كان تارانتينو رائعاً باستخدامها وماهراً جداً بذلك ولعل أبرز المشاهد التي أظهرت روعة استخدام تارانتينو للموسيقى هو مشهد دخول ميا والاس إلى حمامات المطعم بعد أن أوقعت بقلب فيغا، حيث تبطأ حركة الكاميرا ويعلو صوت موسيقى الروك في حين تنتقل الكاميرا لنرى المشهد الشهير حين ترتفع تنورة مارلين مونرو – طبعاً مارلين مونرو لم تكن بالمشهد وإنما نادلة تشبهها - لتعود الكاميرا بعدها لترى فيغا وقد وقع بحب ميا، تارانتينو قدم عملاً فنياً متكاملاً بلا أي شك هو نال ترشيحاً لأوسكار أفضل مخرج وفلم ولكنه خسرها لصالح روبيرت زيميكس عن فورست غومب، عندما علمت بأن تارانتينو ترشح للأوسكار ولم ينله عن هذا الفلم حزنت جداً ولكن عندما علمت بأن زيميكس وفورست غومب هما الفائزان شعرت بالغبطة ففورست غومب عمل يستحق الأوسكار وتارانتينو نال جائزة عن فلمه أهم من الأوسكار وهي جائزة مهرجان كان الذهبية .

طاقم فيلم تارانتينو كان غريباً جداً وتوزيعه الأدوار ورسمها كان أغرب، ستلاحظ بأن كل أبطال الفلم سبق لهم أن أدوا نفس الأدوار ولكن هذه المرة ستكون أدوارهم مختلفة ، فجون ترافولتا قبل هذا العمل كان نجم الأدوار الرومانسية وهو بقي كذلك في فلمه هذا ولكنه هذا المرة بقالب عنيف شرس، سامويل جاكسون قبل هذا الدور كانت أغلب أدواره في التلفزيون والسينما دور القاتل المأجور وتابع كذلك في ذلك الفلم ولكن بقالب أكثر إنسانية، أوما ثورمان أهم أدوارها قبل هذا الفلم تدور فتاة غاوية وتابعت كذلك بهذا العمل ولكن بطابع مختلف وأكثر عمقاً، بروس ويليس كان معروف بصورة البطل الأمريكي في موت قاسي أو الأدوار الكوميدية الخفيفة الظل وكانت شخصيته بهذا العمل مدموجة بين هاذين الشخصيتين . دور البطولة الذكورية (فينست فيغا) اسند إلى جون ترافولتا، وعندما أعلن ترافولتا للاستديو اختياره لترافولتا للدور المذكور استهجنوا هذا الاختيار، فترافولتا كان حتى ذلك الوقت معروفاً بصورة الفتى الرومانسي المرح التي التصقت منذ أفلامه الموسيقية الأولى الشهيرة في السبعينات كـ Greaseو Saturday Night Feverالذي أكسبه ترشيحه الأول للأوسكار ، ولكن تارانتينو أصر على ترافولتا بشكل يذكرنا إصرار كوبولا على براندو للعرب، وكما كان العراب عودة قوية لبراندو بعد سنين الكساد في الستينات كان لب الخيال عودة قوية لترافولتا بعد سنين الكساد في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات ، شخصية فنسيت فيغا ليست بالشخصية البسيطة كما قد تظهر للوهلة الأولى فهي شخصية قاتل شرس بوجه طفولي ، شخصية تظهر القوة ولكنها تخفي الضعف، شخصية اتكالية لا تعرف كيف تدير أمورها فتقع بالعديد من الأخطاء، شخصية ضائعة تبحث عن الاستقرار المهني والعاطفي، الاستقرار المهني عثر عليه بعمله بين المجرمين أما الاستقرار العاطفي فقد كان قريباً جداً منه عندما تعرف على ميا والاس ، ترافولتا قدم أفضل دور له من خلال هذه الشخصية هناك مشهدان تميز بهما أكثر من غيرهما الأول عندما ينجو مع واينفلد من الموت فيبدأ الأخير يحدثه عن معجزة إلهية ، فيقول له ترافولتا هذه مجرد صدفة ثم يعلمه واينفلد بقراره أنه سيترك العمل الإجرامي وعليه أن يفعل مثله ، راقب الملامح التي ترتسم على وجه ترافولتا عندما يعلمه واينفلد قراره ولاحظ كيف تغيرت لهجة كلامه وكيف ارتعد وارتعب فهو لا يتخيل نفسه يعيش حياة غير التي يعيشها لأنه لا يعرف غيرها، فهذه الحياة أفضل له من أن يعيش مشرداً بلا عمل ومال ومأوى وبلا سطوة وكيف يتعرض لسطو من لص دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه ، إن ترافولتا أو فينست فيغا بعمله هذا يحظى بكل الامتيازات البسيطة التي يسعى إليها الإنسان الطبيعي، لماذا؟! لأنه يحمل المسدس وفي مجتمع كالمجتمع الذي شاهدناه في لب الخيال من يحمل المسدس هو الذي يربح أو كما يقول المثل العربي : إن لم تكن ذئباً أكلت الذئاب .المشهد الثاني الذي أبدع فيه ترافولتا هو المشهد عندما يحدث نفسه أمام المرآة حول تطوير علاقته مع ميا والاس أو الانسحاب خوفاً من زوجها الزعيم ، هذا المشهد كان رائعاً بتصويره لمدى الضياع الذي يعيشه فيغا ، ترافولتا استحق الترشيح للأوسكار عن الدور ولكنه طبعاً لم يكن يستحق الجائزة بوجود المبدع توم هانكس في فورست غومب، على أية حال كان للب الخيال الفضل ليطلق ترافولتا مجدداً في مجموعة من أدوار الشر في أفلام الأكشن أبرزها كان مع المخرج الصيني جون وو وهي السهم المكسور و تبديل الوجه وقد جلب كلا الفلمان أرباح طائلة ساهمت بإبقاء ترافولتا على قمة النجومية الشعبية.سامويل جاكسون أدى بالعمل الدور الثانوي الأول فيه وهو دور جويلس واينفلد وهي شخصية مناقضة لشخصية فينست فيغا ، فهو شخص ذو ملامح همجية ولكنه مع ذلك يملك طيبة قلب كبيرة ، على ما يبدو فإن واينفلد لم يدخل مسرح الجريمة كما دخله فيغا من أجل العثور على القوة هو على الأغلب دخله لأنه لم يكن أمامه حلاً أخر، أتوقع بأن قصة دخول واينفلد إلى عالم الإجرام يشبه قصة دخول بوتش إلى نفس ذلك العالم لذلك فنره دائماً عصبي يطيل الصراخ والشتم و الاستهزاء لينفس عن غضبه الداخلي من نفسه بالأخص إنه - وكما يبدو خلال العمل- قد حظي بتربية دينية في صغره، لذلك فأول ما تأتيه فرصة لترك الجريمة لم يوفرها، راقب كيف تتغير طباعه ونبرة صوته هو الأخر عندما يتخذ هذا القرار الهام، راقبه عندما يلقي عبارات الأنجيل في المرة الأولى عندما يقرر تصفية ضحاياه وفي المرة الثانية عندما يقرر العفو عن لصان هناك تغير واضح جداً بلهجته ، سامويل جاكسون قدم أبداع حقيقي بالدور أداء متمكن واثق بلا ثغرات ، كان يستحق برأي جائزة الأوسكار عن ذلك الدور ولكنه خسرها لصالح مارتن لاندو عن أد وود، لا أعرف ماذا أقول هل كان ذاك يستحق الجائزة أم لا فأنا لم أشاهد الفلم المذكور بعد، ورغم ذلك فأني أقول بأن هذا الدور هو من أهم أدوار جاكسون على الإطلاق، فجاكسون الذي بدأ حياته كممثل في المسرح ثم أنتقل إلى التلفزيون والسينما بادوار ثانوية عدة (أغلبها كان أدوار القتلة المأجورين كهذا الفلم) ثم كانت انطلاقته الحقيقية بفلم سبايك لي (حمى الغابة) عام 1991 الذي أكسبه جائزة أفضل ممثل ثانوي في مهرجان كان كمدمن مخدرات مستفيداً من تجربته الخاصة بهذا المجال ثم جاء هذا العمل الذي حقق لجاكسون نجومية واسعة في الداخل الأمريكي وأوصله للقيام بالعديد من الأدوار الهامة ويدخل اسمه ضمن العديد من الأفلام الناجحة تجارياً بما فيها حرب النجوم السلسلة الجديدة ، ولكن مع ذلك فإنه لم يقدم أي شخصية قادرة على منازعة قوة خصيته في لب الخيال سوى شخصية تاجر الأسلحة في فيلم جاكي براون الذي أخرجه تارانتينو أيضاً والذي اعتبره أهم دور حظي به.

إذا كان لب الخيال يشكل عودة قوية لترافولتا ومرحلة انتشار حقيقية لجاكسون فقد كان أيضاً بداية قوية لأوما ثورمان التي ظهرت بهذا بدور ميا والاس زوجة زعيم العصابة مارسيلوس والاس ومدمنة المخدرات الغاوية، من الواضح بأن تارانتينو كان ينوي صنع من ثورمان نجمة في فلمه هذا، حيث وضع صورتها لوحدها على بوستر الفلم الأساسي ومهد لظهورها بالعمل بطريقة شديدة الذكاء ، ففي البداية يكون الحديث كله حولها قبل أن يذهب فيغا لتعرف عليها، ففي البداية نرى خطها مكتوب على ورقة ثم نسمع صوتها وتنتقل الكاميرا بين شفتيها وعينيها ، ثم نرى أقدامها وهي تمشي ولا نراها كاملةً إلا في المطعم، وكما جعل تارانتينو لثورمان دخول أسطوري فأن ثورمان كانت على حجم التوقعات أدائها رغم قصر ظهوره إلا أنه قوي جداً وتستحوذ على جميع المشاهد التي تظهر، مشاهد تعاطيها المخدرات تجعلك تشعر بأنها مدمنة مخدرات حقيقية ، وكانت كذلك قوية بالمشاهد الأخرى ففي المشاهد التي ترقص بها وتضحك وتتكلم تشعر بأنها ليست متزنة كثيراً حيث تشعر بها تهتز وتتمايل من إثر تعاطي المخدرات، ثورمان لم تظهر بمظاهر إباحية على الإطلاق بالعمل ولكنها مع ذلك كانت قادرة على الإغراء النفسي والذهني بطريقتها بالكلام ولهجته الفريدة من نوعها التي نسجتها بأسلوب مثير ومقزز بنفس الوقت، ورغم ذلك ستشعر بأن ميا والاس فتاة بشديدة البراءة هي لا تحمل الخبث على الإطلاق رغم أنها تتظاهر به هي ما زالت مراهقة رغم كبرها ومراهقتها وبراءتها وعدم قدرتها على الحكم على الأمور هو الذي جعلها تنحدر بهذه الدروب بالأخص بعد أن تحطمت أحلامها بأن تصبح ممثلة ، ثورمان قدمت أداء بغاية القوى ترشحت عنه للأوسكار كأفضل ممثل مساعدة وكانت تستحقه عن جدارة ولكنها خسرتها لصالح ديانا ويست عن Bullets Over Broadway ، أوما ثورمان بعد هذا الدور تابعت تقديم الأدوار الجميلة أبرزها دورها في غاثيكا مع زوجها السابق إيثان هوك و طبعاً دورها الثاني والرائع جداً في أخر روائع كوينتن تارانتينو أقتل بيل .

بالنسبة لبروس ويليس فإن الدور الذي أداه دور الملاكم بوتش فهو لا يعد عودة ولا بداية ولا مرحلة انتشار بل هو مرحلة تحول له من أدوار الأكشن والكوميدية الفارغة إلى ساحة الأدوار الدرامية، شخصية بوتش هي الخصية الوحيدة بالعمل التي نتعرف على ماضيها بشكل واسع وهي أكثر شخصية تمر بتحولات نفسية ، من الذل إلى الثورة إلى القتل حيث يصبح أكثر وحشية من أعدائه وكل هذا بقالب كوميدي جميل وراقي جداً ، بهذا الدور حقق ويليس جميع أحلامه فقدم نفسه كبطل أمريكي وكوميدي ولكن هذه المرة محترم بدرجة كبيرة من النقاد أكثر من أفلامه السابقة يبدو أن ويليس كان يشعر بأهمية فلمه هذا فقاتل حتى يحظى بالدور لدرجة أنه شارك بالعمل دون أجر حتى !!! شخصية البطل الأمريكي التي يظهر بها ويليس بدور بطل أمريكي ولكن بوجه جديد هو بطل كروكي بالبوا ملاكم فقير شعبي يقرر أن يأخذ فرصته بأن يصبح شخصاً محترماً ولكنه يأخذها بأسلوب رامبو (هذا هو اقتباس كلاسيكي أخر!!) ومتدرجاً بكل خطوات أفلام الأكشن فيهرب من مطاردة ويقضي على خصومه ثم يقع في الأسر ولكنه يهرب ويعود لينتقم ويفرض كلمته على الجميع، ولكن هذه الخطوات التي سارها بوتش بفلمه لم تأخذ فيلماً كاملاً ككل أفلام الأكشن أخذت فقط أقل من ساعة لنتعرف على الأحداث ولم تكن أحداث خيالية كحالة أفلام الأكشن التي نعرفها بل بأحداث شديدة الواقعية ، أداء ويليس كان جميلاً جداً ربما لم يكن بقوة بقية ممثلي الفلم ولكنه كان ممتاز ليبرز منه ويليس موهبته التي أظهرها بعد ذلك بصورة أكبر بعدة أفلام رائعة أخرى 12 قرد و الحاسة السادسة و مدينة الخطيئة .

كوينتن تارانتينو ظهر بهذا العمل بدور قصير بدور الزوج الخانع لزوجته الزنجية ولكنه كان جيداً وكذلك كان تيم روث بدور تاجر المخدرات رينغو وفيغ رهامس بدور زعيم العصابة مارسيلوس والاس هارفي كيتل بدور ذا ولف منقذ المجرمين من المآزق.

بقي لي أن أقول بأن لب الخيال لا يشكل فقط عمل سينمائي ضخم، هو حلم مخرج يتحقق ، هو طموح أي مخرج شاب ، أن يكون عمله الثاني يحتوي على جميع أفكاره ومعتقداته وضعيف الميزانية ولكنه ينجح بأن يحقق هذا النجاح الضخم جداً جوائز من أرفع المجالات وأرباح طائلة وسمعة عطرة جداً لدى النقاد .
في لب الخيال لم يقدم تارانتينو مجرد عملاً فلسفياً قصصياً متكاملاً بل قدم أيضاً عملاً فنياً متكاملاً إخراج ممتاز جداً وممثلين غريبين باختيارهم رائعين بأدائهم بالإضافة إلى حوارات رائعة وتقطيع وتركيب مذهل وغريب زاد على روعة الفلم روعة حيث يبدأ الفلم في منتصف القصة وينتهي بالمنتصف ويعود في النهاية ليبدأ من جديد حيث تكتشف وجود حلقة مفقودة لم تشعر بفقدها إلا بعد أن عثرت عليها حيث أن تارانتينو لم يكن يريد أن يشغل المشاهد بالربط بين الأحداث بقدر ما كان يريده أن يركز على الحوارات التي يقدمها عمله هذا وعلى الاقتباسات الكلاسيكية العديدة التي يشملها بالعمل ، فتارانتينو كما هو معروف سينمائي يعشق الاقتباسات ، يقتبس من هنا وهناك دون أن يقلد تقليداً فاشلاً ، رأيناه يقتبس من أفلام الستينات الكلاسيكية الرومانسية والموسيقية وأفلام الوسترن وأفلام رعب السبعينات وأفلام أكشن الثمانينات وأفلام الساموراي اليابانية وأفلام الرسوم المتحركة بل حتى أنه يقتبس من نفسه حيث أقتبس ملابس المجرمين من فلمه الأول كلاب الخزان، ولا تتوقف اقتباساته عند الأفلام بل تتابع لتشمل موسيقى تلك الحقبة فسمعنا مقاطع من موسيقى الروك أند رول والجاز والبلوز والموسيقى الريفية (موسيقى الوسترن) ، هذه الاقتباسات تبرز بقوة عندما يذهب فينسيت فيغا وميا والاس إلى العشاء حيث يذهبان إلى مطعم يقدم موسيقى ألفيس برسيلي المقاعد فيه على شكل سيارات مكشوفة من الستينات ، النادلات فيه على شكل الممثلات الكلاسيكيات مارلين مونرو وغيرها، وفتيان المطعم يشبهون أقزام فيلم ويلي ونكا ومصنع الشوكولا النسخة الكلاسيكية، ويبدأ الحديث بينهما عن فيلم منزل الشمع وهو فيلم الرعب الشهير الذي عرض في السبعينات وأعيد صنعه بطريقة مشوهة في العام الماضي ثم يرقصان رقصة تعود إلى عهد الستينات بطريقة سيئة جداً ورغم ذلك فهذه الرقصة هي أجمل رقصة بتاريخ السينما، وتستمر الاقتباسات بالعمل بشكل ساخر جداً فمشهد قيادة فينست فيغا لسيارته يذكرنا بمشهد قيادة نجوم السينما الكلاسيكية لسياراتهم مشهد ركوب بوتش لدراجته النارية يذكرنا بمشهد ركوب أرنولد شوارزنيغر لدراجته النارية في فيلم المبيد، والمشهد الأخير عندما يخرج فينست فيغا وجويلس واينفلد من المقهى بشكل يذكرنا بمشهد خروج بطال الوسترن من المقاهي بعد إنجازهم مهماتهم، المشهد عندما يصاب فينست فيغا بطلقة نارية فينظر الأخير إلى جرحه ثم يسقط مشهد له عدة دلالات فلسفية سأناقشها لاحقاً ولكنه مع ذلك كان مقتبساً من مشهد نراه كثيراً في توم وجيري و باغز باني وغيرهم من روائع مسلسلات الرسوم المتحركة، وكذلك مشهد انقضاض بوتش على الشرطي زد وشريكه ، حيث يتخلص بالبداية من الحارس الذي يحرسه والذي يشبه شخصية جيسون المرعبة من فيلم الجمعة 13 بأسلوب يشبه هروب رامبو من الأسر ويتجه إلى مخزن الأسلحة حيث يكون أمامه عدة احتمالات بين المنشار الكهربائي ودلالة على فيلم الرعب الكلاسيكي منشار تكساس، وبين البندقية الآلية دلالة على بندقية أرنولد شوارزنيغر من المبيد فيختار بالنهاية السيف الياباني للهجوم وهو دلالة على أفلام الساموراي اليابانية .في لب الخيال يقدم تارانتينو مجتمع العصابات بطريقة لم يقدمها قبله سكورسيزي وكوبولا ودي بالما ، هو يصورهم كمجتمع منظم على رأسه زعيم صلب يعمل تحت يده قتلة شرسين وهناك أيضاً ناس ينظفون وراء القتلة وتجار مخدرات ومقامرين وباعة أسلحة وغير ذلك، تارانتينو لم يجعل مجتمع العصابات منطوي أو معزول بل هو منتشر أشد الانتشار فقد يكون الشخص الذي يجلس معك في المطعم أو في المقهى مجرماً دون أن تميز أنه كذلك، تارانتينو يرينا كيف يتجول زعيم العصابة بالشارع بلا حماية أو مراقبة من رجال الشرطة كأنه إنسان عادي يرينا المجرمين يدخلون إلى المطعم ويرقصون كأي شخصين بريئين كيف يتحدثون بالمقاهي وبصورة عادية عن خطة للسطو وكأنهم يتحدثون عن عمل يديرونه وباللهجة عادية جداً ، بكل بساطة نرى المجرمين يعيشون حياتهم بصورة طبيعية جداً وكأنه لا يوجد شرطة لتردعهم ، لا بل يوجد هناك فقد رأينا عينة من عينات رجال الشرطة هو الشرطي زد الشاذ الذي هو أسوء من المجرمين حتى، لكن تارانتينو لا يحمل الشرطة فقط حمل انتشار الجريمة بل

0 التعليقات:

إرسال تعليق